مقالات وأبحاث

الأزمة وآفاق الحل للقضايا العالقة في الشرق الأوسط

علينا الإدراك والوعي بأن الثقافات المحلية الحقيقية ضرورية في عملية الثورة بقدر الخبز والماء والهواء...

د. وجدان

من خلال تتبع الأحداث المعاشة في المنطقة، بعد التغييرات والثورات التي قامت وتقوم في العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط، يتضح للعيان على أن المنطقة دخلت في مرحلة تاريخية مهمة طال انتظارها لعشرات السنين وبشكل خاص منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الحليف له، ونلاحظ من جراء هذه التغييرات بأن تاريخ المنطقة يكتب من جديد.

مما لا شك فيه أن هذه التغييرات والثورات تؤثر على الموازين العالمية والإقليمية على حد سواء وذلك لما تتمتع بها المنطقة من موقع جيوسياسي ولما لها من وزن وثقل على المستوى العالمي. وعلينا التنويه بأنه قد تكون عملية التغيير في بعض الدول لا تسبب التأثير المتوقع، ولكنها تلعب في بعضها الآخر دوراً حساساً في المعادلات والموازيين الدولية والإقليمية، وأي تغيير فيها قد يسبب خللاً في هذه المعادلات ولذلك فإن عملية التغيير في هذه الدول تدخل فيها احتمالات عديدة للحل.

فعلى الرغم من الانتظار المبكر لسقوط النظام البعثي في سوريا، كمثيلاته في المنطقة، لما كانت تعانيه من فساد الإدارة والرشوة المستفحلة في كافة أجهزة الدولة وكذلك الأزمة الخانقة التي كانت وما تزال تعيشها من النواحي القومية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلا أن التوقعات لم تحدث وهذا ليس نابع من قوة النظام وتماسكه بالدرجة الأولى وإنما سببه سياسة المحاور تلك الموجودة في العالم والمنطقة فعند النظر إلى مواقف الدول الأوربية وأمريكا، وعلى الرغم من تحفظاتها من سلوك المعارضة المسلحة منها والسياسية ودعمها المتكرر سياسياً وعسكرياً لهذه المعارضة من جهة، ووجود القضية الكردية ودخولها بشكل فعال في أجندة الأحداث، وكذلك خوفها من مصالح إسرائيل فإنها إلى الآن لم تحسم موقفها النهائي من الصراع في سوريا.

لذا، فإنه يتوجب البحث عن الحلول للقضايا المتفاقمة التي تعيشها معظم دول المنطقة وفي مقدمتها سوريا وفق محاسبة إيديولوجية تجاه التراكمات القوموية والدينيوية والعلموية وحتى الجنسوية وتوجيه النشاط والعمل نحو تجذير مفهوم المجتمع الديمقراطي التعددي غير المستند إلى الدولة، لأن المجتمعات الشرق أوسطية قادرة على تجديد ذاتها بالاعتماد على قواها الذاتية، وهي أيضاً غنية بالثقافات والاثنيات والتنوع والتي تعيش بشكل مشترك بجميع مكوناتها تلك. وإذا كان من الواجب القيام بثورة فعلية أو الوصول بالثورات الحالية إلى بناء المجتمع الديمقراطي في الشرق الأوسط فإنه من الواجب علينا الإدراك والوعي بناءً عليه أن الثقافات المحلية الحقيقية ضرورية في عملية الثورة بقدر الخبز والماء والهواء. وكذلك علينا الانتباه والاستيعاب بأنه إذا كنا نريد الخلاص من المجتمع والفرد الملتف حول ثقافة الدولة القوموية التي تجذب كالمغناطيس، فإن ذلك يكون من أولى المهام التي ينبغي النجاح فيها، لأن التقليد المتبع من جانب السلطة والدولة القوموية يشكل العائق الأهم على درب بناء وزرع الثقافة الديمقراطية.

لذا يجب أن يكون شعارنا الرئيسي الذي نتمسك به كالتالي: ما من نشاط اجتماعي وثوري أثمن وأكبر رغبة من نشاطات بناء المجتمع الديمقراطي في عموم الشرق الأوسط وبشكل خاص في سوريا لما تتمتع بتنوع أثني وثقافي ومذهبي وغنىٍ حضاري.

بناءً على ما تقدم، فإن القيام بصياغة تفسير واقعي لما تعانيه مجتمعات الشرق الأوسط هام جداً. فلن يتم ملاقاة صعوبة تذكر في تشخيص وتثبيت الماهيات الأخلاقية والسياسية والديمقراطية للثورة التي تعيشها الشرق الأوسط، إذ بالمستطاع الإدراك من خلال الأحداث الجارية، أن كافة الإيديولوجيات التقليدية القوموية منها والدينيوية والحداثوية المجربة جعلت من الثورات المنتصرة خلال الفترة القريبة الماضية في العديد من دول المنطقة، شكلية وغير قادرة على إيجاد الحلول لقضايا المجتمع وبالعكس فقد ساهمت في تفاقمها.

وكذلك فإن انتظار التحول الإصلاحي من الدول التي تدور في فلك الحداثة الرأسمالية في الشرق الأوسط والتي تسعى من جانبها إلى إنشاء كياناتها مجدداً دون الخوض في التغيير الجوهري، يبدو أمراً غير متوقع. فقد نجد أن بإمكانها إجراء الإصلاحات ضمن التحالف مع الاتحاد الأوربي بشكل خاص أو حتى مع أمريكا من أجل زر الرماد في العيون، إلا أنه في هذه الحالة فإنه سوف يتجذر باستمرار وضع المنطقة المتأزم والفوضوي، والواقع اليومي القائم في كل من تونس وليبيا ومصر والعراق والعديد من دول المنطقة يؤكد صحة هذا الحكم.

ونتيجة لهذه الأسباب فإن تجاوز النظام الحداثوي الرأسمالي في المنطقة يعدُ شرطاً لا بد منه لأجل القيام بالإصلاحات وحتى الثورات. فلا الجريان التاريخي للشرق الأوسط ولا شروطه الاجتماعية المرحلية مساعدة لأجل إنجاز إصلاحات للأنظمة في المنطقة على غرار الاتحاد الأوربي وبقية دول العالم. ولذلك فالبحث عن سبل وطرق جديدة للحل يتأتى من هذا الواقع. فلا الإسلام الراديكالي ولا الجمهوريات وبحوث الجماعات لا هم لهم – نظرياً وعملياً- بتجاوز الحداثة والنظام الرأسمالي، فالحد الأقصى من برنامجهم يتمثل في حداثة رأسمالية ذات طلاء إسلامي على غرار الموجود في تركيا بريادة " AKP". أي أن الصيرورة صوب السلفية الإسلامية لا هم لها سوى الاستيلاء على السلطة والمجتمع بالتأسيس على ذلك. وما عجز العلمانيون عن النجاح التام فيما رغبوا القيام بهم عبر القوموية التي هي دينهم الدنيوي فإن السلفيون يجهدون لإكماله بالقناع الإسلامي. أي أن جوهرهم واحد آلا وهو السلطة والركض وراء الحداثة الرأسمالية.

إذاً، والحال هذه، فتطوير العصرانية الديمقراطية في الشرق الأوسط يتمتع بأهمية قصوى، ويتصدر لائحة الاحتمالات من أجل الخروج من الوضع المتأزم والفوضى التي تعيشها المنطقة وبشكل خاص الطريق المسدود الذي آلت إليه الثورة السورية في الوقت الراهن. فإذا ما أُخِذَ بعين الاعتبار الظروف الاجتماعية والتاريخية هنا فإنه يتضاعف من فرص تحقيق هذا الاحتمال.

وبالنظر إلى التطورات الإيجابية التي أفرزتها وأحدثتها ثورة 19 تموز في غرب كردستان فإنه يقوي من احتمالات بناء الإدارة الذاتية الديمقراطية كحل وكذلك فإن نجاح الأسلوب الديمقراطي المستند على العصرانية الديمقراطية كبيرٌ وذلك اعتمادا على الظروف التاريخية والاجتماعية المتداخلة لكاف شعوب المنطقة ومنها الانطلاق لبناء النظام الكونفدرالي الديمقراطي في المنطقة ككل.