مقالات وأبحاث

الظاهرة الكردية .. تعريفٌ صائب

العمل الأساسي والأولي في القضية الكردية هو الوصول إلى تعريفٍ صائب وجسور ومتكامل للقضية...

شيار كوجكري

تعود أغلبية المقاييس، المطالب، المراجع، الأساليب والأهم الذهنية الحاكمة في عموم الشرق الأوسط  إلى القرن العشرين. لذلك ضروري أن تكون ميول وبحوث الحل في الشرق الأوسط طارئة وفوق العادة.  إذ لا يمكن ظهور خارطة حل سليمة بالذهنية والمقاييس الموجودة. لا بد من أن تكون ميول الحل في موضع يجتاز الحداثة الرأسمالية. لا يمكن للبنى المتحولة إلى نسخة من نسخ النظام الحاكم الموجود أو المقلِّدة له إيجاد الحل. مثلما أنه محال حل القضايا بالاستيلاء على الدولة التي هي أم كافة السيئات، فإن النضال بمفهوم الدولة ضد الدولة ليس بحل أيضاً. على العكس من ذلك فإن هذه الذهنية هي أصل العقدة الكأداء في المنطقة. لهذا السبب فإن البحث عن حلٍ للقضايا العالقة في الشرق الأوسط يتطلب قبل كل شيء تغييراً جذرياً في القوالب الذهنية والوجدانية المرسخة والمتشكلة حتى الآن.

حلُ القضايا الاجتماعية هو داخلي؛ ضروريٌ أن يستند الحل على الديناميكيات الداخلية. فالضغوطات والمداخلات الخارجية – كما هو الأمر في مثال العراق-  لا يمكن لها حل القضايا الموجودة. بتغيير الشكل أو الاسم لا يمكن حل القضايا، على النقيض فإن ذلك يصبح سبباً لتعميقها واستفحالها كالغرغرينا، وانتشارها في عموم المنطقة.  لأنه مستحيل حل القضايا الاجتماعية، الطبقية، الأثنية، الدينية،... الخ عبر الضغط و الإكراه. وقد أثبتت صحة هذه الظاهرة في القرن الواحد والعشرين بكل وضوح. الساحة الاجتماعية هي الساحة الأكثر تقبلاً للحقيقة الديالكتيكية القائمة" لا يخلق شيء من العدم، أو لا يمكن إفناء أي شيء موجود". وما الظاهرة التي أثبتتها الحقيقة التاريخية إلى جانب القرن العشرين المار بالانهيارات المجحفة إلا هي هذه الظاهرة بذاتها. المستوى الثقافي، السياسي، والاجتماعي الذي وصلت إليه الإنسانية لا يسمح بإفناء المجموعات الأثنية أو الدينية أو المذهبية الخاضعة للإبادة العرقية بشكل شامل.

كانت هذه الأساليب أساليبُ حل المئة عام الماضية. وما يكمن وراء الجرح الأرمني الذي ما زال ينزف إلى يومنا هذا، إلى جانب معسكرات التجمع النازية، والقضية الفلسطينية هو مثل أساليب الحل هذه. كما أن عصيانات الكرد التسعة والعشرون هي أيضاً تعبيرٌ واضح لهذه الحقيقة.

حطم النضال المسار على مر عصرين السياسة المستندة على إفناء- إنكار الكرد.  طور التغيير الاجتماعي المعاش ضمن مرحلة النضال هذه نظرةً ومفهوماً سياسياً جديداً من كافة النواحي، وأوصل المقاومة لدى الشعب الكردي إلى حالة ثقافة.  تطورت هذه الحقيقة بمناهضة مفهوم وسياسة القرن العشرين بطليعة PKK. لهذا السبب، فإن حل القضايا الموجودة في المنطقة في الوضع الحالي ممكنٌ فقط باجتياز القديم وترسيخ القيم التحررية الديمقراطية.

المقاومة التي أظهرها الشعب الكردي بطليعة PKK هي سعيٌ لحماية وجوده وكرامته ضد الممارسات والسياسات الفاشية والإنكارية المفروضة عليه على مر القرن العشرين. ففشل سياسة الإنكار والإفناء، وتطورُ قبول الواقع الكردي تحقق ضمن هذا الإطار. تأسس فيدرالية الكرد في العراق، وإلقاء إيران - حتى ولو كانت محدودة- لبعض الخطوات الثقافية بخصوص الكرد، إلى جانب التطورات المعاشة في سوريا، وبدء اللقاءات مع القائد آبو على أساس الحل السياسي الديمقراطي في تركيا، كل هذه التطورات، هي تطورات دالة على اجتياز السياسة المستندة على الإنكار والإفناء المفروضة والممارسة على الكرد.

يمكن القول بأن الشعب الكردي هو شعب ديناميكي متطور وقوي في الوضع الحالي. يعتبر الشعب الكردي بتنظيمه المعاصر، ومؤسساته، ومواقفه المنغلقة على الحدود والأبواب الدولتية محرك التغيير والتحرر والدمقرطة الأساس في الشرق الأوسط.

بقيت الجمهورية التركية التي تُعتبر الدولة الأكثر تعنتاً وإنكاراً للقضية الكردية نتيجة النضال المرير المخاض ضدها من قبل الكرد مجبرة على الاعتراف بوجود وهوية الشعب الكردي. هذا وتتجه إيران أيضاً لنفس الاتجاه في مواقفها. أما في العراق فإن جزءاً من الدولة الفيدرالية هي كردستان. وبالنسبة لسورية فيتضح وضوح النهار بأنه لن يرى أي حل ينفي الوجود الكردي الحياة بأي شكل من الأشكال. 

كل هذه التطورات ذات أهمية تاريخية بالنسبة للشعب الكردي. أنها تعبير صامت لاجتياز سياسة الاستعباد والإنكار. إلا أن القضية نفسها لم تحل بعد. فقد استطاع النضال المسار على مدى مئتي عام أن يحقق اجتياز السياسة المستندة على الإنكار والإفناء، ويؤمن قبول الوجود الكردي كشعب. أما بالنسبة لحقوق هذا الشعب ومطالبه ومكانته السياسية فإن القضايا ما زالت تخرج للعيان. والضغوطات والمحظورات القائمة بهذا الشأن مستمرة دون أن تفقد من وطأتها شيئاً.

يتم غض النظر على حقوق الشعب الكردي ومطالبه في تقرير مصيره ومستقبله بذاته، وتطوير مؤسساته على هذا الأساس. يٌراد اختزال حقوقه إلى درجة الحقوق الفردية. وهو ما يوضح الإصرار على عدم الحل. وبتعبير آخر يقال" أنت موجود كفرد، إلا أنك غير موجود كمجتمع". بيد أن التعرف على الهوية الكردية، يفرض أو يشترط معه التعرف على حقوق ومطالب الشعب الكردي.

العديد من القضايا الاجتماعية التي حللتها الإنسانية وبحثت عن حل لها اعتباراً من أواخر القرن العشرين، ذات تاريخ دامي يكاد يجتاز المئتي عام. فقد اتبعت السياسات التعسفية الهادفة إلى الإفناء والإبادة في كل منها. بحيث تضرر منها المظلوم والظالم، المحق والمستبد على السواء. ولكن جميعها رغم المآسي والآلام انتهت بالسلام ووصلت إلى الحل. الحل السلمي هو المكان الذي يصب فيه التاريخ.

انتهاء الظاهرة الكردية بالنتيجة نفسها أمرٌ لا مفر منه.فلا يمكن لأي قوة مهما كانت قدرتها أن توقف سيل ومسار التاريخ هذا. بحيث نرى بأنه يتم تسيير الديالكتيك نفسه في التوجه لحل القضية الكردية. أثبت الكرد نتيجة الآلام والتضحيات الجسام المبذولة على مر مئة عام بأن السياسات القائمة على الإفناء خاطئة ولا يمكن الوصول عن طريقها لأي حل أو نتيجة. على أساسه يقبل الجميع بالوجود الكردي، إلا أنه لا يٌراد التعرف على إرادة وحقوق هذا الوجود الذي تم قبوله. كل شعب موجود بحقوقه. فإن تم تأمين الضمانة العامة والحقوقية لهذه الحقوق، حينها تكسب المكانة والإرادة. أما عدم قبول المكانة والإرادة فيعني الإصرار في اللاحل. أصبح الإصرار على بنية الدولة

- القومية السلطوية وممارساتها الاستبدادية العقيمة والمضرة أمراً لا معنىٍ له.

- العوامل والشروط الدولية ملائمة لأجل الحل.

- تعمقت وتوسعت الديمقراطية كأسلوب ومفهوم أساسي، ووصلت إلى وضع تكون فيه المقام المشترك أو نقطة التقاطع للمجتمعات والدولة. 

- خَلَقَ وعي الهوية واليقظة الاجتماعية المتطورة في المجتمع الكردي أمةً ديمقراطية على أساس ثقافةٍ ديمقراطية قوية. وهو ما يجعل الحاجة إلى تطوير نظام علاقة وعقد اجتماعي جديد ضرورة لا بد منها.

القضية الكردية هي قضية ديمقراطية. دمقرطة المجتمع وتأمين الضمانة الدستورية للديمقراطية هو أهم عمل يجب القيام به لأجل الحل. إلا أن عدم إبراز القضية الكردية ضمن القضايا الديمقراطية والقيام على تهميشها بتقرب عام ومن خلال تقديم هذا المفهوم للأمام لن يخدم الحل أيضاً. الاعتراف بالوجود الكردي شفهياً وعدم تأمين الضمانة الدستورية لحقوقه الثقافية، اللغوية والهوياتية هو شكل آخر من أشكال تحريف طريق الحل.

لم يتضح الحلُ بعد في يومنا الراهن رغم التجارب العديدة المعاشة بشأن القضية الكردية. المناقشات القائمة باسم الحل ما تزال غير كافية. كما أن تليين الحظر القائم في ميادين الإعلام الكردية سواء المرئية أو الكتابية، والتكلم باللغة الكردية لا يحل القضية. تغيير سياسات الإنكار المتعنتة عبر إصلاح جذري شرطٌ لا بد منه. لأن تليين الحظر لا يخدم أو يلبي احتياجات الإصلاح الجذري، بل هو أمرٌ متحقق نتيجة بحوث وميول الترميم.

كما أن اختزال القضية الكردية إلى قضية اقتصادية وتعليلها بنقص التطور، وبالتالي، القيام بالبحث عن الحل في التنمية الاقتصادية ليس حلاً أيضاً. العمل الأساسي والأولي في القضية الكردية هو الوصول إلى تعريفٍ صائب وجسور ومتكامل للقضية. ما يجب فعله هو رفع واجتياز الإبهام والخلط المعاش في العقول بشأن القضية الكردية وحلها.

فالتعرف والاعتراف بوجود الشعب الكردي يمكن فقط بالتعرف والاعتراف بحقوقه المشروعة وتأمين كافة إمكانيات التطور الحر مثل اللغة، الهوية، الثقافة ...الخ. ستكون كافة أشكال المقاومة والنهوض على أساس الدفاع المشروع بالنسبة للكرد مهمة وحق مقدس يحمي مكانته طالما هناك تقربات محرفة للقضية وفارضة للمحظورات والضغوطات.