الكرد هو أقدم من تاريخ التدول. ويمكننا القول بأن الشعب الكردي من أوائل الشعوب المتعرضة لعنف واضطهاد الدولة...
شيار كوجكري
لا مكان للعنف والشدة والضغط في ثقافة الشعب الكردي. دخل وانتشر العنف والشدة ضمن المجتمعية الكردية فيما بعد وأصيبت بها من الخارج. إذ أن القضايا الاجتماعية تبدأ بالظهور مع استثمار النظام الأموي و ظهور سلطة و حاكمية الدولة. وبظهور سلطة الدولة المنشأة على خصب ونهب قيم المجتمع المادية يتم إعاقة تطور المجتمع المعنوي والمادي.
القضية المجتمعية تبدأ مع الدولة التي تعني العنف والضغط المتمأسس. لم يخضع و يقبل أي تجمع كومينالي والذي ندعوه بالمجتمع السياسي والأخلاقي العبودية بسهولة. وقد قاوم ضد الاستعباد حتى الموت. المقاومة ضد العنف والظلم كأقدس حق ووظيفة يشكل أساس حق الدفاع المشروع.
تعرف الكرد على العنف والشدة مع التقاءهم بالدولة والقوى السلطوية المتحكمة بالدولة. فتاريخ الكرد هو أقدم من تاريخ التدول. ويمكننا القول بأن الشعب الكردي من أوائل الشعوب المتعرضة لعنف واضطهاد الدولة. وقد استمر هذا الاشتباك والتضاد مذ ولادة الدولة وحتى يومنا هذا نتيجة خاصية وميزة جغرافية الكرد. ويمكن القول بأن جميع القوى الحاكمة والمتسلطة في التاريخ مارست صراع السلطة على هذه الجغرافية. وشنت هجمات لا تحصى لأجل نهب وخصب ثروات و غنى هذه الجغرافية والاستفادة من موقعها الاستراتيجي.
يستهدف صراع السلطة الممارس على هذه الجغرافية غصب ونهب القيم المادية والمعنوية للشعب الكردي الذي يحيا على هذه الجغرافية. بحيث تفرض سيطرتها وتستولي على منابع الغذاء والأدوات اللازمة لأجل تلبية حاجة استمرار الوجود الاجتماعي عنوةً. لذا يتم ممارسة العنف والاضطهاد، يتم تخريب المجتمع بحيث تصل الحياة إلى وضع لا يمكن فيها أن تعاش.حماية المجتمع ذاته مقابل ذلك الاضطهاد، وخوضه لمعارك طاحنة لأجل ذلك هو من أكثر المواقف إنسانية. فإن لم يقم مجتمع ما بالمقاومة في مثل هذه الأوضاع، ولم يقم بحماية ذاته بكافة الأشكال فهذا يعني بأن ذلك المجتمع قد فقد الكثير من قيمه ووصل لحد الانتهاء.
يمكننا القول بأن الشعب الكردي قد عاش بعض التجارب التي لم تطل كثيراً، إلا أنه مع ذلك لم يقبل الدولة ويتبناها بشكل جدي. فمثلما أنهم لم يقوموا ويطوروا حركات نهب وغصب تجاه الشعوب الأخرى وأراضيهم، فإنهم لم يصبحوا أصحاب مواقف تأخذ من الحكم والحاكمية أساساً. ولكنهم تعرضوا لمثل هذا النوع من الهجمات دائماً. تُعرف الإمبراطورية الأشورية كأكثر وأبرز البنى الحاملة والمتضمنة للعنف والشدة في التاريخ. فقد طبق عنف وشدة أشور على جغرافية كردستان أكثر من أي مكان أخر.
استمرت الإمبريالية المدنية المبتدئة مع سومر والمستمرة على شكل تقليد آشور من مقدونيا حتى إمبراطورية روما، ومنها حتى إمبراطورية إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية في يومنا الراهن بأكثر الأشكال إراقة للدماء. إذ أن أرشيف التاريخ وحافظة الإنسانية مليئة بهذه التسجيلات. أما التاريخ المكتوب فإنه يعمل على تحريف هذه الحقائق لصالح المدنية الدولتية. ويسعى من خلال تهجير وقطع المجتمعات عن جغرافيتها القيام بإخفاء النهب الثقافي والجور الإنساني. ما يفعلونه هو جعل الظلم مالً للمظلومين.
سير التاريخ ليس كما هو مكتوب. المرآة الحقيقية للتاريخ هي الحياة. لا يفنى شيء أبداً، أهم ميزة للنسيج الثقافي هو حمله وحفاظه على التراكم والزخم الثقافي الذي قام بإنشائه ضمن الزمن. إذ أن الظاهرة والأحداث الاجتماعية المعاشة في الراهن تتحقق على أرضية هذه الثقافة وتستند على أساس وبنية هذه الثقافة. فكيفما تتكون الثقافة التاريخية فإنها تعاش بالشكل ذاته في يومنا أيضاً. لا يمكن لأي كلام رسمي أن يغير من هذه الحقيقة.
الخصائص التي أكتسبها الكرد في مرحلة التطور التاريخي ما زالت تديم ذاتها ضمن حياتهم الراهنة. كيفما أنه لا يوجد العنف والشدة في ثقافة الشعب الكردي في بداية التاريخ فإنه لا مكان للعنف والشدة ضمن ثقافة الشعب الكردي في راهننا أيضاً. فالشعب الكردي هو الشعب المتعرض بشكل مكثف للعنف والشدة مذ بداية تاريخ الحضارة الدولتية وحتى يومنا. لقد أخذ حماية وجوده ضد عنف وشدة الدول أساساً لذاته كمجتمع غير متدول أو كمجتمع بلا دولة.
يستند جوهر ثقافة وذهنية الشعب الكردي على المجتمع الطبيعي وحياته التحررية الذي لا يعرف العنف والضغط. لم يهاجم الشعب الكردي أية هوية مجتمعية عاشت معه بشكل متداخل على مر التاريخ. لم يقم بمراجعة أسلوب العنف والشدة أبداً. فقد عاش مع الشعوب الأخرى كالعرب، العجم، والترك... وغيرهم ضمن سلام ووئام. ترجيحه كان دائماً إلى جانب السلام. هذا وتبنى بنية المجتمع المتعدد الثقافات. لم يفرض في علاقاته الصهر الثقافي، ولم يقبل ويخضع لمثل هذه الضغوطات أيضاً.
فإن منبع القضايا الاجتماعية هو ليس وجود الثقافات بل هو السلطويين والحكام الدوليين اللذين يقومون بإنكار هذه الثقافات و تحريفها ونهب وغصب قيمها. فإن لم يتم رؤية هذه الحقيقة لدى تناول الظاهرة الكردية كقضية اجتماعية فإنه لن يتم الوصول إلى النتائج الصائبة.
القيام بحماية وجودك وثقافتك والمقاومة لأجها هو من أكثر المواقف المتطورة ضد العنف الخارجي قداسةً. لا يمكن للعنف الخارجي ترسيخ نفسه وتحقيق ديمومته وتجزئة الديناميكية الاجتماعية في الداخل دون تشكيل زمرة تقوم له بالعمالة في الداخل. لذا، لدى تناولنا لأسباب العنف في كردستان فإن الحقيقة الهامة الأخرى التي يجب رؤيتها أيضاً هي: قيام الدول الاستعمارية لأجل جعل الشدة والاضطهاد المفروض من قبلها مؤثراً ودائمياً بجعل فئة صغيرة من بين الكرد عملاء لها وإشراكهم في استبدادها وجرائمها.
هذا ولم تكتفي الدول الاستعمارية الفاشية بتطبيق العنف على الشعب الكردي فقط، بل إنهم قاموا بتحكيم ونشر وترسيخ العنف في جميع ساحات المجتمع. وأكثر من الدول فإن العنف والاضطهاد الذي كانت تطبقه هذه الفئات العميلة هو ما كان يخل ويفسخ وينخر في بنية المجتمع ويلعب دوراً تخريبياً أكثر. مع العلم بأن استناد هذه الفئات على العنف والشدة جعلهم يصلون إلى وضع لا يستطيعون فيه العيش دون العنف.
لدى السعي لتعريف مكان العنف بشكل صائب في القضية الكردية، علينا رؤية دور هذه الفئات العميلة التي أوصلت بالقضية الكردية إلى وضع متأزم لا يمكن الخروج منه بشكل جيد. تأبى هذه الفئات العميلة المبتعدة والمغتربة من هويتها وثقافتها حل القضية الكردية. إذ أن دور هذه الفئات العميلة في تعميق وتجذير وتحريف القضية الكردية هام للغاية.
فإن رغبة الدولة التي يقوم وكلاء الكرد العاملون ضمن البنى السياسية والأحزاب الاستعمارية على خدمتها بتطوير كردها ( الكرد العميل) لدى نقاش القضية الكردية في راهننا ليست بصدفة. ففي الوقت الذي يقوم الشعب الكردي بالإصرار على الحل السلمي والديمقراطي، فإن هذه الفئة تقوم بتحويل شراكتها المعتمدة أو القادمة من الماضي مع سلطة الدولة إلى سوق لمصالحها وبذلك تلعب دور الحائل والمعيق للحل. أي أنها تبذل كل ما في وسعها لكي تبقى الشدة والحرب سائرة في كردستان. على هذا الأساس فإن وضع هذه الفئة العميلة من الكرد يمثل أهم منبع يغذي العنف ويتغذى منه.
لهذا السبب فإن تعريف القضية الكردية بشكل صائب، وعلى أساسه فإن تطور وتحقق الحل مرتبط بإسقاط أقنعة مثل هذه الفئات والشخصيات العميلة وإظهار أوجهها الحقيقية للعيان.
يتبع...