تسعى دول المنطقة وعلى رأسها الدولة التركية إلى إهدار إمكانيات الشعوب في الصراع مع الشعب الكردي...
بقلم الثوار
تراقب الدول الغربية وحلفاؤها التطورات الحاصلة في المنطقة بكل تفاصيلها وتتحرك متدخلةً فيها وفقاً للآليات التي تؤدي إلى توجيه تلك التطورات نحو المسار المرسوم من قبلها، ليس منذ لحظة حدوث الحراك الشعبي الحالي فحسب وإنما منذ بدايات قرن العشرين، لتؤمن سيطرتها المطلقة على جميع التفاصيل في مفرداتها الجيوسياسية. ذلك لأن تلك الدول تعلم أكثر من غيرها حجم التعقيدات التي تعيشها المنطقة والتشابكات الهائلة في قضاياها التي ظلت عصية على الحلول خلال القرن الماضي، نتيجة الذهنية المتحكمة بطبيعة العلاقات الغربية –الشرقية في مراكز القرار الأوروبية والأمريكية.
وللعلم إن الشرق الأوسط قد خضع لإرادة التوجيهات الغربية، ولم تتمكن قط من النفاذ إلى مواقع كامنة خارج دائرة سيطرتها، بتأثير الفعل التفريقي الممنهج غربياً والمنفذ،غالباً، شرقياً تجاه جميع مكونات المنطقة، حيث أنها قامت بتقسيم المنطقة وفقاً لمصالحها المركزية على أسس تغذية الفكر القومي والديني المتطرفين، واللذان ساهما بصورةٍ واضحة في ترسيخ مفهوم التجزئة وعدم قبول الآخر المختلف ,أثنياً ودينياً، وهذا ما كان ومازال يشكل بيت القصيد لتك القوى.
فإذا كانت الوقائع تشير إلى خضوع جميع شعوب المنطقة لتأثير هذه السياسات الغربية، إلا أن نصيب الشعب الكردي كان الأوفر حظا من تلك السياسات بين شعوب المنطقة، وذلك لكونه قد تعرض لتأثير هذه القوى من خلال مصدرين. فالأول منه يتمثل في الفعل الغربي المباشر المناهض لتقديم الحلول للقضية الكردية والمراهنة على عدم حل قضية هذا الشعب وفقاً لمصالحه، وذلك ضماناً لوجود شماعة الخيط للتدخل في شؤون الدول الحاكمة للجغرافيا الكردستانية. أما المصدر الثاني فيتمثل في الفعل الإقصائي الذي تمارسه حكومات دول المنطقة وكذلك القوى المعارضة لتلك الحكومات، بحق الشعب الكردي في سعي منها لتحقيق ديمومة الفكر القومي الذي دخل مرحلة الاختناق الكاملة أمام التطورات المذهلة التي تشهدها الساحة العالمية على جميع الأصعدة.
منطقياً، النتيجة التي تؤول إليها حالة الاختناق الفكري عبر التاريخ هي إحداث انفجارات فكرية تولد معها وبحركات لولبية منظومات فكرية أكثر تطوراً، ويسري هذا الأمر على مختلف جوانب الحياة. وللتوضيح لم يأت تحييد دور الكنيسة في أوربا في القرن السادس عشر إلا ضمن سياق الاختناق الفكري الذي عاشتها في تلك المرحلة.
الأمر مختلف في الشرق الأوسط، لكونه يسير في غالب الأحيان بعكس التوقعات المنطقية. فالفعل المرافق لحالة الاختناق الفكري الذي تشهده المنطقة بأكملها نتيجة تبنيها لأفكار المدرستين القومية والدينية أدت إلى خلق حالةٍ رجعية بتأثير الفعل المشترك للرجعية التوتاليتارية في المنطقة والقوى الغربية المهيمنة، حيث نجم عن ذلك الفعل المشترك إعادة ترتيب منهجية الاستغلال الممارس بحق الشعوب وإهدار طاقاتها في قضايا تفترض بأنها فقدت دورها المهيمن في الساحة السياسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجع دور الدولة القومية في مرحلة العولمة.
على العموم تسعى دول المنطقة وعلى رأسها الدولة التركية إلى إهدار إمكانيات الشعوب في الصراع مع الشعب الكردي في الأجزاء الأربعة من كردستان، ولا تدخر جهداً لكسب التأييد من قوى رأس المال العالمي. من هنا فإن الأمر الأكثر خطورةً وسوداويةً في الممارسات التركية ضد الشعب الكردي، لا يتمثل في أفعالها على الصعيد الدولي، وإنما يتجسد في توظيفه للطابور الخامس في صفوف الأكراد ذاتهم. ولكونها تمتلك تجربة طويلة في تعاملها مع الأكراد، وتطول قائمة سياساتها الخبيثة في تجييش بعض المرتزقة من أبناء الكرد، حيث يمكننا أن نبدأ بمنظمة النجمة الحمراء وآل بوجاق في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، ومن بعدها مؤسسة حماة القرى وتجنيد بعض أصحاب الذمم الرخيصة في غربي كردستان لاغتيال السيد عبدالله أوجالان، وإرسال المرتزقة إلى صفوف حركة حرية كردستان. لم تحصد تركيا من جميع تلك الأفعال سوى اليأس والبقاء في حالة الاختناق الفكري الذي يتطور عبر الزمن وتتطور معه المشكلات والقضايا التي تعاني منها.
وعلى الرغم من فشلها في كل مساعيها وسياساتها اللاعصرية تجاه الشعب الكردي، لم تتحمل ما يشهده الشعب الكردي في غربي كردستان من بناء وتشييد للمؤسسات الديمقراطية، وبدأت بإعادة التاريخ إلى سبعينيات قرن العشرين، عبر سعيها المستميت لتلطيخ سمعة حركة المجتمع الديمقراطي والمؤسسات المنضوية تحت لوائها باتهامها بالارتباط مع النظام البعثي المتهاوي وتأليب الرأي العام الكردي والعربي ضدها، ولكن لم تجر الرياح بما تشتهي السفن التركية في ربيع الشعوب، حيث أنها يأست من الوقوف في وجه المد الجماهيري للحركة على الرغم من كل أفعالها اللاأخلاقية وبدأت بخلق نجوم حمراء جديدة من مرتزقة لا يفهمون التاريخ ولا يقرؤونه، ولا يدركون معنى المد الجماهيري لحركةٍ ما في الساحة الكردستانية. وقد باشرت تلك الفئات بتطبيق سياساتها الدوغمائية في الساحة الكردستانية، ويبدو أنها تعلم أن تلك السياسات تشكل خطورةً كبيرة في مسار حركة حرية الشعب الكردي أينما كان، لاقتناعها بأن الدوغمائية تؤدي إلى قلب الحقائق والمفاهيم وتظهرها على العكس من الواقع تماماً، كما أنها تؤدي إلى حدوث اختلاطات لا جدوى منها في الحالات النقاشية في القضايا المصيرية، وتساهم في الابتعاد عن جوهر التحليل العلمي للتطورات السياسية في الساحة الكردستانية.
إن الأفعال من هذا النوع تساهم في ترسيخ الواقع المناهض لحركة شعوب المنطقة في الديمقراطية ونيل الحرية، على العكس تماماً من إدعاءات الأنظمة الدوغمائية والمختنقة فكرياً، وتسعى الجهات الممارسة لها إلى تبديد أمال الشعوب في نيل الحقوق والانتقال إلى مصاف الشعوب المتطورة، وتتركها تتراوح في حركة دائرية لا متناهية، تكون كل نقطة نهايةٍ في مسارها البداية نفسها.