بناء الشعب الكردي لموديله الديمقراطي هو حظٌ وبختٌ كبير لأجل ديمقراطية المنطقة عموماً...
شيار كوجكري
يبدأ الوعي الديمقراطي والثقافة الديمقراطية لدى قبول وإدراك بأن المجتمع هو عضوٌ حي يتكون من الفوارق. لا يوجد أي وجود أو وحدة أحادية نمطية ولا تحوي بداخلها أية فوارق، إذ أُثبت بأن الكون الكبير والصغير قد نشأ وتعدد وتعاظم عبر الفوارق. فمن دون وجود ديالكتيك المادة- الطاقة، الجزء- الكل، المحلي- الكوني، لا يمكن التحدث عن الحياة أو الحركة بأي شكل من الأشكال.
يأخذ هذا المبدأ الكوني مكاناً هاماً وحساساً في الطبيعة الاجتماعية. الأحادية أو الوحدة المتكاملة التي لا تتجزأ هو أمرٌ مخصوص بالإله. فإن الإله بصفاته التسعة والتسعون واحدٌ متكامل أبديٌ. هو الخالق والحاكم المطلق للحياة والوجود بأكمله. أرادت الدولة القومية تأليه ذاتها من خلال غصبها لكافة الصفات العائدة للإله. يمكن الإيجاز بأن هذه هي حكاية المئتي العام الأخيرة. القوموية هي دين المئتي العام الأخيرة.
إن ما تم تطويره ضمن المجتمع عبر الهندسة المجتمعية المطبقة هو النمطية وإبادة كافة الفوارق. هذا من جانب ومن الجانب الآخر تم تجزئة وتقسيم الطبيعة المجتمعية وتخريب النسيج الاجتماعي من العمق عبر الليبرالية والفردية الأنانية. لدى قيام المفهوم الأحادي بوضع كل شيء ضمن كفة واحدة وسعيه لحل وتذويب الفوارق وصِهرها، فإن اللامساواة والثغر الناشئ فيما بين الإنسان والطبيعة، الرجل والمرأة، الفقير والغني قد تعاظم إلى حد لا يمكن تصوره. بهذا الشكل أوصلت طبيعتنا ومجتمعيتنا إلى حالة تكون فيه مفتوحة للاستثمار والنهب.
أثارت الحداثة الرأسمالية الدولتية القومية والقوموية و الفاشية في القرن العشرين. فأصبح ذلك سبباً في الحرب العالمية الأولى والثانية، صراعات إقليمية لا تحصى والتناقضات التي لا يعرف إلى الآن كيف ستحل. عاشت مرحلة انهيار كبيرة قتل فيها الملايين من الناس. الإبادة العرقية اليهودية لوحدها كافية على إثبات بأن الحداثة الرأسمالية هي نظام إبادة وغصب ونهب وسلب. وذلك بسبب كون جوهر الحداثة الرأسمالية كان قد ظهر للعيان في ألمانيا.
حضنت الحداثة الرأسمالية التي ظهر وجهها الشنيع للعيان القوموية والدول القومية الاستعمارية والعميلة في الشرق الأوسط بكل كيانها في أواسط القرن العشرين. إذ أن تحويلها لمنطقتنا إلى قبرٍ للشعوب والثقافات هو على أساس القوموية والدولة القومية. الصراع العربي- الإسرائيلي، الحرب القائمة في العراق، القضايا القائمة في الباكستان والأفغانستان، الأزمة المتفاقعة في سوريا، إصرار إيران على الدولتية والاستعمار الكلاسيكي، القضية الكردية في تركيا والقضايا الأثنية والثقافية والدينية المعاشة في منطقتنا كلها نتائجُ هذه الظاهرة التعسفية.
لا يمكن تقييم القضية الكردية ونضالها بشكل صائب إن لم يتم فهم هذه الظواهر. تناول حقيقتها الراهنة بشكل منقطع عن الزمان والمكان هو طراز جعل الشعب الكردي بلا ذاكرة وتاريخ والعمل على تأمين إطاعته. إنكار تاريخ ووطن الشعب الكردي وعده على إنه غير موجود يعني غض النظر عن المقاومة التي يبديها لحماية وجوده الاجتماعي. والهدف هو جعل القضية الكردية غير مدركة. لم يقبل الكرد اعتباراً من بداية القرن وإلى الآن سياسات الإنكار والإبادة المفروضة والممارسة ضده. وناضل في كل فرصة وفي كافة الساحات.
الكرد هم حظ الشرق الأوسط.
اجتياز البراديغما الدولتية تعبر عن مرحلة جديدة في نضال الكرد من أجل الوجود. وعلى أساسه فإن اجتياز دوامة عقم العصيان والضغط والاضطهاد يعتبر ثورةٍ ذهنية كبيرة. و توجه الشعب الكردي نحو فعاليات الإنشاء على أساس مأسسة مجتمعيته هو نتيجة من نتائج الثورة الذهنية هذه.
السياسة الديمقراطية هي ساحة النشاط الأساسية في حل كافة القضايا الاجتماعية، والثقافية، والقومية. نضال ونشاط إنشاء المجتمع الديمقراطي يمثل أساس كافة الفعاليات. منبع وإطار هذا التطور الديالكتيكي هو سوسيولوجية الحرية. لن تساهم هذه الظاهرة في حل القضية الكردية فقط، بل ستقدم في الوقت ذاته مساهمةً وإمكانيةً كبيرة في تطوير العصرنة الديمقراطية في الشرق الأوسط أيضاً.
تأخذ سياستنا الديمقراطية طليعة وحرية المرأة أساساً. وتنظر لها كقوة أساسية لمرحلة الإنشاء الديمقراطية. فهي تؤمن بأنه إن لم تتحقق حرية المرأة لا يمكن تحقق حرية المجتمع والرجل أبداَ. يمكن القول بأن الإدراك والوعي الفلسفي في قضية المرأة قد وصل في راهننا إلى إرادة ذات قوة تنظيمية وعملية عالية. طور نضالنا نضال حرية المرأة قوة دفاع ديمقراطية مؤثرة ضد المفاهيم السلطوية والدولتية والقوموية والجنسوية المتعسفة. ولهذا السبب فإن نهج نضال المرأة الكردية التحرري والديمقراطي وتنظيمها يمثل موديلاً قوياً ليس فقط بالنسبة لنضال الشعب الكردي الديمقراطي بل هو موديلاً قوياً بالنسبة لنضال شعوب المنطقة والعالم الديمقراطي عموماً. نضال المرأة ونهجها هذا هو ما يوجه ويضفي الروح على نشاطاتنا ونضالنا لأجل المجتمع الديمقراطي والسياسة الديمقراطية. نشاط إنشاء الأمة الديمقراطية، وتنظيم ووعي المواطن الحر والمتساوي هو موضوع نضالنا الأولي. إذ أن تكوين وبناء الشعب الكردي لموديله الديمقراطي هو حظٌ وبختٌ كبير لأجل ديمقراطية المنطقة عموماً.
إعاقة سياسة الشعب الكردي الديمقراطية وتنظيمه هي أكبر سيئة تجرى ليس فقط بحق الشعب الكردي بل بحق عموم شعوب المنطقة العربية، والتركية، والفارسية. لأن القضية الكردية هي قضية هذه الشعوب أيضاً. بقدر ما يتطور الحل الديمقراطي السياسي للقضية الكردية فإن التحول الديمقراطي سيتحقق بالقدر نفسه في هذه البلاد أيضاَ. كما وستصل إلى الاستقرار السياسي وستتحرر من كافة القيود أيضاً. توجهت هذه البلاد بعد تأسيسها بفترة إلى إنكار الكرد وذلك بحكم منطق الدولة القومية. كيفما إن مفهومهم ذاك جعلهم استبداديين وسلطويين فإن توجههم نحو حل القضية الكردية بالسبل الديمقراطية والسلمية سيجعلهم ديمقراطيين أيضاً.