مقالات وأبحاث

أصالة اللغة الكردية مخبئٌة في أفواه الأمهات...

منذر عفرين

اللغة كالمحراث كلما أنخرط الأرض أزداد لمعاناً وأكثر براقا وإذا أنحرم من الانخراط الى عمق  الأرض تصدأ و تهترأ. مع مرور الزمن تنصهر، تتفتت إلى جزيئات وتندمج مع التربة، فيما بعد تصبح هذه التربة أرضا صالحةً وخصبةً للزراعة. صحيحٌ أن هذهِ التربة غنية وصالحة للزراعة لأنها تحتوي على مادةِ الحديدِ و غيرها من المواد ولكن لا ننسى إننا خسرنا المِحراث وصاحبها؛ أي إننا خسرنا لغة شعبٍ بأكمله. هكذا ماتت المئات بل ألاف اللغات وأنصهر شعوبها في بوتقة الشعوب الأخرى، لُغاتٌ محت من على مسرح التاريخ تفككت أجزائها، ماتت وأصبحت مادةً تتغذى عليها الشعوب الأخرى.. لغاتٌ أخرى تتنفس أنفاسها الأخيرة، تصارع الموت لأجل البقاء.

اللغة حالها كحال المحراث الذي ذكرناه في بداية حديثنا، أيُّ إذا لم تعمم اللغة في المدارس و كتبت فيها مناهج الدراسية بدءاً من المرحلة الابتدائية مروراً بالإعدادي والثانوي والجامعات فإنها معرض للنسيان والتآكل والصهر. إذا ما استخدمت اللغة في التجارة والمال والسوق وفي جميع ميادين الحياة فأنها لن تتطور. أننا نعيش الآن في القرن الحادي والعشرين عصر التكنولوجيا والإنترنت. يومياً تخترع  أشياء جديدة، نحن ملزمون على إيجاد كلمات جديدة لهذه الأشياء. لذلك يجب مواكبة العصر من جميع النواحي، هناك مقولة تقال: "الحاجة أم الاختراع." النظام التدريسي يلزمنا أن نبدع الكلمات، بدءاً من الدروس الفيزياء والكيمياء والرياضيات والعلوم ...الخ. والأهم من كل ذلك هي ممارسة لغة الأم من قبل الآباء وخاصة الأمهات مع أبنائهم وبناتهم في المنزل والحياة اليومية وتشجيعهم على التحدث بلغتهم الأم اللغة الكردية. التحدث بلغته الأم ضرورياً جداً بالنسبة للطفل في السنوات الأولى من عمره؛ لأن أصالة اللغة الكردية مخبئٌ في أفواه الأمهات. لذا استماع الطفل بأذنيه من أفواه أمهاتهم لهي في غاية الأهمية.

 هنا أريد أن ألفت النظر إلى نقطة هامة في اللغة الكردية، (الكرمانجية)وهي أن هناك خمس حروف في اللغة الكردية ( ç,p,k,t,r ) تصدر صوتين. صوتٍ لين وأخر قاسي هذه الحروفٌ سماعيةٌ، لفظها وإتقانها حصرًا مرتبطٍ بسماعها منذ الصغر. لذا تطرقنا في مجرى حديثنا على أهمية اللغة وتعلمها من الأم نفسها، وخاصة الأم التي تتقن لغتها بشكلها الصحيح. الأمير جلادت بدرخان بصدد هذه الأحرف يقول: " هذه الحروف هي بمثابة فخٍ للأجانب (ليسوا كردا) الذين يدعون بأنهم من الكرد؛ لأنهم مهما أتقنوا اللغة الكردية بشكلها الصحيح سوف يخطئون في هذه الأحرف." حتى الكرد أنفسهم، الكبار بالسن الذين يتعلمون اللغة الكردية أيضاً يخطئون في هذه الحروف. إن لغتنا الكردية غنية جداً، غناها تكمن في لهجاتها، فهي مصدر ثروة كبيرة من ناحية تعدد الكلمات و مفرداتها. إذا ما دققنا في بعض الكلمات لرأينا أن لكلمة واحدة لها خمس إلى سبع مرادفات.

 الشعب الكردي إحدى شعوب القديمة في ميزوبوتاميا. شعبٍ لم يقطع صلاته بأرضه ووطنه التي ورثها عن أبائهم وأجدادهم. عاشوا منذ ألاف السنين على سفوح جبال زاغروس وطوروس. كانت موطنهم دائماً ميدانا للحروب وتصفية الحسابات، لذلك عانوا الكثير من الويلات، دُمر أرضهم؛ شُردوا من ديارهم، التهجير العمد والنفي دائماً كانت من نصيبهم. بقوا بين المطرقة والسندان؛ فيما بين الإمبراطوريات العثمانية والصفوية والفتوحات الإسلامية وغيرهم. رغم كل هذا إلا أن الكرد ظلوا متمسكين بعادات وتقاليدهم، بلغتهم وثقافتهم. الفضل في ذلك أنهم لم يبتعدوا عن المجتمع الطبيعي، هذه الخاصية تلازمهم إلى يومنا هذا.الشعب الكردي شعب مسالم لم يغزوا ولم يحتل أرض أحد،وإن حاربوا فهي لحماية أنفسهم وصون شرفهم وكرامتهم. عاش الكرد حياة طبيعية على الهضاب وجبال كردستان الشاهقة. القصص والأساطير، الملاحم البطولية والأغاني الفلكلورية ( الأدب الشفهي ) التي كانت مصدر إلهامٍ لهم لها الفضل في حماية للغتهم وإيصالها إلى يومنا هذا.

عالم اللغات جوزيف غرينبير joseph Greenberg  (1915-2001) قال بأن هناك ستة آلاف لغة موجودة اليوم في العالم تخفي داخلها عشرات اللغات الحية و الميتة و وجد أن هناك جذور مشتركة بينها. هذه الفرضية يتفق عليها اليوم علماء كثر. اللغات الرسمية المتعرف فيها كلغات دول، تعدادها لا تتجاوز بضع مِئاتٍ. إذاً أين ولماذا أختف كل هذه اللغات؟ هل أنقرض شعوبها نتيجة كوارث طبيعية وماتت اللغات معها؟ أم إنها نتيجة أنانية الإنسان وهيمنة الدول والإمبراطوريات على شعوبها ومجتمعاتها؟                                                                        

لماذا تفرض لغة واحدة وتُهمَّش باقي اللغات الأخرى ولا تعطى لها مكانة ؟ هل الدولة هي التي تعطي الشرعية للشعوب أن تمارس لغتها و ثقافتها؟ هل الدولة شيء لابد منه؟ أليست الدولة بحد ذاته بلاءاً على شعوبها وخنجرٌ مغروز في ظهر مجتمعاتها؟ أسئلة ٌ وغيرها يدور في ذهن الإنسان والإِجابة عليها صعبة إلى درجة ما. رغم أن اختلاف وكثرة اللغات، تنوع وتعدد الثقافات والأديان موزاييكٌ غنيٌ للشعوب والأمم إلا أنها في نظرات الدول والأنظمة خطرٌ ومصدرُ إزعاجٍ وقلق. لذلك دائماً كانت الدول لها بالمرصاد. طيلة التاريخ وخاصةً في القرن العشرين حرمت هذه الشعوب والأقليات من ممارسة حقوقهم الثقافية ،التعليمية وطقوسهم الدينية.                                                                                    

النظام السلطوي في البداية  يفرض لغته على اللغات المحلية، لأن هذه اللغة تمثل ذهنية في نفس الوقت، عن طريق اللغة الرسمية يتم قص أجنحة اللغات المحلية، بذلك يتم تهميشهم من لعب دورهم المطلوب.

الدول القومية التي شكلها الدول الغربية في قرن العشرين كانت لضمان مصالحها في الشرق الأوسط وعموم العالم. استندت هذه الدول في نهجها إلى سياسة اللون الواحد، الوطن الواحد، اللغة الواحدة، العلم الواحد... الخ. كانت هذه الدول أنظمة بوليسية، عصابات مافيا ترهب شعوبها بالقتل والضرب والتعذيب لرضوخ لها والنيل من إرادتهم. هذه البؤرة السرطانية  خلقت نعرات طائفية وحروب مذهبية بين الشعوب للنيل من بعضها البعض، على رأسها تركيا ودول أخرى مثل سوريا، إيران والعراق غيرها. أزمة الشرق الأوسط التي نشهدها اليوم، المد الإيراني في عموم شرق الأوسط ومحاولات إسقاط النظام في سوريا، الصراع السني والشيعي والحرب على كوباني والمناطق الكردية عامة من قبل داعش المجموعات السلفية وما إلى ذلك كلها مخططات حُيكت من قبل الدول الغربية وعلى رأسها روسيا وأمريكا لتقاسم الشرق الأوسط فيما بينهم من جديد.

آن الأوان أن نقول لهذه الأنظمة وداعا لأنها لم تجلب للشعوب غير المآسي والألام. القرن العشرين أثبت لنا أن هذه الأنظمة نفسها كانت عاجزة وفاسدة وتعيش أزمات خانقة، ولا تصلح. إصرارها وتعنتها في ذهنييتها، رفضها للتغير وعدم رضوخها لمطالب الشعوب والمجتمعات أودت برؤسائها إلى الإطاحة. لذلك الحل الأمثل لمشاكل الشرق الأوسط والخروج من هذه الأزمة هي الأمة الديمقراطية وبناء كونفدرالية الشرق الأوسط بجميع مكوناتها على أساس أخوة الشعوب. وأخيراً نبارك يوم اللغة الكردية يوم 15 أيار على كافة ابناء شعبنا.