تحليلات القيادة لعام ١٩٩٣ بمناسبة يوم ١ أيار...
عبد الله أوجلان
اليوم هو يوم ١ من أيار، يوم العيد التقليدي لوحدة وتعاضد طبقة العمال العالمي، يوم المقاومة والنضال والكفاح بالنسبة لجميع الكادحين. PKK في يوم كهذا هو حزب النصر والإصرار على الاشتراكية أكثر من أي وقت مضى. النقطة الهامة والأساسية التي يجب التوقف عليها في هذه المناسبة هو تناول وتقييم وضع الاشتراكية والآمال التي وعدت الإنسانية بها. والأهم هو التقييم السليم لمكانة حزبنا PKK ضمن هذه الحقيقة.
لا شك، في أن مرتبة لينين أصبحت عملية كبرى في التاريخ باسم الكادحين. وتكمن خاصية الماركسية في ظهورها كثمرة من ثمار الظروف الرأسمالية الغالبة في روسيا، حيث بدأت الامبريالية أيضاً تتكون حديثاً كمرحلة عليا للرأسمالية وما تمخض عنها من فروزات طبقية نتيجة تطور شكل الإنتاج والاستعمار؛ وتكييفها للرأسمالية حسب الظروف السائدة آنذاك لتتحول بذلك إلى حزب عملياتي يغلب عليه الجانب الإرادي ويشكل عامل ضغط على النظام القائم. وتكمن قدرتها على تمزيق النظام من حلقة ما فيه، كونها التجربة الأولى، في أنها تمثل بداية بدائية للاشتراكية في مكان ما.
كل ثورة في الحقيقة تشبه نظيراتها نوعاً ما. من هنا يعد نموذج الحزب البلشفي مسؤولاً عن ذلك، وإلا فذكر أمور أخرى لن يجدي في إيضاح المسألة جيداً. فأسلوب الثورة الفرنسية – على سبيل المثال – في تطبيق الشدة لا يقل شأناً عما عليه في البلشفية. هذا إلى جانب أن العديد من الثورات البورجوازية تضمنت وحشية أشد درجة من حيث تطبيقها للشدة التي كانت متواجدة في العهد الإقطاعي وحتى العبودي. إن هذا الانهيار لا يرجع إلى مفهوم الحزب اللينيني كما يعتقد البعض، من هنا لا يمكن إلقاء مسؤولية هذا الانهيار على نموذج الحزب البلشفي أيضاً. ومثلما يمكن تشييد اشتراكية مثلى عبر هذا النموذج الحزبي، فإنه يتحول إلى ضده أيضاً إن لم يمتلك القدرة على تأدية متطلبات ذلك.
يمكننا القول بكل سهولة وارتياح أن عهد كل من ماركس وأنجلز هو عهد أفضل علماء الاجتماع، أي العهد الذي تضمن أجود التعاريف والتعابير بشأن التطور العلمي للمجتمع. حيث لا يمكن مصادفة أية نظرية تعرّف المجتمع بهذا الشكل العلمي حتى ذاك الوقت. إنها تتضمن تقييمات بصدد الفلسفة والاشتراكية والاقتصاد، ولكن لأول مرة يتم بلوغ هذه المرتبة من المبدئية والتكامل في صياغة النظرية. أما لينين فقد أضاف لها النظرية الثورية، أي الحقائق التي حددها بشأن السياسة وحزب الثورة الاشتراكية وتكتيكاتها. ونحن نقول بهذا الشأن أنه – دعك من انهيار الاشتراكية المشيدة – كان لا مفر للبلشفيين، حتى أثناء انهيار الدولة، أن يعتمدوا أساساً على الحيثيات المتبقية من هذه الدولة، بل وحتى عيشهم بمقتضى السياسات الاقتصادية الجديدة والاقتصاد الرأسمالي معاً بنسبة معينة؛ باعتبارها أول تجربة متحققة في ظروف تحاصرها فيها الامبريالية، ولم تتطور المبادرات الرأسمالية بعد بالشكل المطلوب، وبسبب غلبة تأثير الطبقة الإقطاعية والطبقة الوسطى، وفرض الهوية الروسية وجودَ خصائص صارمة وقاسية للغاية ضمن الكيان الاجتماعي الموجود. وفي هذا المضمار نجد الكثير مما قيل في انتقادات تروتسكي، التي أصبحت حديث الساعة ومحور الجدال الحار فيما بعد، بشأن مدى مسؤولية ممارسات ستالين عن هذا الانهيار. ولكن المسألة الأساسية ليست هذه، حسب اعتقادي.
الأعمال المتحققة على الصعيد الاقتصادي، أي بلوغ الشكل الاقتصادي المتخلف جداً إلى أكثر أشكال الاقتصاد الرأسمالي تقدماً، بل وحتى إبداء القدرة على تجاوزه أيضاً؛ ليس بأمر يستحق الانتقاد. بل إن الانهيار أيضاً لم ينبع من هنا، وحتى يمكن القول أن هذا الشكل الاقتصادي هو اقتصاد اشتراكي.
إننا نواجه هنا رأسمالية دولة متقدمة. من المعروف أن رأسمالية الدولة هي أسلوب رأسمالي جماعي تلجأ إليه البلدان المتخلفة، وتطبقه بكثافة بهدف تحقيق تحولها الرأسمالي بسرعة. وما طُبِّق في تركيا أيضاً لا يختلف عن ذلك بشيء. ولا تزال رأسمالية الدولة تشكل القسم الأعظمي من اقتصاد روسيا اليوم، حيث يتفشى فيها تكاثر عدد الرأسماليين الخصوصيين طردياً مثلما هي الحال في كثير من البلدان الأخرى في العالم.
لو أننا طوَّرنا هذه الرأسمالية أكثر، هل كان سيعني ذلك تمثيل اشتراكية حسنة؟ كلا! حتى لو حولناها إلى اقتصاد تأميمي اشتراكي، هل كانت ستتأسس الاشتراكية بشكل تام؟ هذا أيضاً موضوع نقاش. تُرى، هل الاقتصاد الوحيد المؤدي إلى الاشتراكية هو رأسمالية الدولة؟ يمكن النقاش حول هذا أيضاً. هل هذا هو الاشتراكية بحد ذاتها؟ ثمة تساؤلات جمة، ولكن هل البنية التحتية الرأسمالية هي التي تحدِّد الاشتراكية بالأساس؟
من الساطع تماماً أن الاشتراكية تعلن عن كل من يستهدف استعمار كدح الفرد واستغلاله بهذا الشكل أو ذاك، بأنه لص مختلس. ثمة نظرية تراكم رأس المال، وإذا لم يتم اقتسام رأس المال المتراكم في مكان ما على نحو صائب، يُعتبر نهباً واختلاساً. ولا يهم إن حصل هذا بيد الدولة أو أيادي خفية خاصة، بل الأمر الهام هنا تطوير الاقتسام بالترابط مع إنتاج الكدح وعطائه، وبالتناسب مع الكدح بهدف زيادة الإنتاج وتوزيعه في آن معاً، سواء كان هذا بيد الدولة أو التعاونيات أو بطرق أخرى. يمكن تجربة أشكال عدة لذلك، ويمكن أن يكون الاقتصاد الخاص أيضاً قريباً من الاشتراكية بقدر قرب الاقتصاد المؤمم العام تماماً. ويمكن أن يتواجد نموذج الاقتصاد المؤلف من زمرة من الأفراد وحتى الاقتصاد المؤمم العام ضمن النموذج الاشتراكي بقدر تواجد اقتصاد الجماعات أيضاً. من الضروري ألا نكون متزمتين أو صارمين في هذا الشأن. لا يمكن أن يكون جَعلُ الكل عاملاًَ لرأسمالية الدولة هو الاشتراكية. وليس امتلاك الأفراد لوسائل الإنتاج يعتبر رأسمالية في كل الظروف. أما امتلاك قطعة من الأرض مع الوسائل والأدوات اللازمة وتشغليها بالكدح، فيمكن بكل بساطة أن يكون الاشتراكية.
لا يعد تأميم وسائل الإنتاج اشتراكية.
بل وحتى أننا رأينا في مثال روسيا كيف أدى احتكارها من قبل زمرة بيروقراطية ضيقة للغاية إلى تشكيل طبقة برجوازية جديدة. لذا فهو أمر خطير، بل وقد يكون أخطر من الرأسمالية الخاصة أيضاً. إلى جانب هذا أفكر في أنه قد يكون تكوين المجموعات من عدة أفراد حسب جهودهم، وامتلاك المجموعات الأقل عدداً لوسائل الإنتاج؛ أمراً ممكناً أكثر في الاشتراكية. من المعروف أن الاشتراكية لا تعنى بالإنتاج فحسب، بل ترتبط وسائل الإنتاج فيها بالمحصول أيضاً وبعلاقة وثيقة.
لِمَ لا يتطور توزيع الإنتاج على نحو مماثل لتوزيع وسائل الإنتاج؟
إن امتلاك المحاصيل ووسائل الإنتاج معاً قد يكون اشتراكية بالطبع، المهم هنا تحديد المستوى الأوسط والأمثل للإنتاج. فإن تواجدت وحدة مؤلفة من عشرة أشخاص على سبيل المثال، وكان مجموع كدحهم الموحد ينم عن محصول منتج مع وجود وسائل إنتاجية كافية لذلك؛ يمكن اعتبارها وحدة اشتراكية. فالأدوات ملك لهم، وكذلك المحاصيل، وستطرأ عليها التغيرات أيضاً من خلال تعاملها مع الوحدات الأخرى.
إن التركيز على مثل هذه الأنماط سيسلط الضوء أكثر على ماهية الاقتصاد الاشتراكي حسب اعتقادي، أما القول" لنجعل الأرض ملكاً للدولة ثم نتقاسمها، لنجعل أدوات الإنتاج ملكاً للدولة ثم نتقاسمها"، ومثلما توضح في الأمثلة الملموسة على أرض الواقع؛ يؤول إلى نتائج خطيرة للغاية. لذا يستلزم إيجاد نماذج تكون خبيرة في استخدام بعض أدوات الإنتاج، وتهتم برفع نسبة عطائها بالتأكيد، ومرتبطة بالكدح عن كثب؛ كبديل ينوب عن النماذج الأخرى.
يكمن السبب الأصلي لعدم تطبيق الاشتراكية الحقيقية في اغتراب الحزب ومن ثم الدولة في هذا المضمار. إذ، وبعد حصول تراكم ملحوظ في البنية التحتية وتحقيقه تحولاً اجتماعياً وانتشاره، يتحول بعدئذ – بلا مناص- إلى ايديولوجية حزبية وبيروقراطية عقيمة للدولة، أو أنه سيمتلك مدخراً مكثفاُ جداً يتحول بدوره إلى طبقة رأسمالية عليا جديدة. وهذا ما كان بالفعل.
لافتقار الإنتاج والتقسيم للكدح، وبالتالي خلوهما من التعبير الديمقراطي للكدح، وبتحول القوة البيروقراطية في الحزب والمتمركزة في قبضة حفنة قليلة جداً إلى سلطة مطلقة في الدولة؛ آل الأمر إلى ظهور بورجوازية جماعية في أعلى المستويات إلى جانب تحول النظام السوفيتي كلياً إلى نظام عمالي. ولم يكن هناك أي جهاز يقوم بالإشراف على تلك الطبقة البورجوازية. ومع الزمن تدنت الأيديولوجية الاشتراكية والسياسة والاشتراكية والديمقراطية الاشتراكية إلى مستوى أكثر تخلفاً حتى من المعايير البورجوازية للرأسمالية – الامبريالية، أو أنها انزلقت في وضع يكاد يكون عقيماً وقاصراً.
أدى الخطر الامبريالي الخارجي، والاهتمام الداخلي الغالب بالاقتصاد البحت، وبالتالي الانشغال بتشغيل الأفراد فقط دون تطوير قيمهم الديمقراطية أو المعنوية، وافتقار الجمعيات والنقابات وحتى الشبكات الأخرى التابعة للدولة لفاعليتها ونشاطها كلياً؛ أدى إلى التفسخ والاهتراء وتفشي البيروقراطية ومعها البورجوازية بأخطر أشكالها وأكثرها تطفلاً وتبذيراً. ذلك أن الرأسماليين الخصوصيين يتشبثون بالعمل الذي يقومون به، وتهمهم نتائجه كثيراً. ولكننا هنا لا نجد حتى هذا الأمر، بل هناك - فقط وفقط- الوصول إلى المنصب وامتلاك الصلاحية والاستيلاء على القيم المدّخرة والتصرف بها. هكذا كان التنافس، وهذا ما حصل.
مع الزمن سقطت كل مبادئ الاشتراكية من العيون، وأصبحت الدولة آلة تخدم مصالح حفنة من البيروقراطيين المتمركزين فيها. ولم يتم سد الطريق أمام اغتراب الكدح والكادحين، ولا أخذ الأممية والثورات المتحققة بالحسبان، ولم يبقَ سوى "مصالح السوفييت". وما مصالح السوفييت سوى مصالح حفنة بيروقراطية حزبية أو زمرة إدارية احتكارية معدودة تقوم اليوم على اقتسام رأس المال هذا فيما بينها. يبذر البيروقراطيون هذا المدخر العظيم ويستهلكونه بأعلى درجات التطفل والمياعة والانحلال.
يمكنني ذكر أمثلة ضاربة للنظر مع الأخذ بعين الاعتبار التجربة التي خضناها. أياً كان التقييم بصدد ماهية PKK فليكن، كل حزب هو في نهاية المطاف حركة كدح. ذلك أن بعض الأشخاص تتجمع قواهم الفكرية وتتحول إلى عملية سواء باسم هذه الطبقة أو تلك، أو باسم وطن ما أو أقلية ما.
على سبيل المثال، لو حقق ثورةً باسم البورجوازيين فهو حزب منتج، ويتم السمو به من قبل طبقته إلى السموات العليا ليلعب دوره التاريخي. وثمة أعداد جمة من أحزاب كهذه، إلا أن البعض منها تحول إلى حفنة ضيقة من السماسرة المنفعيين قبل أن يخدم تناقضاته الطبقية لحلها وقبل أن يصل بالثورة إلى النصر، ليضمحل بعدها بشكل يبعث على الأسى.
لا ريب، في أن حزب الكدح مختلف كثيراً، خاصة إذا كان يتشكل في واقع مثل كردستان، حيث يعمه الحرمان الوطني والاجتماعي بنسبة بالغة. وإذا كنت لا تريد تشويه ماهيته الكادحة، بل ومضطراً للحفاظ على حياته تماماً كما تسقي نبتة كل يومين مرة؛ فلا مفر حينها من الاعتناء به بنفس الدرجة، وإلا سيفلت زمامه من اليد ليتحول إلى كيان مناهض لك. إنها قاعدة عامة.
طُرح مصطلح "جهاد النفس" العظيم في الثورة الإسلامية بهدف حمايتها من الاهتراء. فضلاً عن وجود المستشارين للأولياء ورجال الدين، وكذلك من يقضي كل عمره في الزهد يتخبط في العذاب والآلام.
وهذا معناه التحلي بالصفاء الأيديولوجي. وإذا كانت هكذا ثورات قد حافظت على تأثيرها إلى يومنا الراهن، فإن ذلك يعود إلى سلوكها أساليب كهذه. كانت هناك مراكز أيديولوجية عديدة كهذه خارج نطاق الدولة، وهي التي قامت بالثورة الإيرانية، ولا تزال العديد منها تلعب دورها بكل سهولة في تحديد منحى الكثير من الثورات لديها. إنها الأماكن التي يحصل فيها الصفاء الأيديولوجي، وهي لا تأبه بثروات وأملاك الحياة الدنيا، بل تحيا على الدوام حسب مبادئ معينة. وهي نماذج منتشرة بكثرة في الديانة المسيحية. لكن مثل هذه المؤسسات لم تتطور في الاشتراكية، بل انحصر كل شيء داخل الحزب لتتحكم فيه حفنة قليلة جداً مع مضي الزمن.
لأجل ذلك قُتِلَت الأيديولوجية.
ذلك أنه عندما يسخر كل شيء في خدمة السياسات الاقتصادية اللازمة لوقت محدود ما، تغيب حينها المبادئ والقواعد. حتى في الإسلام نجد هناك رجال الدين عدا عن المعنيين بأمور الدولة. لكننا لا نرى نماذج كهذه في التجربة السوفييتية، وسادت حال أصبح فيها توجيه نقد مغاير يعد جرماً كبيراً يعاقب على نحو أكثر إجحافاً مما هي الحال في العصور الوسطى. أما النقاشات الأيديولوجية فتكاد تكون معدومة فيها لدرجة تكون أكثر تخلفاً حتى من النقاشات المذهبية التي كانت سائدة في العصور الوسطى. وهذا بالطبع أمر مناقض لطبيعة الإنسان. إذا كانت الرأسمالية لا تزال تحافظ على تفوقها فالفضل في ذلك يعود أساساً إلى "الديمقراطية" التي طورتها. على سبيل المثال، طورت الرأسماليةُ الفاشيةَ، لكنها لم تعتمد عليها أساساً ولم تربط نفسها بها، حتى أنه لم يكن للرأسمالية أن تجد فرصة الحياة كثيراً تحت اسم تطبيق الفاشية، لكنها تعد – أي الفاشية – مرحلة تاريخية خاصة، ظهرت إلى الوسط لتخدم أهدافا معينة خاصة، ومن ثم تم تجاوزها وتخطيها. ورغم الحد من الديمقراطية البورجوازية فيها، لكنها كانت تتميز بمقاييس معينة أنعشت الرأسمالية وأحيتها.
أما دواعي ذلك فتكمن في أنها تصغي ولو قليلاً للكادحين، وتمنح مختلف الطبقات والمجموعات والشرائح الحق في التعبير عن ذاتها. وهذا بدوره يؤدي إلى التنافس فيما بينها، وبالتالي إحياء النظام وإنعاشه. لم يحصل هذا في الاشتراكية، بل وحتى لم يتم التفكير البتة بالديمقراطية الاشتراكية أو الرقابة الاشتراكية، مع أنه كان من الحري على الاشتراكية أن تطور الديمقراطية أكثر من الرأسمالية.
ما هي الديمقراطية؟
هي مستوى تعبير الشعب عن ذاته في الفكر والسياسة من خلال المؤسسات المتخلفة. كان من الواجب أن تتعدى هذه المؤسسات الحزب بكل معنى الكلمة في كل النقاط التي تطرقنا إليها، بل وحتى أن تكون منافية له. ذلك أن الحزب في الاشتراكية العلمية هو أداة يجب تخطيها بعد مرحلة معينة. وأياً كانت زاوية نظرنا إلى الأمور فلتكن، لا يمكن القبول البتة بتطوير الدولة لهذه الدرجة في النظرية الاشتراكية.
إن تسرب الدولة إلى كل الأماكن بحيث تكاد لا تنجو منها أية خلية في الدولة السوفييتية، هو اغتراب جدي وانحراف خطير للغاية. كما أن تعزز الحزب بهذا القدر هو بحد ذاته رفض للنظرية الاشتراكية، وبالتالي رفض للديمقراطية الاشتراكية. تصوروا أن الناس لم يعد يشغلهم شاغل سوى المَعِدَة والطعام، ولم يبقَ أمامهم سوى النظر إلى العالم بمنظار "الأبيض أو الأسود". لقد غابت التعددية اللونية، وانعدم الأمل وزالت الرقابة والمنافسة. وهذا ما يسفر بدوره عن شل القدرة على العمل. والنهاية هي الانهيار.
نعم للجماعية، نعم للعمل على أساس الإرادة المشتركة، ولكن ثمة المبادرة الفردية ومبادرة المجموعات بنفس القدر؛ وإلا فالكلام من البَوق والقول "نَمْ واستيقظْ" أو "اصمتْ" أمر غير ممكن. من المؤكد أنه لم يؤخذ هذا بعين الاعتبار ولم يتم النجاح فيه. بل طُلبت الطاعة العمياء على الدوام بالقول "امتثل لأوامر الدولة بالتأكيد! لاتنبس ببنت شفة تجاهها! المواطن الأفضل هو الأكثر تبعية لدولته سواء كانت مصيبة أم مخطئة!". واتُّبعت سياسات مناقضة لمصالح الشعوب والكادحين لدرجة لا يستهان بها، ولكن تم الخنوع لها كلياً. ثمة أيديولوجية قانونية هنا، والمجتمع الذي يعيش حالة كهذه لا يمكن أن يكون اشتراكياً البتة.
يمكن القول أن لينين شخصية اشتراكية بارزة، أي شخصية متطورة، وإن لم يكن بالمستوى المطلوب تماماً.
يتميز القواد، وحتى كيان "المرشدين" بأهمية عظمى في الأديان. ففي حال غياب "المرشد، بير" لا يمكن التحكم في زمام "الجماعة". "كل ما يفعله الإمام تقوم به الجماعة". ثمة أمر كهذا أيضاً حسب رأيي، فـ"ستالين" منفذ صارم للغاية، وشخصية تتحرك حسب الحقائق العامة دون التدقيق في تفاصيلها. في الحقيقة إنه شخصية لم يُدرَك تماماً مدى وعيها للأسس الاشتراكية وتحليلها لذاتها وتخلصها من الخصائص الإقطاعية.
ومن ناحية أخرى يجب عدم انتظار موقف آخر من ستالين في تلك الظروف، ذلك أنه لم يستطع التركيز على الديمقراطية الاشتراكية. بل حتى أنه رأى كل ذلك رفاهاً وبذخاً ليس إلا، بما فيه ما تم تطبيقه في عهد لينين. ولم يتمكن من توحيد الآراء والأصوات المتغايرة المتأتية من كل صوب وحدب ضمن التناسق والانسجام الموجود في الديمقراطية الاشتراكية. بل واجهها بالقول "اصمتْ!". قد يكون ذلك مجرد تكتيك في بداية الأمر مثلما كانت حال الكثير من المبادرات التي قام بها ستالين بادئ ذي بدء، ولكنها تحولت فيما بعد إلى مبادئ راسخة لم يقدر الخروج من تحت وطأتها. هكذا بدأ الارتخاء واللامبالاة. ثمة أقوال حكيمة بالفعل لدى لينين، لكنها تقضي على الاتفاقيات السرية، حيث صرح فيها عن ضرورة تمزيق كل الوسائل المتحكمة بإرادة الإنسان، وعمل بموجب ذلك أيضاً. إذ كسر طوق الضغط المطبق على الشعوب، واعترف بالحرية للبؤساء. وبقيت تعاليمه مفتوحة لذلك لأبعد الحدود، حيث أبدى ذلك في ممارسته العملية بنسبة هامة ونجح فيه. لكنه لم يقدر على مأسسته أو تحقيق تَدَوُّله بموجب الديمقراطية. وبمعنى آخر، لم يستطع تكوين دولته على أساس ديمقراطي. في الحقيقة، نرى أن الديمقراطية هي الدولة بحد ذاتها في تصريحات لينين. كردستان على سبيل المثال وطن متخلف جداً. يمكنني رؤية كل ذلك والتنبه له لأنه وطن عانى من أكثر أنواع الإقطاعية وحتى العشائرية تخلفاً، وأكثر أنواع التحول الرأسمالي رجعية، وأصبح مستعمَرة شارفت على حدود أخطر أنواع المجازر.
مثلا، طرحنا مصطلحاً أسميناه بـ"التأثيرات الكمالية". هذا فضلاً عن مصطلحات أخرى طالما نستعملها في أحاديثنا من قبيل "التأثيرات العشائرية والآغاوية". وقد عمقتُ هذا الأمر لدرجة يقال لها في الماركسية التطبيق العملي لأبعد الحدود على الصعيد النفسي. لقد شعرت بالحاجة الماسة لتطبيق الأسلوب النفسي الاشتراكي بأعمق الأشكال، ذلك أنه إن لم تستطع حل مسألة الكوادر الاشتراكيين فقد تتحول إلى نقيضك على حين غرة حتى ولو أحرزت النصر أو طورت عملية سياسية أو عسكرية محدودة جداً. إن لم تتوقف على مسألة المناضل الاشتراكي يومياً، بإمكان ذاك الشخص عندئذ أن يحول حزباً عظيماً إلى أداة إقطاعية صارمة مجحفة في طرفة عين.
ثمة عدد كبير من الأفراد والنماذج المنتمية لعائلات أرستقراطية مستهلكة مبتورة عن أرضها في كردستان. تربي العائلة أولادها حسب مقولة "فليكبر ابني وليصبح باشا". وهذا الأمر صحيح حتى بالنسبة لأشد العائلات فقراً وبؤساً، لأنه يعتبر مثالاً معمولاً به حسب الأصول العشائرية. وإذا لم نقم نحن بتحليل هذا الفرد وتربيته عبر أساليب مناسبة، فسيكون أول عمل يقوم به هو ما نراه في مثال الغجري الذي أعدم أباه أولاً عندما أصبح باشا. وإذا حاز على القوة والصلاحية والنفوذ، فإنه يَعتَبِر تصفية كل من يوجه انتقاداً له، مهما كان بسيطاً، والقضاء عليه مبدأ مطلقاً.
تقوم الكمالية بذلك في تركيا على نحو مختلف، وتعد مثالاً آخر عليه. وما تبقى من الأمر عندئذ هو الدخول بسرعة ملحوظة في وضعية تشبه حشداً من العبيد المتفسخين المائعين والخانعين الذليلين الفارغي المضمون. لدينا أيضاً نرى أن كل سنة لا تخلو من التصفيات، فنقوم مقابلها بالمداخلات، وهذا ما يطور من PKK. فلولاي سيقول الجميع "كان سيضغط علينا، وحتى سيعاقبنا أشد عقاب". والآخرون قد اصبحوا عبيداً خانعين بنسبة 75 % منهم. وباعتبار أن التنظيم المقابل لهم يتميز بقدرة كبيرة على تسيير الحرب الخاصة على مستويات متقدمة جداً، فهم لا يستطيعون الصمود أمامه لأشهر معدودة على الأغلب. أما فيما بينهم فيتفشى التفسخ والاهتراء. ولا يوجد شيء ملحوظ من قبيل الأفق السياسي أو الثقافة الديمقراطية لديهم. لذا فكل واحد منهم أناني أعمى، وكأنه يقول "الموت لكل من لا يحبني". إنه يسعى لتحقيق الحب أيضاً بالعنف. وهو لا يتحلى بإبداع ملحوظ، وكل ما يمكنه فعله هو الاستيلاء على القيم المتمخضة عن هذا التاريخ الطويل للحزب، والمعتمد على كدح الملايين من الناس، وذلك بأساليب مروعة كاسحة. أما الذين يشكلون حجرة عثرة تعترض طريقه، فيجنح إلى القضاء عليهم بأساليب تآمرية تخدم مصالحه للوصول بذاته بعد مدة جد وجيزة إلى وضع الحاكم المطلق المتربع على كدح الملايين.
وما هذا؟ إنه لا يمكن أن يكون سوى استبداداً إقطاعياً مجحفاً نظراً لوضع الشخصية ذاتها، والتي لا يمكن أن تصبح حتى زعيمة رأسمالية أو بورجوازية سياسية. ولأجل ذلك فهي شخصية متخلفة، غير قادرة على أن تكون ديمقراطية بورجوازية على الإطلاق، ولا حتى ديمقراطية قروية. ولِمَ أصبحت هكذا؟ هل هي عميلة ذاتية واعية؟ أياً كانت الزاوية التي تنظر منها فالجواب هو، كلا! هل هي عميلة تابعة للاستعمار؟ كلا! هكذا ترعرعت هذه الشخصية منذ السابعة من عمرها، وهكذا كبرت. ما حُرِمَت منه ضمن العائلة، وما افتقرت إليه داخل المجتمع من نفوذ واعتبار، تعمل على تحقيقه داخل صفوف الحزب.
إذن، ما تحقق في الحزب البلشفي ليس إلا هذا الأمر. ويمكنني تسمية ذلك بمثال "ستالين الصغير". كانت هذه حقيقة معاشة بكثرة على الصعيد العالمي، ولم يتم النجاح في تحقيق مرحلة ناجحة تجاهها. كيفما نظرنا إلى الأمور سنجد أن هذه الشخصيات قد اقتاتت على بعضها. وكان يطلق على الحزب البلشفي اسم "حزب التمردات الازدواجية" في عهد ستالين. فهو يصفق بحرارة ظاهرياً، ولكنه مضموناً متضايق وغير مرتاح. وقد ظهر ذلك جلياً وبكثرة لدى تشاوشيسكي أيضاً. في الحقيقة، من الصواب تسمية مثل هذا النموذج بـ"النموذج المنافق". وإذا ما دخل في ضائقة أو معضلة، فإنه يقوم بالخيانة لأبعد الحدود… إن هذا أمر هام. وإني أحاول تطبيق ذلك على مثالي أيضاً. هكذا هي النسبة الكبرى من الروابط.
إنني أرفض بحدّة ارتباطاً كهذا. كلهم صادقون، ولا يرتبطون بي في سبيل النفاق أو الازدواجية، إلا أن شخصياتهم لا تتحمل أواصر أبعد من ذلك. وكم سيكون مدى قيمة الارتباط لدى القروي! إنه يعيش ذاته بنسبة 90 %، بينما يمنح 10% من حياته لأجل أمه إن وجدت أو ربه إن وجد. ولكنه في الأساس يتميز بحبه لذاته على أساس مُلْكه المحدود. إنها ليست اشتراكية، بل هو نمط ارتباط البورجوازية الصغيرة، والذي قد يتغير في كل لحظة. قد يمدح ربه أو يخونه أيضأ، وهذا ما يفعله.
وهنا يعد الأسلوب الذي طبقتُه أنا عبارة عن حلول تهدف لتجاوز هذه الشخصية. فالإجراءات المستهدفة لتكريس الاشتراكية في الحزب ستعمق الحرية وتعززها. عليك خلق شخصية واقعية، شخصية مفكرة ومقررة، لا مصطنعة وعبدة. بحيث ألا تكون أنانية وفردية لحد كبير، ولا تكون عبدة ذليلة، ولا تستنكر ذاتها كلياً، ولا تعتبر نفسها كل شيء.
أرى الحل في هذه النقطة، وهي ليست ممارسة سهلة. وربما كانت نسبة تسعين بالمائلة من جهودي تصرف في هذا المضمار، بينما الجهود التي بذلتها في المحاربة العلنية ضد النظام التركي فقليلة لدرجة تكاد تكون معدومة. ومن جانب آخر لولا وجود هذه الماهية الكادرية لكان PKK قد انتهى.
النضال الاشتراكي هو في نفس الوقت نضال تجاه الحيوانية المتفشية في المرحلة الامبريالية.
أيّ غول قتل أبناء جنسه من الناس لهذه الدرجة؟
إنه وحش كاسر، ولا يوجد أي جانب آخر يمكن توضيحه في هذا المجال. إنها أفظع حيوانية. وإذا كنا نتطلع إلى تطوير النضال الاجتماعي والاشتراكي، فعلينا بلا ريب التصدي لمثل هذه الحيوانية والوحشية. وقد كان الأمر كذلك في كل الأديان أيضاً فالدين المسيحي والإسلامي وغيرهما من الأديان الأخرى، جميعها ناضلت مستهدفة تحقيق ذلك بحد ذاته، وتحدت على الدوام الظالم ومصاص الدماء والغاشم الغدار والنصاب.
وما الاشتراكية سوى الشكل الأوسع نطاقاً لذلك. أما الحزب الاشتراكي فليس إلا الجهاز المطبق لذلك أكثر من غيره. لا أستطيع تطبيق ذلك لوحدي، ولا عن طريق مجموعة محدودة، لكنني أستطيع فعله من خلال حزب متطور رفيع المستوى. وإن استلزم الأمرُ الدولةَ فبإمكاني فعل ذلك بها. وإن كان ثمة جانب يمكن الدفاع عنه في الدولة، فهو ليس إلا لأجل الصراع ضد الفردية وأصحاب النفوذ المختل. وعدا ذلك لا يمكن الدفاع عن الدولة بأي شكل من الأشكال. وقد تجلى ذلك في النظرية الاشتراكية التي تقول "إن كان الساحق والمستعمِر لا يزال قائماً، فالجأ إلى العنف". وعدا ذلك لا معنى إطلاقاً لمنطق العنف. إنني في حيرة لِمَ كل هذا الكم من الجيوش؟ قد تكون الجيوش ضرورية لنيل نصر ما، ولكن بعد ذلك عليك بعثرتها. هاقد ربحت، فلماذا تحتفظ بالجيش بعد؟
قد يتحول الجيش إلى طبقة استعمارية حاكمة إذا استمر وجوده باعتباره وسيلة خاصة تتضمن داخلها هذا الخطر. إن الحفاظ على الشعب في وضعية تمكِّنه من التجيش في كل لحظة، هو التدبير الأمثل والأكثر تأثيراً تجاه ممارسات الاستعماريين الغاشمين.
فمثلاً، اعمل فوراً على بعثرة كل من الجيش والبيروقراطية والاستخبارات الخاصة، وانزع إلى تعزيز الشعب والفرد. قد تقولون "ثمة مخاطر". إذاً ما عليك سوى تقوية أفرادك لدرجة، إذا ما قلت لهم "دافعوا عن وطن الشعب" بإمكانهم الاعتماد أساساً على القوة الدفاعية تلك. فأولئك الناس باستطاعتهم الدفاع عن الوطن والكدح أكثر بكثير من أجهزة الجيش والبيروقراطية الواثقة من ذاتها والذائعة الصيت. لم يحدث ذلك في السوفييتات، بل كثرت الأجهزة الخاصة من قبيل الاستخبارات "KGB" والجيش الأحمر والبيروقراطية السوفييتية. أما الآن فهاهم يقولون "الجيش الأحمر بلاء". حتى رواسبه تعد بلاءً. من البديهي أنه سيؤول إلى ذلك، لأنه ينافي النظام. الأمر مختلف بالنسبة للبورجوازيين والاقطاعيين لأنهم جبناء. وباعتبارهم يلجؤون إلى الاستعمار دوماً، ويطبقون القمع والقهر يومياً، فهم بحاجة لتنظيم قمعي يومي. أما الاشتراكيون فلا حاجة لهم بذلك. وإذا كان ثمة زعيم اشتراكي ينزع على الدوام إلى تعزيز مثل هذه الأجهزة باستمرار، يجب الخوف منه والتشكك فيه لأنه يناقض النظرية الاشتراكية. ولكن، ألن يحصل الدفاع؟ سيحصل، ولكن ليس على شكل مؤسسات خاصة. أي عليك ألاً تضع ذلك في قبضة القواد الخصوصيين. وإذا ما فعلت، سيحصل مثلما يحصل لدينا لدى المستولين على الصلاحيات من المناضلين الجدد.
الموديل الأمثل الذي ارتأيته هو خلق وضع يقول فيه الجميع "PKK لي" ولا يقول أحد ذلك في نفس الوقت. إن PKK لك كلياً، ولكن PKK برمته لي أيضاً، وفي نفس الوقت لا أملك أي شيء. إن ذلك يعني عدم النظر إلى PKK كجهاز خاص.
وإذا ما مُنحتَ صلاحية ما من قبيل "قم بالثورة بهذا القدر في هذا المنطقة" و"حقق ذاك النصر خلال ستة أشهر هناك"؛ فهذا لا يعني صلاحية "تأسيس إمارة"، ولم يُمنح جهاز الحزب لك لتقوم بذلك. إن مفهوم الصلاحية يجب أن يكون على هذا المنوال في الاشتراكية حسب اعتقادي. ولكن ما حصل هو تشغيل أداة تنظيمية معينة مقابل وظيفة معينة يجب تأديتها، وتعيين القائم عليها مع تحديد الوظيفة. على سبيل المثال، إذا ما منحت المؤسسة السكرتارية كوظيفة مؤبدة لشخص ما ينتهي الأمر هنا وينقضي. فالسكرتير الثابت، والوسائل الثابتة التي لا تتغير هي عوامل مؤثرة في نموذج الطبقات الاستعمارية والحاكمة بلا شك. وقد تحقق هذا بكل أسف في الاشتراكية المشيدة واستمر في وجوده. وما يتوجب عمله هو تجاوز هذا الوضع، وهو ليس بالأمر المستحيل.
وإذا تمعنا في تجارب الشعوب سنرى أنها ليست مرتبطة كثيراً بأدوات خاصة كهذه. فالشعوب لا ترى حاجة للتسلح مثلما يفعل الحكام، اللهم إلا إذا ما تحكَّم فيها الظالمون والمستبدون المستعمرون. إنها لا ترى داعياً لبناء وسائل خاصة أو تأسيس تنظيمات خاصة أو منظومات سرية. من الذي يبني التنظيمات السرية؟ من الذي يعنى بالوسائل القمعية الخاصة؟ أليس هناك مقولة مفادها "الدودة الخائنة"؟ أي أنها أمور تهم الجبناء الذين يخافون ظلالهم، ذلك أنهم يظلمون الغير. وهم قلة قليلة وأعداؤهم كثر. لماذا؟ لأنهم خلقوا الأعداء لأنفسهم. الإنسان الاشتراكي لا ينزع إلى ذلك ولا يرى داعياً لحماية ذاته من الشعب.
لا يمكن لأحد الادعاء بأن تطوير هذا الكم من الأجهزة الجيشية والبيروقراطية في التجربة السوفييتية، هي فقط لحماية الذات من الإمبريالية الامريكية. كلا لقد أُسِّست تجاه مجتمعاتها بنسبة 90%، ذلك أن كل هذه الكيانات كانت مخفية عن أنظار المجتمع السوفييتي. وقد انفصل التنظيم الاستخباراتي عن الجيش بشكل بارز. والمحصلة هي الاهتراء والتفسخ والمياعة... كل هذه الأمور خاطئة.
إننا نطور PKK كنموذج أمثل حتى في ظروف سيادة الإمبريالية، ولا نتحرك إطلاقاً حسب الأساليب التي طبقها نموذج الاشتراكية المشيدة، وإذا ما فعلنا ذلك فمن المستحيل أن نصمد طويلاًَ. الحل الوحيد الذي ارتأيته هو تقوية الفرد أيديولوجياً وكمناضل. ذلك أن أغلب الأموال هي بيد الرأسماليين الذين لا يمنحون سوى الفردية. وهنا بالذات عليك خلق موديل يتفوق حتى على المال والفردية، وقد برهن PKK على ذلك للمجتمع الكردي والكردستاني. لم تَدُرّ التعصبية القومية ولا شتى الأساليب الإقطاعية بأي نفع على الشعب الكردي، أما نموذج PKK فمنحه الوحدة ومدّه بالمعنويات، وخلق الإنسان القوي والشجاع فيه. وهنا يكمن لغز قوة PKK.
يقال بـ"الأكثرية" ببنما أنا أنادي عوضاً عنها بـ"خلق المستوى المؤسساتي الضروري جداً للمجتمع". إذ من الضروري أن تتواجد المؤسسة الأيديولوجية والمعنوياتية. ما هي المؤسسة الأيديولوجية المعنوياتية؟ أياً كانت التسمية التي نطلقها عليها إلا أنها مؤسسة معنية بتطوير القيم الأساسية في المجتمع والإشراف عليها. وثمة نظام أسسناه على هذا الأساس وأوصلناه إلى النجاح والنصر، وما عليك سوى مأسسته. ويمكن أن يكون ذلك كهيئة دفاعية ثانية على سبيل المثال. لننتبه هنا، فالهيئة الدفاعية تلك ليست جيشاً، بل يمكن تأسيسها من عدد قليل من الأفراد الخبراء المهرة. ويمكن لهيئة مؤلفة من أربعين إلى خمسين فرداً أن تشرف على الدفاع باستمرار.
مثلاً، لا تجمع الجيش إن دعت الحاجة خلال أربع وعشرين ساعة، ولكن هناك هيئة دفاعية لا غير، لا جيش، ولا أداة خاصة. إذن يمكن تواجد هيئة اقتصادية أو أخرى معنية بالثقافة أو البيئة، إلا أنها هيئات فعالة حقيقية. ولو انتبهنا للأمر لوجدنا أنه لا توجد هنا دولة بمعناها الكلاسيكي، أي على نحو تحتكر به كماً كبيراً من الصلاحيات ورأس المال. عليك بالتأكيد ألا تمنحها قوة زائدة أو رأس مال زائد أو عدداً زائداً من الأشخاص، وإنما ستمدها بمقدار من النقود يمكّنها من الإبداع وإعالة ذاتها، وستزودها بالكم اللازم من الأعضاء لا غير بحيث إذا ما حاول أحدٌ ترسيخ الديكتاتورية فلن يكون بمقداره ذلك لافتقاره إلى القدرة على ذلك. الهيئة الدفاعية مؤلفة من أربعين إلى خمسين شخصاً، ولا يمكنها إحداث أي انقلاب أو إلحاق أي ضربة. كذلك الأمر بالنسبة لمؤسسة المعنويات، فقوتها محدودة ومتوازنة في داخلها. هذه هي الأكثرية أو ما نسميه بالديمقرطية الاشتراكية. في الحقيقة يستلزم تسميتها بـ"الرقابة الاشتراكية" إن سيادة الذهنية الأحادية نيابة عن الميول المختلفة والمتمايزة، أمر خطأ. فالطبيعة ظاهرة معقدة متشابكة، إلا أن طبيعة الإنسان أكثر تعقيداً وتشابكاً.
إنني على ثقة تامة بأن الرقابة والتنافس وحرية الفكر والتجمع ممكنة في الاشتراكية أكثر مما عليه في الرأسمالية بالطبع. وقد تواجدت هذه المؤسسات كضمان أمان للشعوب لا غير. كما دعت الحاجة إليها كي يتمتع الفرد بالمبادرة والإبداع. وإلا فما عليك سوى" الامتثال لكل ما يأمر به المرشد". كلا! فإن زادت القوة عن حدها ساد التعصب الديني الأعمى. هذا أيضاً تمت موازنته. عليك تطوير الموديل بحيث تكون المؤسسات متحلية بمزايا تطور الفرد وتفتح المجال أمام مبادرته، لا كابتة لها وقامعة إياها. هكذا فقط يمكن للديمقراطية الاشتراكية أن تتطور.
كذلك بهذا الموديل يمكن تخطي الرأسمالية. فأكبر وحش كاسح في يومنا هو الرأسمالية، وقد ضخّمت التناقضات الموجودة في المجتمع بما فيه الكفاية.
خرج التناقض اليوم من داخل المجتمع ليتحول إلى تناقض مع الطبيعة، وهذا أخطر ما في الأمر. كما خرج من كونه تناقضاً بين الطبقات فحسب، إذ وجَّهته الرأسمالية إلى المجتمع برمته، وإلى الطبيعة بأسرها. لا يكتفي الوحش بتكريس الفرز الطبقي والاستعمار، بل يدمر الطبيعة أيضاً. وقد ثقب الأرض والسماء أيضاً بحيث يكاد ينقلب التوازن الطبيعي رأساً على عقب ويشرف المجتمع على حافة الفناء. كل أطرافه أصبحت إسمنتية، ولم يبق مكان يمكن العيش فيه. أما الانفجار السكاني فقد ينمُّ عن حالة قد لا تسع فيها الأرض للسكان. كما تظهر للوسط أمراض وآفات جديدة غريبة وعجيبة تهدد الإنسانية جمعاء. هذه كلها تناقضات تمخضت عن الوحش الرأسمالي.
لقد انزلقت التناقضات ودخلت في أشكال أكثر تطرفاً مما كانت عليه في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. التناقض الرأسمالي الذي كان سائداً في القرن التاسع عشر كان عبارة عن تناقض الكدح – رأس المال أو البروليتاريا- البورجوازية، ونوعاً ما تناقض بين الشعوب المستعمَرة والدول المستعمِرة.
بينما لو ألقينا نظرة إلى النصف الثاني من القرن العشرين، سنرى أن هذه التناقضات فقدت معناها كلياً. فخطر الفرز الطبقي لم يعد يحوز بأهمية ملحوظة، كذلك الاستعمار لم يعد يؤخذ محمل الجد، وإن تم فيكون محدوداً. لقد أصبح التناقض أكثر عمومية وبلغ أشكالاً جديدة مغايرة. وحسب رأيي، فإن أخطر الجوانب في الإمبريالية، وبالتالي الرأسمالية التي تحتويها، وما ينم عنها من تناقضات اليوم، إنما تستهدف المجتمع بأكمله. لقد تطورت تقنيات الاستعمار والإدارة لديها بصورة مذهلة من قبيل مستوى تطور الاحتكار والوسائل المعلوماتية، هذا فضلاًَ عن وسائل الإعلام والشركات العملاقة الدولية. إنها حقاً تقنيات متطورة تبعث على الرعب.
في الحقيقة، يكاد المجتمع بأسره يصبح مستسلماً لهذا الواقع الذي لا يحتضن الطبقة فقط، بل يضم في أحشائه المجتمع كاملاً. إن الألعوبة اليوم تحاك على المجتمع بحيث تدبر الألاعيب المختلفة بشأن كل طبقة أو شريحة على حدة. إنها تلعب على الجنس بشكل مختلف، وتدبر الألاعيب الفظيعة على الأطفال أيضاً. كما تستغل المرأة على نحو يثير الدهشة، بل إنها تستغل حتى طبقة رأس المال الوسطى بأساليب مغايرة تماماً. لهذه العلة أصبح التناقض عاماً وتوسع نطاقه كثيراً.
عندما يقال "العولمة" نرى أن الإمبريالية – الرأسمالية في هذه الظاهرة تقبض على أنفاس العالم أجمع كأخطبوط مخيف، وتسحق كل شيء كالأسطوانة العملاقة. بالطبع، ثمة تطورات حاصلة في التقنية قد مهدت لهذا الوضع، هذا بالإضافة إلى تطور التأثير الخارق للوسائل الإعلامية في خضم السنوات الخمسين الأخيرة. وقد نمّ هذا عن مخاطر وأهوال تضر بالإنسانية أكثر مما يظن البعض.
يمكننا صياغة التناقض على هذا النحو؛ إنه ليس تناقضاً بين الطبقة المظلومة المستعمَرةَ والطبقة الاستعمارية الظالمة، ولا بين الشعب المسحوق والدولة الساحقة؛ بل هو تناقض يتضمن ذلك ويكمن بين القوة الاجتماعية - أو المجتمع بحد ذاته- وبين حفنة معدودة بعدد أصابع اليد، بما تملكه من مؤسسات إعلامية استثنائية لا نظير لها وإمكانيات تقنية أخرى توحدها جميعها لتتميز من خلالها بقوة إدارية كبرى. ظهر اليوم إلى الوسط مصطلح يزعم بأن أمريكا قوة خارقة، ويعاني المجتمع العالمي خطراً جدياً في كنف هذا النظام الجديد. هذا هو التناقض الأول. أما التناقض الثاني فيتمثل في الهوة المتسعة باضطراد بين المجتمع والطبيعة.
أظن أن التخريبات الحاصلة في العقود الخمسة الأخيرة تضاهي ما حصل منذ بدايات البشرية وحتى يومنا الراهن.
لم يحصل التلوث البيئي الموجود في أي وقت مضى بهذا القدر. لا ينحصر الأمر في التلوث فحسب، بل إن الطبيعة يُقضى عليها حقاً، وثمة أنواع تواجه الانقراض وتوشك على الزوال، سواء من الفصيلات النباتية أو الحيوانية. كما أن الهواء يتلوث، والجليد يذوب، وتزداد نسبة الارتفاع الحراري على وجه الكرة الأرضية طردياً. أما الأماكن التي نقطنها فتكاد تتحول إلى صحراء قاحلة. كل هذه العوامل لا تنم عن خطر بسيط.
إن هذه المخاطر تزداد عن نسبة مخاطر الطبقات أربعين ضُعفاً. وقبل كل شيء ثمة كسح لخصائص المقاومة لدى الإنسان، وتخفيض من مستوى معنوياته.
إنها أزمة خانقة!
يكاد الناس يتحولون إلى حشرات ضارة بعيشهم المستمر بين الجدران الإسمنتية! هاهي الرأسمالية تحول الناس إلى حشرات، ورأسمالية كهذه لا يُنتظر منها شيء سوى هذا. يتحتم بلا شك تطوير النقاشات في هذا الموضوع حين يتم صياغة البرامج والنظريات الاشتراكية الجديدة.
ولو دققنا في الأمر سنتلمس ضرورة تطوير الموديل الاشتراكي لا محال. إنه نموذج لتطوير الإنسان، وبه يتمكن الإنسان من التحكم بكل شيء ومراقبته. يمكنكم من خلاله التحكم في التزايد السكاني وإقناع المجتمع بذلك بكل تأكيد. فالرأسمالية لا تُقنع المجتمع بل تزج به في متاهات الطيش وتستغله وتهدره. أما الاشتراكية فليست كذلك، ذلك أنها تُقنع وتحث على العمل الطوعي في كل شيء. الخطر كبير، فالكل يغفو في غفلة كبيرة حينما يقال بالتقليل من نسبة ثاني أوكسيد الكربون على سبيل المثال. حيث يقال؛ فليكن العدد السكاني قليلاً ولنقتات من الخيرات الموجودة.
لقد أوجد مجتمع متطفل ومبذر بشكل مريع، يسعى فيه الكل إلى التهام الطعام والبذخ أكثر. إنهم وحوش التبذير والاستهلاك! وعندما يتحول الكل إلى وحش مستهلك في المستقبل القريب، لن يبقى هناك عالم يمكن استهلاكه، عندئذ سينهشون لحم بعضهم.
أجل، في النموذج الاشتراكي العلمي لا يمكن أن تتواجد التخريبات في الطبيعة أو يحلق الظلم والإجحاف بالمجتمع. ويمكن القيام بالتخطيط السكاني والتوازن الاقتصادي المبرمج. إذن، الاشتراكية اليوم هي اسم للنضال ضد طيش الاستهلاك والهدر وتخريبات الطبيعية وأسر المجتمع من قبل الإعلام المكور والعديد من الآفات الأخرى المشابهة له.
لا يكفي المفهوم الاشتراكي السائد في القرن التاسع عشر بالتأكيد. إنه مفهوم صارم ومتصلب دوماً، وينادي بـ"الطبقة تجاه الطبقة، والتحرر الوطني تجاه الاستعمار". قد يلزم ذلك نوعاً ما، إلا أن الوجه البارز للمسألة يكمن في تطوير الديمقراطية الاشتراكية وتصعيد النضال أساساً ضد التخريبات الكبيرة الملحقة بالطبيعة وطيش الاستهلاك المتفشي. قد يكون هذا فحوى البرنامج الجديد للاشتراكية. وبرنامج كهذا سيكون التعبير الأكثر شفافية للاشتراكية من جهة، وتعبيراً عن تحرر البشرية بحد ذاتها من جهة أخرى.
بهذا المعنى، الاشتراكية هي المستقبل الوحيد للبشرية.
في الماضي كان يقال "التحول الاجتماعي"، واليوم نسميه باسم "الاشتراكية". تبدأ الحيوانية عندما تغيب المجتمعية (التحول الاجتماعي)، وينشأ حينها أخطر الوحوش في أجواء الرأسمالية. لهذه العلة يعد النضال الاشتراكي السبيل الوحيد للخلاص في هذه المرحلة الامبريالية الرأسمالية. إنه شرط أولي لا غنى عنه. وإن لم يتم الوقوف في وجه حيوانية سائدة لهذه الدرجة ستواجه البشرية الزوال لا محال. بهذا المعنى أقول أن الإصرار على الاشتراكية يعني الإصرار على بناء الإنسان.
أفضل جواب نعطيه ليوم 1 أيار، العيد التقليدي لوحدة وتعاضد وكفاح الطبقة الكادحة، هو امتلاك القرار الحاسم والملموس بشأن المواقف الأساسية الواجب إبداؤها حسب الحاجة بصدد رؤية العالم وممارساته العملية الخاصة بهذه الطبقة. ويظهر التحلي بهذه القدرة التطبيقية أمامنا كوظيفة مرتقبة.
كما أن الاحتفال بهذا اليوم بحشد جماهيري غفير شرط لا غنى عنه لنجاحنا في وظيفتنا تلك وإضفاء المعاني المؤثرة أكثر للاشتراكية، وخاصة بعد انهيار الاشتراكية المشيدة وتدني اعتبارها وتكاثف المحاولات للحط من شأنها. ومثلما لم يقل شأن تحديد المشاكل الأساسية الخاصة بالإنسان، سواء تاريخياً، أو حاضراً، أو إيجاد طرق الحل اللازمة لها؛ لربما أصبحت هذه الوظيفة إلى جانب ذلك تتسم بمعاني أفضل لإدراك فحواها مع مرور الأيام، وتغدو في صدارة المهام العاجلة التي لا يمكن التلكؤ فيها قط.
لا شك في أن انهيار الاشتراكية المشيدة لم يقلل من مشاكل الرأسمالية، ولم يعنِ أيضاً فوزها ونصرها كما يدعي البعض. بل على العكس من ذلك، إنها أصبحت تقف وجهاً لوجه أمام مشاكل أكثر ثقلاًَ بحيث تسحقها تحت وطأتها وتزج بها في طريق مسدود.
يمكننا القول أن علامات الانهيار تتبدى على الرأسمالية القائمة بنسبة لا يمكن مقايستها بأي مرحلة أخرى. حتى أن أكثر المفسرين تفاؤلاً يصرّحون بأن التاريخ يكاد يتوقف عن الجريان. قد يسمي البعض ما هو موجود بأنه "ظفر لانهائي للرأسمالية"، إلا أن كل المؤشرات تدل على حقيقة يُجمع الجميع فيها على أن هذه "اللانهاية" قريبة من يوم القيامة. لقد زجت البشرية في مسننات الاستهلاك والهدر الضخم بنسبة لا قرين لها، وأوقعتها في وضع تكاد لا تستطيع فيه التقاط أنفاسها من لهثها ذاك. وعاد من المستعصي تخمين المكان الذي ستصطدم به لتتابع بذخها وإسرافها ذاك. وهذا هو بالذات أصل الأزمة الخانقة والسوداوية واليأس المتفشي.
كل الطبقات الاستعمارية القمعية عامة، والطبقة الاستعمارية التعسفية العمياء بنظامها الرأسمالي – البورجوازي الذي تستند إليه خاصة؛ قد فقدت معناها وأهميتها تماماً. ومع ذلك صارت تشكل بلاء مسلَّطاً على المجتمع برمته منذ مدة لا بأس بها.
كثيراً ما قيل في ثورة أكتوبر "تشرين الأول" بأنها ثورة أُجهِضت مبكراً، وبالتالي أسفرت عن اشتراكية مثقلة بآفات بنيوية شديدة الوطأة ومبنية عليها بحيث لن تنجو لهذا السبب من الانهيار.
بإمكاننا تطبيق ذلك على الثورات المتحققة في المراحل الأكثر قدماً في التاريخ أيضاً. ففي كل انقلاب في الأوضاع أو كل ثورة قائمة، تكون الطبقة المشكّلة للأرضية الأساسية للسلطة الثورية اليسارية والراديكالية أكثر من غيرها، هي نفسها الطبقة القابعة في الأسفل والمناضلة في أحلك الظروف وأصعبها. وما العبيد والأقنان، ومِن بعدهم العمال، سوى طبقات كادحة يطرأ عليها التغير مع حصول بعض التغيرات في الظروف العامة.
كما أننا نعلم علم اليقين أن الطبقات الحاكمة أيضاً تغير من شكلها لتستمر في وجودها إلى راهننا. وما أضافته الرأسمالية – الامبريالية لم يكن سوى فرض عدمية الشكلية على الطبقات، وإيصالها إلى حالة لا تقدر فيها على الكفاح بهذا الشأن. ولهذا السبب استُخدِم التقدم التقني في الميدان الإعلامي لتوسيع نطاقه إلى جانب الحرب النفسية والأيديولوجية والثقافية المنظمة تماماً لنفس الغرض. والأنكى من كل ذلك تعريضها المجتمعَ لقصف يكاد يختنق تحته لتتمكن من إدارته وتوجيهه.
إنه لأمر مدهش! سابقاً كان الحكام يسعون لفرض الخنوع والإذعان على المجتمعات عن طريق الأسلحة النارية والغارات الجنونية، إلا إن مثل هذه الحروب لم تعد لها حاجة في يومنا، حيث حلت محلها الغارات الروحية والأيديولوجية والثقافية الأكثر تأثيراً. والتقنية الموجودة تساعد على ذلك بكل معنى الكلمة. لهذه العلة نرى أن الفرز الطبقي والأمور الواجب فصلها عن بعضها بأنواعها المتمايزة، إنما تتشابك وتتداخل فيما بينها. بالإضافة إلى دخولها في حالة تمكنها من الركض وراء أوامر طبقة ما بشكل أكثر خبثاً ودهاءً واستغلالاً وقمعاً خفياً ومكراً.
وإذا كنا لا نستطيع الحديث اليوم عن حدود فاصلة وواضحة لطبقة ما، فالسبب الأهم في ذلك يكمن في هذه النقطة. في الحقيقة، هذه هي ظاهرة الكدح والطبقة المعتمدة عليه مهما طرأت عليها تغيرات في الشكل والمضمون. إلا أنه يتوجب إيجاد تعريف سليم للطبقة الاستعمارية الحاكمة التي تغير من شكلها أكثر وتوسع من نطاقها لتتسربل في كافة خلايا المجتمع.
لم تعد تكفي التسميات والتعاريف الطبقية الكلاسيكية من قبيل "رب العبيد"، "رب الأرض"، "رب المعمل".
كما لا يكفي إطلاق تعاريف مثل "البورجوازية الوسطى" أو "البورجوازية الصغيرة". وإذا كنا نود تفهم الاشتراكية جيداً، يتحتم إذاً صياغة تعاريف والقيام بتحليلات طبقية تأخذ الواقع الحالي القائم بعين الاعتبار. ونخص بالذكر هنا وطناً مثل تركيا، حيث كانت البداية فيه بأيديولوجية تزعم فيها بأنه "نحن جماهير لا طبقية، ولا تمايزات أو امتيازات بينها". فهذا الوضع الجديد يتسم بأهمية أكبر في هذا المضمار.
حلت الأساليب الأيديولوجية والنفسية محل القمعية والفظة منها، مما جذَّر ذلك التشابك وزاده تعقيداً. فالمحتكرون للامبراطورية الإعلامية والمعلوماتية يقومون على توجيه المجتمع وإدارته على نحو أشد خطراً من أعتى الحكام وأكثرهم ضراوة. لقد تطورت منزلة التقنية في الإنتاج أكثر من السابق. وعوضاً عن قوة العضلات الفظة ترك الإنتاج مكانه لإدارة التقنيات الجديدة -وإن كانت هي الأخرى تعتمد على ذلك بالأصل- ليشل من تأثير كدح القوة العضلية. أي أن ما هو سائد هو الإضعاف من الجانب المرتكز إلى القوة العضلية والكدح الفكري لدى الإنسان الكادح بنسبة ملحوظة.
وكأن الزمر الاحتكارية، وعبر الثورة العلمية – التقنية التي طورتها، تقول للإنسان "لم يعد لك لزوم جدي". وارتباطاً بهذه الخاصية للرأسمالية نرى البطالة تتفشى في الأرجاء لدرجة تكاد البورجوازية تعلن صراحة أنه لا حاجة لوجود المجتمع ولا أهمية له، مع أن ما هو عديم الأهمية هو - بالأصل- الرأسمالية القائمة بحد ذاتها. إلا أنها، وانطلاقاً من احتكارها للنفوذ الأكبر والهيمنة وقوة الإدارة وشبكات التأثير والتبادل، تقول للمجتمع "أنت عديم القيمة" وتعمل على ترسيخ قناعتها تلك. هذا فضلاً عن أنها تطبِق الخناق على كوكبنا وتكاد تقطع أنفاسه. بمعنى آخر، إن القضاء على الاخضرار في الطبيعة ليس إلا كبت لأنفاس الإنسان. إنهم ينسفون سقف كوكبنا كلياً.
فبحدوث الثقب في طبقة الأوزون يصبح عالمنا في مواجهة شتى أنواع المخاطر والأهوال. ومن جانب آخر ثمة الخطر الذّري الذي بإمكانه إقامة القيامة في كل لحظة. لا شك بتاتاً في أن المسؤولية تقع على كاهل الرأسمالية القائمة في ظهور بعض الآفات والأوبئة الخطيرة من قبيل السرطان ومرض الإيدز، وفي الانفجار السكاني المختل والمتضخم باستمرار بحيث لا يمكن حسم النهاية التي سيؤول إليها عالمنا والإنسانية. وإنها تزيد من وطأة هذه المعضلات طردياً لتصبح أزمة حادة خانقة. أي أن أنفاس الإنسانية تُكبَتُ دوماً، سواء على الصعيد الروحي أو الفيزيائي. يتم القضاء على تشبث الإنسان بالحياة ودواعيه الأساسية فيها، ونسف كل الجماليات، وشل تأثير دور كل من الدين والفلسفة. تشكِّل حالة الإنسانية المصابة بالعمى، والإنسان المصاب بالتقزم المضطرد كحشد غفير من النمل القزم، خطراً جدياً حقيقياً. أما النظام المتواري وراء كل ذلك فهو، الرأسمالية المكوَّرة.
أما الاشتراكية المضادة تماماً لذلك فقد وقعت في النقصان. واليوم تدور النقاشات حول أسباب ذلك.
كيف يمكن تحقيق حاكمية أيديولوجية تقدر على التغلب على النظام الامبريالي – الرأسمالي ثانية؟
هذه هي الساحة الأصلية التي يجب أن تتركز عليها النقاشات. فالدفاع عن الرأسمالية الموجودة لا يعني سوى القبول بيوم المحشر لأجل البشرية والقضاء على غدها الآتي، والسقوط بها في نهاية مأساوية واهية لا تدعها تقدر حتى على النضوج بقدر ما حصل في مرحلة البشرية البدائية. إن نوبات الطيش الجنونية للمجتمعات الاستهلاكية الحالية تُسهّل علينا صياغة تعريف كهذا للواقع القائم. وإذا كانت البشرية ستحيا لا محال – وهذا قانون ساري المفعول على البشرية بقدر صحته لقوانين الطبيعة على الأقل – يستحيل عندئذ القبول بهذا الوضع السائد. إن النقاش على هذا الوضع وبلوغ طريق الحل المرتقب، يدل على وجود حاجة ماسة لأيديولوجية وتعاليم أولية وتطبيقها على أرض الواقع، سواء أسميناه ذلك بالاشتراكية العلمية أم بالاشتراكية المتحققة بنسبة كذا أو كذا.
إننا ندرك كل الإدراك أن الاشتراكية العلمية لم تولد في يوم واحد، وهي ليست ثمرة تجربة عائدة لوطن واحد، بل حتى أنها ليست نتيجة للرأسمالية الأوروبية فحسب. فميول القطاعات الاجتماعية صاحبة أكثر التحولات راديكالية في كل المراحل الاجتماعية، وخاصة في فترات الارتجاجات والانقلابات الثورية؛ قد نمَّت على الدوام عن ظهور الميول والأفكار المؤدية إلى تطوير الاشتراكية. بمعنى آخر، إنها أفكار وممارسات عملية متطورة بالتوازي مع التحول الاجتماعي "المجتمعية". أما المرحلة الرأسمالية فقد أضفت على هذه الأفكار والعمليات قوة تعبيرية علمية للتعريف بها، لتصل بالتالي إلى صياغة الاشتراكية العلمية مع مضي الزمن.
لا شك في أن للاشتراكية العلمية أخطاؤها ونواقصها مثلما هي الحال في كل الأنظمة الاجتماعية الأخرى. حتى في الثورة الفرنسية المتحققة في أعتى مراحل الرأسمالية وحشيةَ، كان اسم "الشيوعيون" يطلق على أكثر القطاعات راديكالية. هذا بالإضافة إلى أن الشرائح اليسارية للثورات البورجوازية اللاحقة لها أيضاً كانت تسمى بـ"الاشتراكيون، الشيوعيون". وفي كمونة باريس 1848 – 1870 كان الشيوعيون هم المؤثرون أيضاً ويستلمون دفة الحكم في ثورة أكتوبر. ومن ثم ينتشر هذا الوضع ليعم الأرجاء كلها فيما بعد. لا ريب في أن الاشتراكية اتسمت بالعلمية أكثر في هذه المرحلة، إلا أنه لا يمكن الادعاء بأنها الكلمة الفصل في صياغة الاشتراكية. لذا فإن تعريف الأوطان التي تحققت فيها الاشتراكية المشيدة وادعاءها بأنه "وصلنا إلى الشيوعية مبكراً" أمر بعيد عن الصحة والواقعية.
إننا الآن ندرك على نحو أفضل أن كل حركة انبثقت في كافة الثورات الكبرى، ونزعت إلى الكدح وتبنته؛ إنما تتضمن في أحشائها محتوى اشتراكياً نوعاً ما، أو أنها تتهيأ للاشتراكية وتمثيلها.
لنبدأ من انطلاقة سبارتاكوس التي تعد إحدى أهم التمردات الأساسية في العهد العبودي، وحتى كل المراحل الثورية الهامة على وجه التقريب، وسنرى أنها جميعها ساهمت لحدٍّ ما في الكفاح، وبالتالي في تاريخ الكفاح الاشتراكي.
حتى الثورة الإسلامية، وحتى الصراع الدائر بين الإسلام الرسمي والإسلام المعارض، يتضمن خصائص كهذه. ويمكن تسمية ذلك بالصراع المذهبي بين السنية والعلوية. على سبيل المثال حتى أكثر الشرائح الموالية لسيدنا علي راديكاليةَ تعد – حسب تلك الظروف – اشتراكية أو يسارية. أما الإسلام المتحقق فهو القسم السني منه أو ما يقال له الإسلام الرسمي. ويمكن وضع فصل كهذا بكل سهولة.
الأمر كذلك سواء في ثورة أكتوبر أو الثورة الفرنسية، بدءاً من الفئات اليمينية وحتى اليسارية الراديكالية منها. كما أن ثورة أكتوبر أيضاً كان لها يمينيوها والمنتهجون للخط الوسط. أما القسم الراديكالي المسمى بالحزب البلشفي فيشكل الشيوعيين.
الحقيقة الساطعة التي تتبدى هنا هي أن نضال الاشتراكية والشيوعية طويل بقدر التاريخ البشري. إلا أنه كثيراً ما تم الانزلاق في المواقف المغالطة المضخّمة للذات، كمرض إعلان تيار ما عن نفسه خلال مدة جد وجيزة بأنه التيار الحاكم والمتوجه قدماً نحو النصر المؤزر على الصعيد العالمي. تماماً مثلما في ظاهرة النبوة، حيث يتم تقييم الذات بأنه آخر دين وآخر كلام. وبما أن سياق التطور الاجتماعي ما فتئ يستمر في منحاه، فإن أحاديث كل مرحلة هامة إنما تمهد السبيل في الأصل إلى ولادة تطورات أخرى جديدة تتجاوزها وتتعداها. وهنا، دعك من أن تكون آخر كلام، يبقى كلامك قديماً بالياً. ولكن هذا لا يعني أن الأقوال والأحاديث المُقالة لا تحظى بأية أهمية أو معنى، بل إن ما حصل هو أن الإسلام والليبرالية البورجوازية وحتى الاشتراكية قد أسفرت عن تطورات هامة لا يستهان بها حسب زمانها ومكانها الذي ظهرت فيه لتترك للتاريخ ميراثاً هاماً للغاية. أي أنها لم تذهب سدى، بل إن التطور الاجتماعي والحرية قد تطورا بفضل مثل هذه الكفاحات لدرجة ما. ونخص بالذكر هنا النضال الاشتراكي الذي يعد اسماً لأهم تطور حصل. ذلك أن كل التطورات الموالية للكدح والإنتاج والإبداع إنما حققت تقدم البشرية على ضوء وجهة النظر الأيديولوجية هذه على الأغلب.
بإمكاننا القول أنه ثمة فوضى وأزمة خانقة سائدة على العموم في يومنا الراهن. إن الرأسمالية تزعم أكثر من أي وقت مضى بأنها نظام كوني عام تماماً. وحصيلة النواقص البارزة في الاشتراكية المشيدة وانتهائها بانهيارها على يديها هي، إنما يمد الرأسمالية بالفرصة لتزداد ثقة وقوة في ادعائها هذا. لكن الحقيقة هي عكس ما تزعم أو تصرح به.
تزداد حاجة الأزمة المتزايدة تعقيداً للاشتراكية طردياً.
البقاء بلا اشتراكية يعني الحرمان من الهواء.
يكمن الحل للأزمة المتزايدة في وطأتها أكثر من أي وقت مضى، وبالتالي لكافة المشاكل البارزة نتيجتها، في الاشتراكية التي تجد تعبيرها العلمي في المجتمعية. من المستحيل للرأسمالية أن تجد في داخلها حلولاً للدمار الفظيع الحاصل والمشاكل التي يستعصي عليها الخروج من تحت وطأتها.
من المستحيل حل هذه المعضلات عن طريق ثورات علمية – تقنية كهذه. ذلك أن الثورة العلمية – التقنية المسخرة في خدمة الرأسمالية ليس باستطاعتها فعل شيء سوى تجذير الأزمة الموجودة في النظام أكثر فأكثر.
الحل إذن، يكمن مرة أخرى في الواقع الاجتماعي ومساره الاشتراكي.
ولكن أي اشتراكية؟
ثمة حاجة ماسة لإرساء الاشتراكية وتكريسها سواء من الجانب النظري أو العملي. وبقدر الحاجة لإعادة النظر في النواقص الظاهرة في تاريخها وتخطيها، ثمة ضرورة حيوية لتقييم الأزمة الخانقة المتفشية في يومنا بعين موضوعية، وفرض قوة الحل اللازمة لها. وبدون اتباع سياسات جديدة بصدد كل المسائل، بدءاً من التحليلات الفكرية وحتى تحديد المواقف اللازمة كجواب للمعنويات النفسية، ومن كيفية تداول البنية الفوقية السياسية إلى إعادة ترتيب وتنظيم الاقتصاد؛ يستحيل إعطاء جواب حاسم وحازم على سؤال "أيّ اشتراكية؟".
في بداية حديثي أيضاً كنت قد أوضحت أنه ثمة مساعٍ حثيثة للإطباق على أنفاس عالمنا وخنقه بالمشاكل المنبثقة من الرأسمالية، وثَقْبِ غلافه الجوي أيضاً. هذا الخطر الذي يذكرنا بيوم الحشر يسفر عن آفاق اجتماعية استهلاكية مريعة، وظهور حشد غفير من أناس أقزام تحولوا إلى نمل صغير أو حبات رمل مصفوفة فوق بعضها.
هناك ضرورة حيوية قصوى لإرشادات وتحديد مواقف اشتراكية تعيد للإنسان اعتباره وكرامته، وتحقق الوئام بين وعيه وأخلاقه وبين الطبيعة، وتنبيهه إلى التناقض الكائن بينه وبين الطبيعة وتعميقه لحله. بالإمكان القول بكل ثقة وقوة، وأكثر من أي وقت مضى، أن التوازن الذي أسسه النظام الرأسمالي – الإمبريالي بين الإنسان والطبيعة يتحول إلى تناقض مدمر على نحو خطير ومرعب للغاية. مثلما يؤدي تنظيمه الاجتماعي بالإنسانية إلى علاقات استهلاكية مسرفة. أي أنه قد مهد الطريق لظهور هذين التناقضين المكوَّرين "العالميين".
وهنا بالذات، بإمكان الاشتراكية الموجودة التعريف عن ذاتها بشكل صائب من خلال إعطائها الجواب اللازم لهذين التناقضين الأوليين. كما أن فرض الحلول الثورية لمشكلة علاقات الإنسان مع الطبيعة- ويسميها البعض بالعلاقة مع البيئة- وتحليلها على نحو صائب، شرط حيوي لا مفر منه مقابل محاولات الحركات المعنية بشؤون البيئة والاخضرار وغيرها من الحركات التي تسعى لدراسة المشكلة على نحو إصلاحي. وتجاه نموذج المجتمع الإمبريالي المتقزم في مضمونه كالنمل، من الضروري إعادة تخطيط النسل والإنتاج وتنظيم البنية الفوقية والتعريف مجدداَ بالجوانب النفسية والأخلاقية للإنسان. إن القدرة على إيجاد الحل اللازم لتناقض شامل كهذا، ستسفر عن تكييف الاشتراكية مع متطلبات العصر. لذا لا يمكن الاكتفاء بالتعريف الطبقي الضيق لها.
لم يعد هناك طبقة عاملة مثلما كان في القرن التاسع عشر
وهنا تكمن نقطة عقم أخرى للاشتراكية القائمة، حيث تسود التقربات حسب وجهات نظر تعود للقرن التاسع عشر من القضية، ويقال من خلالها "كذا طبقة عمالية، وكذا طبقة عمالية". في الأصل، لم تبق في الوسط طبقة كهذه. أو بالأحرى، مضى العهد الذي كانت فيه الرأسمالية تكتفي باستعمار طبقي بمعناه الضيق ذاك.
ثمة استعمار طبقي بالمعنى الضيق، ولكنه اتخذ أبعاداً عامة وصفناها بأنها مستجدات تأسر المجتمع بأسره من خلال الثورة العلمية- التقنية والعالم المعلوماتي والإعلامي وما يتمخض عنهما من متغيرات. وقد تطورت أساليب نهب ونصب وقمع مريعة بنسبة لا يمكن مقايستها حتى بما كان يحدث في القرن التاسع عشر.
من هنا، فالقيام بتقييم حاضرنا بوجهة النظر التي كانت سائدة في تلك المرحلة إنما يعني مغالطة كبرى بحق الحقيقة. إننا نجد ذلك في الجدالات الاشتراكية الجارية، وهذا ما يعني ضيق الأفق. إن دراسة هذا الوضع ستسلط الضوء على أساليب الحرب، أي على المشكلة التكتيكية. فالتكتيكات القديمة لم تعد وافية في يومنا الراهن. ومثلما أن المجتمع محاصر بطوق خانق من القمع والاستغلال على نحو متكامل، فإنه هناك حاجة ضرورية لتطوير أساليب نضالية معنية بكل المجتمع بالتأكيد.
لقد أخلَّ النظام الرأسمالي- الإمبريالي بالتوازن الطبيعي بالنسبة للإنسانية جمعاء. لذا ثمة ضرورة قصوى لإرشادات تخاطب كافة فئات وشرائح المجتمع بأوسع نطاقاتها. بمعنى آخر، بقدر ما ترد الاشتراكية على أسئلة "كيف يجب أن يكون البرنامج الاشتراكي الجديد؟ كيف تكون وجهة النظر الجديدة التي يعتمد عليها ذاك البرنامج؟ كيف هي التكييفات التي تحول وجهة النظر تلك إلى عملية على أرض الواقع؟"؛ حينئذ تكون قد أرست ذاتها وتعززت مرة ثانية واكتسبت قوة تخوِّلها لحل المشاكل القائمة في الواقع.
إن نقاشاً كهذا لهو أمر واقعي ومنطقي. من هذا المنطلق سيتقرب كل من يرغب إبداء تقربات جذرية في تداوله للقضايا الإنسانية ومن يهتم من الصميم بمصير البشرية، باهتمام أكثر عمقاً من الاشتراكية، وسيسعون للتحكم في الأمور بإيجاد الأجوبة اللازمة للمشاكل الجديدة.
تنتصب المهام أمامنا. ثمة اكتفاء بالأساليب القاصرة في دراسة الموضوع، لذا يستلزم تجديد النقاش والتركيز على صياغة تعريف جديد للاشتراكية – بالمعنى العصري- على الصعيد البرامجي والعملياتي والتكتيكي. بناءً على ذلك يمكن تشييد أحزاب اشتراكية جديدة وتطوير نماذج عملياتية جماهيرية حديثة. كما يمكن البلوغ بالثورة العملية – التقنية إلى مستوى من القوة يخوِّلها لتطبيق الحل اللازم للمشاكل القائمة بكل تأثير من خلال التحلي بوجهة نظر اشتراكية أثناء ذلك. ومثل هذه المواقف ستؤول -لا محال- في أقرب فرصة إلى التصعيد من الاهتمام بالاشتراكية والإظهار بأنها منبع الحل الأساسي، والكشف عن مرحلة اشتراكية ملائمة للمطلوب في مواجهة الرأسمالية التي قد دخلت أشمل مراحل انهيارها.
وبقدر ما يعتبر حزبنا PKK حركة قامت بانتقاد النتائج السلبية المتمخضة عن الاشتراكية المشيدة في هذا الإطار وتبيان موقفها تجاهها، فقد نجح في عدم عكس هذه التأثيرات السلبية على صفوفه، وتنبه إلى أن اشتراكية كهذه إنما هي قاصرة عقيمة. إلا إنه في نفس الوقت يعد حركة لم تفقد رغم كل ذلك إيمانها المطلق وثقتها الأكيدة بالاشتراكية الصحيحة، بل أبدت مواقفها حسبها.
إنه قوة قامت بتكييف ذلك على وجه الخصوص مع الظروف الاجتماعية لوطن يعاني أشد درجات التخلف، مثل "كردستان"، ويتسم ببنية اجتماعية بدائية؛ وكلها عزم وإصرار في ذلك، متسمة بالاستقلالية في سلوكها هذا، مما نمَّ ذلك نتائج هامة. إنه حزب مؤسس على هذه الأسس.
بهذا المعنى تعد تجربة PKK حركة متطورة ذات أعظم عملية اشتراكية وأرفع نهج ايديولوجي اشتراكي في مرحلة اتجهت فيها الاشتراكية المشيدة إلى الانهيار نتيجة انسدادها الداخلي بعد أن حازت على توازن معين مع النظام الرأسمالي – الإمبريالي على الصعيد العالمي، مما أسفر ذلك عن سقوطها من الانظار وتهاويها بنسبة ملحوظة. وبمنزلتها هذه تعد حركة PKK شبيهة نوعاً ما بالحركات النادرة التي أفلحت في الصمود في مراحل التخلف وسيادة الرجعية، إلا أنها تميزت بمكانة مشرفة معززة في نفس الوقت.
وبالطبع إنها حركة لا تترك حلبة الصراع، بل تتشبث بعزمها وإصرارها وتُظهِر أعلى درجات بطولاتها حتى في أعتى الظروف التي يسود فيها النظام الرسمي المهيمن ويلهث الجميع للارتماء في أحضان الرجعية. كما أنها في الوقت عينه حركة مميزة بمزايا تؤهلها للنطق باسم البشرية سائرة.
كل حركة تحررية عظيمة، كلما تصدت بنجاح لمرحلة التعصب والتحجر على الصعيد الكوني العالمي، لن يكون بمقدورها حينئذ إيجاد الحلول حسب ظروف الشعب والوطن الذي نشأت فيها فحسب، بل وستقدر على أن تكون ناطقة باسم آمال الإنسانية كلها وتطلعاتها إلى جانب ذلك. ومن الحري بنا التذكير هنا بأن المسيحية أحياناً والإسلام أحياناً أخرى والثورة الفرنسية وثورة أكتوبر أحياناً ثالثة قد حملت على كاهلها هكذا مهام، وتمكنت من تأدية أدوارها في النطق باسم الإنسانية لدرجة لا يمكن استصغارها.
ونحن، وإن لم نكن مستعدين لذلك في البدايات، وإن ذكرنا بأننا حركة وطنية؛ إلا أن الظروف الدولية والمستجدات الإقليمية الحاصلة إنما تدفع بـPKK نحو تمثيل الاشتراكية على الصعيد الكوني العالمي، بل وتفرض عليه مساراً كهذا. ولو أننا لم نكن ننتظر ذلك في البداية، بل إن الظروف المتغيرة بسرعة البرق والمتعقدة في داخلها قد وضعت أمام حزبنا مهمة كهذه؛ إلا أننا نفتخر بذلك دون شك. لكن ذلك يشترط علينا بالتأكيد أن نعي مضمون هذه المهمة الملقاة على عاتقنا على نحو صائب، وتحديد كيفية مساهمتنا فيها بشكل سليم.
طالما شهدت منطقة الشرق الأوسط ميلاد العديد من الأيديولوجيات، وخاصة الأديان. وظهورها باسم الإنسانية وتطويرها عمليات ذات عزم وإصرار. وكونها مهد تكوُّن البشرية وتشكل كيانات كل الحضارات الأساسية، فهي تحدد بذلك مكانتها في سياق تطور البشرية ومواقعها الاجتماعية. وليس من الصدفة أن تظل حتى اليوم متسمة بالعزم والإصرار في إيجاد الحلول رغم ولوج البشرية هنا في أصعب الظروف ومعاناة الإمبريالية لأشد درجات الأزمات الخانقة.
طالما برهن التاريخ بأمثلته العديدة على أن الانطلاقة الثورية تتطور بحدة في المكان الذي تحتد فيه الأزمة. واليوم فإن الوطن كردستان، الذي يعد أكثر مناطق الشرق الأوسط تخلفاً، والشعب الكردستاني، الذي رُمي به في زاوية النسيان وأُخرج من إطار الإنسانية؛ يسعى اليوم ويكافح ليفتح عيونه على الحياة مرة ثانية بعد أن كان مهداً للبشرية باعتبار يقطن أقدم الأراضي في التاريخ. وعندما يفتح عيونه على الحياة يجهد لتحقيق ذلك بخطوات أشبه ما تكون بالخطوات العظيمة التي خطاها في تطوير البشرية في بدايات التاريخ. وقد كانت هذه الخطوة من نصيب PKK – نوعاً ما – ليعبر عن عظمتها في ذاته.
من هنا، وبقدر ما يتسم حزبنا بالوعي التاريخي، فهو يدرك أيضاً ماهية الدور الذي ينيطه الواقع الحالي بالاشتراكية، ويسعى للنطق باسمها وتمثيلها. وبقدر مضمونه الأممي في هذا المضمار فقد أظهر أيضاً مضمونه الوطني بأرقى الأشكال، وبرهن على أنه لن ينكث عهده ذاك من خلال الشهادات القيّمة الكثيرة والتضحيات الجسام التي قدمها. وبينما يتوجه بشعبه نحو التحرر والخلاص، إنما يؤمن كل الإيمان بأن الإنسانية أيضاً تتحرر بذلك، وأنه خطا خطوة هامة على هذا المسار. إنه يقوم بذلك بكل وعي وإدراك.
لا ريب في أن PKK هو حركة تعرضت طيلة مراحلها التاريخية للمؤامرات الدولية الرجعية بحيث لا أظن أنه ثمة حركة أخرى حوصرت بمؤامرات دولية واسعة النطاق على هذا النحو. إن صمودها كأقوى حركة اشتراكية وتحررية وطنية قد مهد لتعرضها للمؤامرات الدولية، لكنها قاومت ولم تُسحَق أو تفنى. وفي كل حملة جديدة لها برهنت على تغلبها الساحق بتمثيلها للاشتراكية وبمواقفها الأبية في الحرب. ناهيك عن احتمال التغلب عليها، بل إنها لا تبرهن بذلك على كونها الحركة المرحلية القوية المنيعة والسليمة بخطاها الواثقة فحسب، بل وتثبت في نفس الوقت أنها حركة اشتراكية كخاصية أساسية تكمن وراء تحقيقها كل ذلك. لا محال في أنه يستلزم التعبير عن الوعي التاريخي والعصري بصياغات أكثر علمية، وإيجاد الأجوبة والردود الحديثة العميقة لحل القضايا المتواجدة. هذا فضلاً عن إيجاد تعاريف على أسس جديدة لكل من مصطلحات حزب الكدح، الديمقراطية الاشتراكية، عمليات الدولة – الشعب. وقد تبدى للعيان في ممارستنا العملية الملموسة وبتكتيكات متنوعة للغاية بأننا حركة جماهيرية واسعة النطاق.
يفتح حزبنا درب التحرر والخلاص للمجتمع برمته، لا للفقراء البؤساء فحسب، بل ولكافة القطاعات الاجتماعية الأخرى أيضاً. وبمقدوره إبداء مواقف حالَّة ومحرِّرة شاملة للغاية تجاه مسائل استغلال الكدح واستعباد المرأة والضغوطات المتمخضة عن الفوارق المذهبية أو التناقضات القومية الضعيفة. ولا يزال مستمراً في تقدمه رغم كل المصاعب والنواقص، ويعمد لأن يكون حزباً لأصحاب الكدح على أساس احترم الكدح. لقد تداول مسألة الشخصية وطراز الحياة بكل بطولة وتضحية وفداء يليق بالنَسَب البشري وعلى نحو شامل لا مثيل له في أي حزب آخر. وبالتالي طوَّر الأجوبة اللازمة بما يتماشى وتلك الشمولية.
الإنسانية التي تعيش حقيقة PKK تعني الإنسانية المتحررة.
لقد حققنا ذلك بأصغر أبعاده. وإذا ما أفلحنا في إحراز النصر المؤزر في ذلك بالنسبة لشعبنا، فإننا نعلم علم اليقين أن ذلك سيكون مكسباً عظيماً لا يُقَدَّر بثمن باسم الإنسانية جمعاء. وقد عرفنا هنا كيف نحول التحرر المحقق في الفرد إلى تحرر يحقق على صعيد الشعب.
وإننا متشبثون أكثر من أي وقت مضى بمبدأ تحويل الخلاص والتحرر المتحقق في الشعب إلى خلاص وتحرر على صعيد البشرية سائرة. كلنا ثقة بالإنسانية، ونعلم جيداً أنه ثمة حياة تليق بالإنسان. ولأننا مرتبطون بذلك من الصميم، فنحن نهب حياتنا للإنسانية على نحو قد لا يكون له قرين في أي حزب آخر.
وحركة كهذه تعيش المجتمعية بهذا القدر، وتبدي أسمى آيات الجسارة والفداء بهذا القدر، لا يمكن أن تكون إلا أفضل وأجود حركة اشتراكية. وقد حاز PKK على نصيبه المشرف في تمثيل ذلك بكل فخر. ولا شك في أننا سنحمي هذه المزية الأساسية لحزبنا كنور عيوننا. وما كل هذه الشهادات الحاصلة إلا خطوات تمت على هذا الأساس، ولأجل ذلك لا غير. ومثلما ظهرت كل هذه المقاومات العظيمة والتضحيات الجسام بفضل هذا الجوهر المنيع، فإنها تتواجد أيضاً لأجل حماية هذا الجوهر. وقد ظهرنا نحن إلى الساحة بهذا الإيمان، وبه كبرنا وعَظُمنا. وكلنا ثقة بأن عظمتنا هذه لن تكون ممكنة إلا بحماية هذا الجوهر وتكريسه أكثر فأكثر، وأننا مكلفون بمهام كهذه في هذا المضمار. إننا نعي ذلك من الأعماق، ونحس بمسؤولية تمثيله وتطبيقه بأعلى الدرجات.
لقد تصاعدت وتيرة العمل وطراز إلحاق الضربات اللازمة بنسبة مهمة. وأُعطيَ جوابٌ لا يستهان به لنداء القيادة الذي صرحت به في تحليلاتها، والذي يقول "مَثِّل الشعب في ذاتك، مَثِّل الإنسانية الجديدة في ذاتك، ولأجل ذلك ابلغ أرقى المستويات الإنسانية، وافعل ما يتطلب منك في سبيلها".
هذه الحقائق التي لم يفهمها سوى نسبة معدودة من قوتنا الحزبية، ستتطور تصاعدياً من الآن وصاعداً لتنعكس على موجات متتالية على شعبنا وشعوب المنطقة والإنسانية جمعاء. إن الارتباط بسمو المبادئ الاشتراكية، والتقرب منها بعلمية، يشكل حقيقتنا الأساسية.
إن حركتنا الاشتراكية التي ظهرت على هذا الأساس وتحولت في يومنا هذا إلى أكثر الأحزاب تقدماً وتطوراً، ستتجه قُدُماً بعد الآن، وبكل ثقة وعزم ونجاح ومهارة وتأثير، نحو تحقيق أهدافها. لأجل ذلك نقول أن حركتنا أعطت أفضل جواب يليق بيوم الأول من أيار، يوم الكدح والوحدة والتعاون والكفاح. لقد وَثَّقنا من أواصرنا مع كل كادحي العالم، وأبدينا إيماننا بتاريخهم وحاضرهم. وبإمكاننا القول على هذا الأساس أننا حددنا وجهة مستقبلنا أيضاً بأفضل الأشكال.
عاش ١ أيار، يوم الوحدة والتعاون والتعاضد والكفاح لكل الكادحين في العالم!
ا أيار 1993.