نموذجُ الحلِّ الجديدُ يتمثلُ في الأمةِ الديمقراطيةِ المُنَقّاةِ والمُعَرّاةِ من شتى أنواعِ الدولتيةِ القوميةِ...
عبد الله أوجلان
عملَ PKK على تخطي الانسدادِ الذي عاناه في حلِّ القضيةِ الكردية، من خلالِ إخضاعِ سلطةِ الدولةِ القوميةِ لتحليلاتٍ شاملةٍ ومستفيضة. كانت حملةُ 15 آب 1984، التي تصاعدَت فيها الحربُ الشعبيةُ الثورية، هي الساحةَ التي تجلَّت فيها تَبِعاتُ وتأثيراتُ الدولةِ القوميةِ الاشتراكيةِ المشيدةِ ضمن النسيجِ الأيديولوجيِّ والسياسيِّ لـPKK أكثر من غيرِها. وكان يَلُوحُ أنه من العصيبِ إحرازُ التقدم، من دونِ تحليلِ تلك التَّبِعاتِ التي آلت تدريجياً إلى الانسدادِ والعُقم. والانهيارُ السريعُ للاشتراكيةِ المشيدةِ في تسعينياتِ القرنِ الماضي، قد ساهمَ في إدراكِ تلك التأثيراتِ المتسترةِ خلف الأزمةِ بصورةٍ أفضل. ما ساهمَ في تفكيكِ وتشتيتِ الاشتراكيةِ المشيدة، كان إشكاليةَ السلطةِ والدولةِ القوميةِ الاشتراكيةِ المشيدة. أو بالأحرى، كان يتأتى من التقصيرِ في تحليلِ قضيةِ الاشتراكيةِ والسلطةِ والدولة. وكانت هذه القضيةُ نافذةً في أزماتِ الاشتراكيةِ المُعاشةِ في عمومِ أرجاءِ العالَم. وباتحادِ تناقضاتِ الدولةِ والسلطةِ التي عانت منها القضيةُ الكرديةُ مع أزمةِ الاشتراكيةِ المشيدةِ المُعاشةِ في عمومِ العالَم، بات لا مهربَ من إخضاعِ قضيةِ الدولةِ والسلطةِ لتحليلٍ جذريّ.
ولهذا الغرضِ خصَّصتُ حيزاً هاماً من مرافعتي لمحاولةِ تحليلِ ظاهرةِ السلطةِ والدولةِ على مرِّ تاريخِ المدنية. وأهمُّ تركيزٍ لديَّ عرضتُه في موضوعِ التحولِ الذي طرأَ على تلك الظاهرةِ ارتباطاً بالحداثةِ الرأسماليةِ بصفتِها المدنيةَ المسيطرةَ في حاضرِنا. وسردتُ إلى الوسطِ بشكلٍ خاصٍّ أنّ تحوُّلَ السلطةِ إلى دولةٍ قوميةٍ يُعَدُّ ركيزةَ الرأسمالية. وقد كان هذا طرحاً ذا شأن. إذ جهدتُ لتحليلِ استحالةِ تحولِ الرأسماليةِ إلى نظامٍ مهيمن، ما لَم تُنَظِّمْ السلطةُ نفسَها في هيئةِ دولةٍ قومية. أي إنّ الدولةَ القوميةَ كانت بمثابةِ الأداةِ الأوليةِ على الإطلاق، التي تُمَكِّنُ من بسطِ الهيمنةِ الرأسمالية. بالتالي، حاولتُ برهنةَ استحالةِ اعتمادِ الاشتراكيةِ على نموذجِ الدولةِ عينِه، أي استحالةِ إنشائِها نفسَها في صورةِ دولةٍ قوميةٍ اشتراكيةٍ مشيدة؛ نظراً لكونِها تُقَدِّمُ نفسَها على أنها المجتمعُ التاريخيُّ المضادُّ للرأسمالية. هذا وسعيتُ للإشارةِ إلى أنّ رأيَ ماركس وأنجلز القائلِ باستحالةِ إنشاء الاشتراكيةِ إلا على أرضيةِ الدولِ القوميةِ المركزية، يُشَكِّلُ خطأً منهجياً ونظامياً في الاشتراكيةِ العلمية. وطرحتُ بالمقابل استحالةَ إنشاءِ الاشتراكيةِ ارتكازاً إلى الدولةِ عموماً، وإلى الدولةِ القوميةِ بصورةٍ خاصة؛ وشدَّدتُ على أنّ الإصرارَ في ذلك سيفضي إلى أشدِّ أشكالِ الرأسماليةِ تدنياً ورعونةً، مثلما شوهِدَ في العديدِ من الأمثلة، وعلى رأسِها الاشتراكيةُ المشيدةُ الروسيةُ والصينية. وكضرورةٍ من ضروراتِ هذا الطرح، بذلتُ جهوداً حثيثةً لصياغةِ تحليلاتٍ شاملةٍ ومُسهِبة بحقِّ نظامِ المدنيةِ المركزيةِ المُعاشِ على مرِّ التاريخ، ومصطلحِ السلطة، وشكلِ السلطةِ والدولةِ في الحداثةِ الرأسماليةِ التي تُعَدُّ الشكلَ السائدَ الخاصَّ براهنِنا. والنتيجةُ الأساسيةُ التي استخلصتُها، هي استحالةُ وجودِ مبدأِ الدولةِ القوميةِ لدى الاشتراكيين، وضرورةُ التزامِهم بالأمةِ الديمقراطيةِ كمبدأِ حلٍّ أوليٍّ معنيٍّ بالقضيةِ الوطنية. أما التعبيرُ الملموسُ لذلك ميدانياً، فهو تجربةُ KCK.
ثاني تقويمٍ أو تصحيحٍ هامٍّ أنجزَه PKK فيما يخصُّ السلطة، كان معنياً بموضوعٍ أكثر عينيةً. إذ أضحى واضحاً بما لا يقبلُ الجدل، أنه لا يُمكنُ التوصلُ إلى حلولٍ صائبةٍ لدى تناوُلِ ومعالجةِ العلاقاتِ التركيةِ – الكرديةِ وفق المنظورِ القوميِّ والدولتيّ، ما لَم تُؤخَذْ بعينِ الحُسبانِ العُرى الجيوسياسيةُ والجيواستراتيجيةُ للأناضولِ وميزوبوتاميا. هذا وثمة تبادُلٌ ثقافيٌّ كثيفٌ هو الذي يحدِّدُ مسارَ المواقفِ الجيوسياسيةِ والجيواستراتيجيةِ الوثيقةِ المُتَّبَعةِ طيلةَ التاريخِ فيما بين كِلتا المساحتَين التي قَطَنَها وتركَّزَ فيها كِلا المجتمعَين. وعليه، محالٌ صياغةُ تحليلٍ صائبٍ لتلك العلاقاتِ التي تخطُّ مصيرَ الحاضرِ واللحظيّ، إلا بمعالجةٍ كلياتيةٍ متكاملة. فالشريحةُ الكرديةُ الهرميةُ العليا، التي واجهَت إشكالياتِ السلطةِ والدولةِ بالأكثر، غالباً ما ربطَت مصيرَها على مدارِ التاريخِ بمصيرِ السلطاتِ والدولِ الأقوى منها على خلفيةِ استقلالٍ ذاتيٍّ نِسبيّ. ولَم تندفعْ كثيراً وراء نظامِ سلطةٍ أو دولةٍ منفصلةٍ خاصةٍ بالمجتمعِ الكرديّ. فهكذا مبادرةٌ لَم تتماشى ومصالحَها في هذه الوِجهة، بسببِ الظروفِ التاريخيةِ والاجتماعيةِ السائدة. وانطلاقاً من هذا المنظورِ عولِجَ التاريخُ المشتركُ مع الأتراك، والممتدُّ قُرابةَ السنواتِ الألفِ الأخيرة. وبخوضِهم طوعاً معركةَ ملازكرد التي توَّجوها بالنصرِ المؤزرِ جنباً إلى جنبٍ مع السلطانِ السلجوقيِّ ألب أرسلان، حقَّقوا مشاطرتَهم لسلطةٍ ودولةٍ جديدتَين على دعامةٍ إسلاميةٍ تَسودُ بلادَ الأناضولِ وميزوبوتاميا. ذلك أنّ الحقائقَ الجيوسياسيةَ والجيواستراتيجيةَ النابعةَ من كِلتا المنطقتَين، قد جعلَت مشاطرةَ السلطةِ والدولةِ الإسلاميةِ بين الشريحتَين الفوقيتَين لكِلا القومَين ضرورةً اضطراريةً لا مفرّ منها. ورغمَ عدمِ وجودِ مصلحةٍ ملحوظةٍ للشعبَين في تشاطرِ السلطةِ والدولةِ ذاك، ورغمَ ردِّهما على العيشِ تحت السقفِ المشتركِ للسلطةِ والدولةِ بالمقاومةِ والانتفاضِ مِراراً وتكراراً؛ إلا إنهما لَم يتخلفا عن العيشِ سويةً، وذلك بموجبِ لوازمِ الحياةِ المشتركة، وبسببِ الحروبِ الدينيةِ والمذهبيةِ المندلعةِ حينئذ. ولَطالما أُسِّسَت هذه الشراكةُ القائمةُ بين الهرميةِ التركيةِ القوميةِ العليا والشريحةِ الكرديةِ العليا على الطواعية. بينما لا نلمَسُ كثيراً ظاهرةً اسمُها "غزوُ كردستان" ضمن تقاليدِ الفتحِ التركيّ. أما حروبُ الغزوِ المُخاضةُ بين الفينةِ والأخرى، فلَم تحصلْ إلا بمشاركةٍ من الأعيانِ الكرد. وعليه، لا يُمكنُ توصيفُ هذا النمطِ من الحروبِ بالغزو.
ينبغي فهمُ هذا الواقعِ التاريخيِّ الكامنِ في العلاقاتِ التركيةِ – الكرديةِ بكلِّ أعماقِه، وذلك على صعيدِ حلِّ القضيةِ الكرديةِ في راهننا. فقد عُمِلَ أساساً بهذا الواقعِ الذي لعبَ دوراً مُعَيِّناً في نهايةِ كلِّ منعطفٍ أو نقطةِ تقاطُعٍ أوليةٍ على طولِ تاريخِ هذه العلاقات؛ أي: أثناء سياسةِ انفتاحِ الإمبراطوريةِ العثمانيةِ على الشرقِ في عهدِ السلطان ياووز سليم (1512 – 1521)، وفي تشكيلِ الألويةِ الحميديةِ في عهدِ السلطان عبد الحميد (1876 – 1909)، وأثناء انخراطِ جمعيةِ الاتحادِ والترقي في سياقِ الحربِ العالميةِ الأولى وما بعدَه كأمرٍ واقعٍ لا مناصّ منه؛ والأهمّ من كلِّ ذلك خلال حربِ التحريرِ الوطنيةِ المعاصرةِ المُخاضةِ بقيادةِ مصطفى كمال. ولأولِ مرةٍ عُمِلَ على وقفِ هذا التمثيلِ المشتركِ والطوعيِّ التاريخيِّ والجغرافيِّ في سيادةِ السلطةِ والدولة، وذلك عن طريقِ مؤامرةِ 15 شباط 1925 التي تشيرُ إلى تفنيدِ ودحضِ العِمادِ الديمقراطيِّ للجمهورية. وحساباتُ الإمبراطوريةِ الإنكليزيةِ – القوة الرأسمالية المهيمنة آنئذ – في فرضِ التمييزِ الأثنيِّ على الجمهورية، كي تتمكنَ بالتالي من بسطِ نفوذِها على الموصل وكركوك (كردستان العراق) التي تُعَدُّ منطقةً نفطية؛ قد لعبَت دوراً مُحَدِّداً ومصيرياً في حبكِ خيوطِ هذه المؤامرةِ التي توقفنا عندها بإسهابٍ في الفصولِ المعنية. وهكذا حققَ مشروعُ إنكلترا في بناءِ جمهوريةٍ صغرى أو دولةٍ قوميةٍ صغيرةٍ نجاحاً ملفتاً في الشرقِ الأوسطِ وبلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا، مثلما كانت الحالُ في كافةِ أصقاعِ العالَم. بالمقابل، فإنّ جميعَ القوى الثقافيةَ والشعوب، بل وحتى الدولَ القائمةَ في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ المقَسَّمةِ اجتماعياً وعلى صعيدِ الدولِ أيضاً، قد مُنِيَت بخسائر فادحةٍ في قواها، وتعرضَت للانقسامِ المتواصل، واشتبَكَت فيما بينها باستمرار، لتغدوَ بذلك واهنةً لا حولَ لها ولا قوة. وتأسيساً على ذلك، أحرزَت الهيمنةُ الإنكليزيةُ نجاحَها المؤزر.
إنّ تصييرَ الجمهوريةِ مناوئةً للكردِ قد أخلَّ بالاتفاقِ والتحالفِ التقليديّ، فأُقصِيَ الكردُ كلياً من النظامِ القائم. أما المشروعُ الموضوعُ أمام الشريحةِ الكرديةِ الفوقية، فيستندُ إلى المبدأِ الأساسيِّ الذي يتجسدُ في إمكانيةِ صونِها وجودَها كأفرادٍ – مواطنين أتراك، مقابل التخلي عن كردايتيتِها وعن هويتِها الكردية. بل ويتعدى ذلك بالغاً حدَّ تلقينِها أنّ السبيلَ إلى اكتسابِ القوةِ والارتقاءِ في أروقةِ النظام، يمرُّ من إعلاءِ شأنِ التركياتيةِ البيضاء وتطويرِها، مقابل إنكارِ الكردايتيةِ وإبادتِها. هكذا يُصاغُ "القانونُ الفولاذيُّ" لكينونةِ الوجودِ ضمن الجمهورية. في حين إنّ الموقفَ الذي أَبدَته الشريحةُ العليا بادئَ ذي بدءٍ من خلالِ اعتراضِها وتمردِها الجزئيّ، قد تحوَّلَ إلى خضوعٍ وطاعةٍ أفرزَتها تمشيطاتُ "التأديبِ والتنكيل" الصارمةِ التي سيَّرَها النظام. ولَربما كانت هذه المرةَ الأولى في تاريخِ المجتمعِ الكرديّ، التي تَضمَنُ فيها الشريحةُ العليا (الاستثناء لا ينفي القاعدة) وجودَها مقابلَ تعريضِ وجودِ مجتمعِها الذاتيِّ الذي تنتمي له إلى الإنكارِ والإبادةِ والاجتثاثِ من الجذور. وهكذا باتت تُدينُ بوجودِها وتطورِها إلى مدى خدمةِ التركياتيةِ البيضاء (أُشَدِّدُ بإلحاحٍ على استخدامِ هذا المصطلح، لأنها مختلفةٌ عن التركياتيةِ التقليديةِ والسوسيولوجية. فهي زمرةٌ عميلةٌ مُعَدّةٌ موضوعياً وذاتياً، ومصقولةٌ بأساليبِ الهيمنةِ الغربيةِ في التآمرِ والدسائس. إنها شكلٌ متطرفٌ من أشكالِ فرنسيي المشرق، مشحونٌ بالعنفِ إلى أقصى الحدود، ومتظاهرٌ بالقومويةِ التركيةِ الجازمة). أي إنّ تلك الشريحةَ سوف تصونُ وجودَها وتُطَوِّرُه، بقدرِ ما تقومُ بخدمةِ هذه التركياتيةِ البيضاء.
أما الشرائحُ الشعبيةُ التي أمسَت بلا رأسٍ أو قائد، فهي بمنزلةِ المادةِ الشيء، ومنفتحةٌ على كلِّ أشكالِ الإنكارِ والإبادةِ والإذابة. في حين إنّ أبسطَ تَماسٍّ مع الكردايتيةِ يعني الموتَ المحتوم. بالمقابل، فالتخلي عن الكردايتيةِ باتَ السبيلَ الوحيدَ للخلاصِ والحياة. وهكذا، تدورُ المساعي للقضاءِ على الكردايتية، ليس من جهةِ كونِها ظاهرةً وحسب، بل وبكلِّ ما تشتملُ عليه من رموزٍ ومُسَمَّيات. ويَلِجُ جدولَ الأعمالِ مشروعُ التطهيرِ الثقافيِّ المستورِ المُطَبَّقِ بحقِّ الكردايتيةِ على مدارِ تاريخِ الجمهورية، ويرى النورَ خطوةً وراء خطوة، ويوماً بعد يوم (يسري هذا المشروعُ على كافةِ الثقافاتِ الأخرى أيضاً. ولكنه صُمِّمَ أساساً من أجلِ الكردايتية). وأمسَت الغايةُ الأوليةُ التي تَصبُّ فيها جميعُ السياساتِ الداخليةِ والخارجية، هي الامتثالُ لـ"القانون الفولاذيِّ" ذاك، والسهرُ على خدمتِه. ونظراً لتطبيقِه خِفيةً بنسبةٍ كبرى، فإنّ الأحزابَ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيِّ المُشادةَ والعالَمَ الاقتصاديَّ والسياسيَّ المُعاشَ يصبحُ متمحوراً حول "القانونِ الفولاذيِّ" ذاتِه، دون إدراكٍ منا، ودون التفاتٍ إلى تلك السياسات. هذا وتُقَيَّمُ التنظيماتُ الخارجيةُ أيضاً بناءً على خدمةِ "القانونِ الفولاذيِّ" نفسِه، من قبيلِ: هيئة الأمم المتحدة، حلف الناتو، والاتحاد الأوروبيّ. كما إنّ حصةَ هذا القانونِ مُعَيِّنةٌ في الانقلاباتِ والمؤامراتِ والمكائدِ والاغتيالات، وفي شتى أنواعِ التعذيبِ والاعتقال.
c)KCK تعبيرٌ عن مقتَرَحِ الأمةِ الديمقراطيةِ وممارستِها كنموذجِ حلٍّ مُطَهَّرٍ من الدولتيةِ القومية، ولا يَسري على الكردِ فقط، بل وعلى جميعِ المجموعاتِ الأثنيةِ والقوميةِ المعنيةِ بالقضيةِ الكردية. فحلولُ الدولتيةِ القوميةِ المفروضةُ طيلة مراحلِ القضيةِ الوطنيةِ العالقةِ على مدارِ تاريخِ الحداثةِ الرأسماليةِ على أنها طريقُ الحلِّ الوحيد، قد حَوَّلَت التاريخَ إلى حَمّامِ دم. بمعنى آخر، فالحلولُ الدولتيةُ القوميةُ ليست سبيلاً إلى حلِّ القضايا، بل هي طريقُ تجذيرِها، ومُضاعفةِ حِدّتِها، وتصعيدِ الحرب، وبالتالي تحقيقِ الربحِ الأقصى والصناعويةِ وتأمينِ سيرورتِهما. بينما يَجِدُ KCK أنّ الطريقَ إلى استتبابِ السلامِ وتأمينِ الحلِّ يمرُّ من التخلي عن تلك الركائزِ الثلاثيةِ للحداثةِ الرأسمالية (الدولة القومية، الربح الأعظميّ، والصناعوية)، وتصييرِ مقوماتِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ بديلاً لها (الأمة الديمقراطية، اقتصاد السوق الاجتماعية الخالي من الربح، والصناعة الأيكولوجية).
لقد تحولَت كردستان منذ الآن بأحدِ المعاني إلى بؤرةِ الثورةِ والثورةِ المضادةِ في القرنِ الحادي والعشرين. فهي بمثابةِ الحلقةِ الأوهنِ للحداثةِ الرأسمالية. وقد تفاقمَت قضايا الشعبِ الكردستانيِّ الوطنيةُ والاجتماعيةُ إلى درجةٍ يستحيلُ فيها طمسُها بالوصفاتِ الليبرالية، أو حجبُها بديماغوجيةِ الحقوقِ الفرديةِ والثقافية. وعندما تَكُونُ القضيةُ الكرديةُ موضوعَ الحديث، فإنّ الدولتيةَ القوميةَ التي تسفرُ عن ممارساتٍ تصلُ حدَّ الإبادةِ الثقافية، قد أمسَت منذ زمنٍ غابرٍ مصدراً مُنتِجاً للقضايا الإشكاليةِ بدلاً من حلِّها، سواء على صعيدِ الأممِ الساحقةِ أو المسحوقة. لذا، فالدولةُ القوميةُ أصبحَت تعاني التخلخلَ والتحلُّل، بعدما غدَت إشكاليةً عُضالاً بالنسبةِ إلى الحداثةِ الرأسماليةِ بذاتِها أيضاً. في حين إنّ التطوراتِ الوطنيةَ الديمقراطيةَ الأكثر مرونة، تتصدرُ لائحةَ التطوراتِ المعاصرةِ الواعدةِ بالحل. والعصرانيةُ الديمقراطيةُ تعبيرٌ نظريٌّ وتطبيقٌ ميدانيٌّ للتطوراتِ السائرةِ في هذا المنحى. أما KCK بصفتِه التعبيرَ الملموسَ للتحولاتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ في كردستان، فيُنيرُ دربَ حلِّ العصرانيةِ الديمقراطيةِ ضمن منطقةِ الشرقِ الأوسط.