نموذجَ الحلِّ الديمقراطيِّ ليس مجردَ خيارِ حلٍّ فقط، بل وهو أسلوبُ الحلِّ الأول...
عبد الله أوجلان
يُعَبِّرُ KCK عن التفسيرِ الديمقراطيِّ غيرِ الدولتيِّ لمبدأِ حقِّ الشعوبِ في تقريرِ مصيرِها فيما يتعلقُ بالقضيةِ الكردية. وينبغي تقييمُه كتحولٍ جذريٍّ على دربِ حلِّ القضيةِ الوطنية. إذ، لَطالما عُمِلَ على حلِّ القضايا الوطنيةِ التي أفرزَتها الحداثةُ الرأسماليةُ بالعقليةِ والبراديغما الدولتيةِ القوميةِ والقوموية. وعُرِضَت الدولةُ القوميةُ بذاتِ نفسِها على أنها عاملٌ أوليٌّ على طريقِ الحلّ. بحيث إنّ أولَ ما يخطرُ على البالِ عند ذِكرِ القضيةِ الوطنية، هو فكرةُ: "لِتَكُنْ لنا – نحن أيضاً – دولتُنا القومية". وكادَ يتمُّ التفكيرُ بدولةٍ قوميةٍ لكلِّ أثنيةٍ ومِلّة. ومَن ابتَدَعَ هذا الموقفَ بوجهٍ خاصٍّ هو إنكلترا، التي تلهثُ وراءَ بسطِ هيمنتِها على الصعيدِ العالميّ؛ والتي تبغي تذليلَ عراقيلِ الدولِ العظمى المنتصبةِ أمامها كالإمبراطوريات، وكذلك الدولِ الصغيرةِ التي تتعثرُ بها كدُوَلِ المدن؛ وتهدفُ إلى مزاولةِ سياسةِ "فَرِّقْ تَسُدْ" ميدانياً. حيث إنّ الدولةَ القوميةَ ترتيبٌ لسلطةِ الهيمنةِ المبنيةِ على النظامِ الرأسماليّ، وأفضلُ ترتيبٍ للدولةِ التي تُؤَمِّنُ الربحَ الأعظميَّ والصناعوية. ولكي تُدرَكَ الدولُ القوميةُ بعينٍ صائبة، يجبُ تحليلُ مكانتِها ضمن النظامِ المهيمن، وعُراها التي تَربطُها بالرأسماليةِ والصناعوية. فالقولُ ببناءِ دولةٍ لكلِّ أثنيةٍ أو مذهبٍ أو قوم، يفيدُ بعولمةِ الرأسمالية، ويدلُّ بالتالي على الإسهامِ في الارتقاءِ بالاستغلالِ والدمارِ الأيكولوجيِّ إلى أقصى الدرجات. وقد شدَّدنا بإلحاحٍ على أنّ عمليةَ الإسهامِ هذه هي التي آلَت بالاشتراكيةِ المشيدةِ أساساً إلى الانهيار. وحاولنا تحليلَ كونِ هذا الموقفِ هو الذي يكمنُ ضمنياً وراء الانسدادِ الذي عاناه PKK بصددِ القضيةِ القومية، كونَه اعتمَدَ نظامَ الاشتراكيةِ المشيدةِ أساساً بدايةَ انطلاقِه. ونَوَّهنا إلى أنّ PKK قد قَدَّمَ نقدَه الذاتيَّ مُحَقِّقاً تحولَه المطلوبَ في هذا المضمار. ويتجسدُ النهجُ الأمُّ للتحولِ بشأنِ القضيةِ الوطنيةِ في التراجعِ عن الحلِّ الدولتيِّ القوميّ، والعملِ أساساً بالحلِّ الديمقراطيِّ البديل. والحلُّ الديمقراطيُّ بدورِه يعبِّرُ عن البحثَ عن دمقرطةِ المجتمعِ خارجَ إطارِ الدولةِ القومية. وعلى صعيدِ الاصطلاح، فهو يُقَيِّمُ الدولةَ القوميةَ والرأسماليةَ على أنهما مصدرُ القضايا الاجتماعيةِ المستفحلةِ والمتكاثرة، وليستا حلاً لها.
يُشَكِّلُ ربطُ حلِّ القضايا الوطنيةِ والاجتماعيةِ بالدولةِ القوميةِ الجانبَ الأكثر جُوراً وتعسفاً في الحداثة. فعقدُ الحلِّ على الأداةِ التي تُشَكِّلُ مصدرَ القضايا بالتحديد، إنما يؤدي إلى استفحالِ وتعاظمِ القضايا كالتيهور، وإلى تفشي الفوضى الاجتماعية. ذلك أنّ الرأسماليةَ بذاتِ نفسِها هي الطورُ الأكثر تأزماً من بين أطوارِ نظامِ المدنية. والدولةُ القوميةُ التي تدخلُ جدولَ الأعمالِ في هذا الطورِ المتأزم، هي أرقى أشكالِ تنظيمِ العنفِ المُبتَكَرِ على مدى تاريخِ المجتمعات. إنها تعني تطويقَ عنفِ السلطةِ للمجتمعِ برمتِه. وهي أداةُ توحيدِ المجتمعِ والبيئةِ إكراهاً، بعدَما عَرَّضَتهما الرأسماليةُ إلى الانحلالِ والتقوضِ من خلالِ الربحِ الأعظميِّ والصناعوية. أما شحنُها بمقدارٍ مفرطٍ وفاحشٍ من العنف، فيتأتى من نزوعِ النظامِ الرأسماليِّ إلى الربحِ الأعظميِّ والمُراكَمةِ المتواصلة. حيث يستحيلُ تفعيلُ قوانين التكديسِ الرأسماليّ، أو تأمينُ سيرورةِ الصناعوية؛ في حالِ غيابِ تنظيمٍ عنفيٍّ من قبيلِ نمطِ الدولةِ القومية. وعليه، يواجهُ المجتمعُ والبيئةُ حالةَ تناثرٍ وتبعثرٍ تامٍّ في عصرِ الرأسماليةِ الماليةِ العالمية، التي تُعَدُّ آخِرَ مرحلةٍ تمَّ بلوغُها. فالأزماتُ التي كانت دوريةً في بدايتِها، اكتسبَت طابعاً دائمياً وبنيوياً. وفي هذه الحال، فقد تحولَت الدولةُ القوميةُ بعينِها أيضاً إلى عائقٍ يُغلِقُ النظامَ القائمَ ويَسُدُّه كلياً. وهكذا فحتى الرأسمالية، التي تُعتَبَرُ بنفسِها بنيةً متأزمة، قد أدرجَت موضوعَ الخلاصِ من عائقِ الدولةِ القوميةِ على رأسِ أجندتِها. إنّ حاكميةَ الدولةِ القوميةِ ليست فقط مصدراً للقضايا الاجتماعية، بل وهي في الوقتِ عينِه حجرُ عثرةٍ أساسيٌّ على دربِ حلِّها. وقيامُ الطبقةِ الرأسماليةِ الحاكمةِ بتَصَوُّرِ نظامٍ كهذا على أنه أداةُ الحلِّ بالنسبةِ إلى المجتمعِ والشعوبِ والكادحين، هو أمرٌ يخالفُ طبيعةَ المجتمع، بل ويعني إنكارَها. بناءً عليه، يتعينُ اتخاذُ النموذجِ الديمقراطيِّ أساساً في حلِّ القضايا الوطنيةِ التي هي أهمُّ جزءٍ من القضايا الاجتماعية؛ وذلك انطلاقاً من طبيعةِ المجتمعِ والشعوبِ والكادحين من جهة، وبسبببِ عائقِ الدولةِ القوميةِ للنظامِ المهيمنِ من الجهةِ الثانية.
إنّ نموذجَ الحلِّ الديمقراطيِّ ليس مجردَ خيارِ حلٍّ فقط، بل وهو أسلوبُ الحلِّ الأول. ولَئِنْ كانت الحركاتُ الاشتراكيةُ والتحرريةُ الوطنيةُ ترومُ إلى إحرازِ النجاح، فعليها بعدمِ البحثِ عن الحلِّ خارجَ نطاقِ الديمقراطية. بينما كافةُ الميولُ الديكتاتورية، بيمينِها ويسارِها ومركزِها، لن تَقومَ إلا بتجذيرِ وتوطيدِ حالةِ العقم، وبتصييرِ الرأسماليةِ نَهّابةً وسَلاّبةً وافتراضيةً أكثر. هذا وينبغي عدمُ تَصَوُّرِ نموذجِ الحلِّ الديمقراطيِّ على أنه دولةٌ قوميةٌ موحَّدةٌ صائرةٌ في هيئةٍ فيدراليةٍ أو كونفدرالية. أي إنّ الحالةَ الفيدراليةَ أو الكونفدراليةَ للدولةِ القوميةِ ليست بحلٍّ ديمقراطيّ. بل إنها حلولٌ مرتكزةٌ إلى أشكالٍ مختلفةٍ من الدولة، ولن تذهبَ في دورِها أبعدَ من زيادةِ وطأةِ القضايا مرةً أخرى. قد يَكُونُ تحويلُ الدولةِ القوميةِ المركزيةِ الصارمةِ إلى أشكالٍ فيدراليةٍ أو كونفدرالية، سيُطَوِّعُ القضايا ويجلبُ حلولاً نسبيةً لها وفق مَنطقِ النظامِ الرأسماليّ؛ ولكنه محالٌ أنْ يفضيَ إلى حلولٍ جذرية. بالإمكانِ اختبارُ وتجريبُ الأشكالِ الفيدراليةِ والكونفدراليةِ كأدواتِ حلٍّ فيما بين قوى الحلِّ الديمقراطيِّ وقوى الدولتيةِ القومية. لكنّ عقدَ الأملِ على الحلولِ الجذريةِ تأسيساً على استخدامِ تلك الأدوات، لا يعني سوى خداعَ الذاتِ وتضليلَها ثانيةً. ونحن على علمٍ بأنّ شكلَ الدولةِ الذي أَسمَيناه بالدولةِ التحرريةِ الوطنيةِ أو بدولةِ الاشتراكيةِ المشيدة، ما هو سوى دولةٌ قوميةٌ مُمَوَّهةٌ بالقناعِ اليساريّ. حيث تبدى للعيانِ جلياً أنها أنظمةٌ أكثر ديكتاتوريةً وانفتاحاً على الفاشية.
من عظيمِ الأهميةِ التبيانُ بأنّ نموذجَ الحلِّ الديمقراطيِّ ليس منفصلاً كلياً عن الدولةِ القومية. إذ بمقدورِ الديمقراطيةِ والدولةِ القوميةِ أنْ تلعبا دورَهما كسيادتَين تحت السقفِ السياسيِّ عينِه. والدستورُ الديمقراطيُّ هو الذي يرسمُ الحدودَ الفاصلةَ بين مساحتَي نفوذِهما. وإلى جانبِ خطوِ الاتحادِ الأوروبيِّ بعضَ الخطواتِ في هذا المنحى، إلا إنّ الجانبَ الطاغيَ هنا هو سيطرةُ الدولةِ القومية. لكنّ المَيلَ السائدَ في عمومِ أرجاءِ العالَم، هو في اتجاهِ تجاوُزِ الدولةِ القومية. ويستندُ أهمُّ تحولٍ سياسيٍّ يشهدُه العالَم، إلى تخطي الدولةِ القوميةِ نظرياً وعملياً. وبقدرِ ما يُصَيِّرُ الحلُّ الديمقراطيُّ نفسَه نظامياً وشبهَ مستقلّ، فسيُساهمُ بالمِثلِ حينها في إنجازِ التحولِ السياسيّ. وتحوُّلُ الدولةِ في الاتجاهِ الإيجابيّ، إنما هو متعلقٌ عن كثبٍ بتحقيقِ الدمقرطة، وشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، وإنشاءِ الأمةِ الديمقراطية، وإحلالِ الديمقراطيةِ المحلية، وإرساءِ ثقافةِ الديمقراطيةِ في المجالاتِ الاجتماعيةِ قاطبة.
KCK هو التعبيرُ الملموسُ للحلِّ الديمقراطيِّ في سياقِ القضيةِ الكردية. وهو مختلفٌ عن المواقفِ التقليدية. ولا يرى الحلَّ في اقتطاعِ حصتِه من الدولة. بل وحتى إنه لا ينساقُ وراء دولةٍ للكردِ بمعناها شبهِ الاستقلاليّ. وكيفما أنه لا يتطلعُ إلى بناءِ دولةٍ فيدراليةٍ أو كونفدرالية،، فهو أيضاً لا يَعتَبِرُها حلاً خاصاً به. ومطلبُه الأوليُّ من الدولة، هو اعترافُها بحقِّ الكردِ في إدارةِ أنفسِهم بأنفسِهم وبإرادتِهم الحرة، وعدمُ زرعِها العراقيل على دربِ تحولِهم إلى مجتمعٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ. فإذا كانت الدولُ القوميةُ الحاكمةُ ملتزمةً بالمبدأِ الديمقراطيٍّ فعلاً، لا قولاً؛ فحتى لو لَم تناصرْ المجتمعَ الديمقراطيّ، فعليها ألا تعيقَه أو تفرضَ عليه الحظر. لا تُطَوِّرُ الدولُ أو الحكوماتُ الحلَّ الديمقراطيّ. بل إنّ القوى الاجتماعيةَ بالتحديد هي المسؤولةُ عن الحلّ، حيث تبحثُ عن الوفاقِ مع الدولِ أو الحكوماتِ على هدى الدستورِ الديمقراطيّ. أي إنّ تشاطُرَ الإدارةِ والتوجيهِ بين القوى الاجتماعيةِ الديمقراطيةِ وقوى الدولةِ أو الحكومةِ المعنية، يتمُّ تحديدُه بالدساتير. ومثلما أنه ليس واقعياً المطالبةُ بالحُكمِ المطلقِ للدولة، أو بالسيادةِ المطلقةِ للديمقراطية؛ فهو أمرٌ مخالفٌ لروحِ الحلِّ أيضاً.
الحلُّ الديمقراطيُّ في صُلبِه يُدَلِّلُ على كينونةِ الأمةِ الديمقراطية، وعلى ظاهرةِ إنشاءِ المجتمعِ لذاتِه كمجتمعٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ. أي إنه لا يعني التحولَ إلى أمةٍ أو الخروجَ منها على يدِ الدولة. بل يعني انتفاعَ المجتمعِ بذاتِ نفسِه من حقِّه في إنشاءِ نفسِه كأمةٍ ديمقراطية. والحالُ هذه، يتعينُ إعادةُ تعريفِ الأمة. يتوجبُ أولاً الإشارةُ إلى عدمِ وجودِ تعريفٍ واحدٍ فقط للأمة. فلدى إنشائِها بِيَدِ الدولةِ القومية، فإنّ أعمَّ تعريفٍ للأمةِ هو أنها أمةُ الدولة. وإذا كان الاقتصادُ هو العاملُ المُوَحِّدُ لصفوفِها، فبالمقدورِ تسميتُها بأمةِ السوق. في حين إنّ الأمةَ التي يَسُودُ فيها القانون هي أمةُ القانون. كما وبالمستطاعِ إطلاقُ تسمياتِ الأمةِ السياسيةِ والأمةِ الثقافيةِ أيضاً. أما المجتمعُ الذي يُوحِّدُه الدين، فيُسمى بالأساسِ مِلّة. والأمةُ هي مجموعُ المِلَلُ المنضويةُ تحت شمسيةِ الدينِ عينِه الذي يُوَحِّدُها. أما الأمةُ الديمقراطية، فهي المجتمعُ المشتركُ الذي يُكَوِّنُه الأفرادُ الأحرارُ والمجموعاتُ الحرةُ بإرادتِهم الذاتية. والقوةُ اللاحمةُ والمُوَحِّدةُ في الأمةِ الديمقراطية، هي الإرادةُ الحرةُ لأفرادِ ومجموعاتِ المجتمعِ الذي قرَّرَ الانتماءَ إلى نفسِ الأمة. بينما المفهومُ الذي يربطُ بين الأمةِ والاشتراكِ في اللغةِ والثقافةِ والسوقِ والتاريخِ، فهو يُعَرِّفُ أمةَ الدولة، والتي لا يُمكنُ تعميمُها، أي طرحُها كمفهومٍ وحيدٍ ومطلقٍ للأمة. ومفهومُ الأمةِ هذا، والذي يتبنى الاشتراكيةَ المشيدة؛ هو مضادٌّ للأمةِ الديمقراطية. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ هذا التعريفَ الذي صاغَه ستالين بشأنِ روسيا السوفييتية، هو أحدُ أهمِّ الأسبابِ الكامنةِ وراء انهيارِ الاتحادِ السوفييتيّ. وإذ ما لَم يتحققْ تخطي تعريفِ الأمةِ هذا الذي صبغَته الحداثةُ الرأسماليةُ بالطابعِ المطلق، فإنّ حلَّ القضايا الوطنيةِ سيستمرُّ في المعاناةِ من حالةِ تأزمٍ لا مخرجَ منها بكلِّ معنى الكلمة. وكونُ القضايا الوطنيةِ لا تنفكُّ مستمرةً حتى الآن وبكلِّ وطأتِها طيلةَ سياقٍ يمتدُّ لأكثر من ثلاثةِ قرونٍ بأكملِها، إنما هو على علاقةٍ كثيبةٍ بهذا التعريفِ الناقصِ والمطلق.
وهذا النمطُ من المجتمعاتِ الوطنيةِ التي قُدِّرَ لها الخضوعُ لحدودِ الدولةِ القوميةِ الصارمة، والتي تغلغلَت السلطةُ حتى أدقِّ خلاياها؛ كادت تصبحُ ساذجةً ومغفلةً بقصفِها بالأيديولوجياتِ القومويةِ والدينويةِ والجنسويةِ والوضعية. أي إنّ موديلَ الدولةِ القوميةِ بالنسبةِ إلى المجتمعات، هو مصيدةٌ أو شبكةُ قمعٍ واستغلالٍ بكلِّ معنى الكلمة. في حين إنّ مصطلحَ الأمةِ الديمقراطيةِ يَقلبُ هذ التعريفَ رأساً على عقب. فتعريفُ الأمةِ الديمقراطيةِ غيرِ المرسومةِ بحدودٍ سياسيةٍ قاطعة، وغيرِ المنحصرةِ بمنظورٍ واحدٍ فقط للُّغةِ أو الثقافةِ أو الدينِ أو التاريخ؛ إنما يعَبِّرُ عن شراكةِ الحياةِ التي يَسُودُها التعاضدُ والتعاونُ فيما بين المواطنين والمجموعاتِ على خلفيةِ التعدديةِ والحريةِ والمساواة. هذا ويستحيلُ تحقيقُ المجتمعِ الديمقراطيّ، إلا من خلالِ هكذا نموذجٍ للأمة. في حين إنّ مجتمعَ الدولةِ القوميةِ منغلقٌ على الديمقراطيةِ بِحُكمِ طبيعتِه. حيث إنّ الدولةَ القوميةَ لا تُعبِّرُ عن واقعٍ مناطقيٍّ ولا كونيّ. بل على النقيض، فهي تعني إنكارَ كلِّ ما هو كونيٌّ أو مناطقيٌّ محليّ. ذلك أنّ مواطَنةَ المجتمعِ النمطيِّ دليلٌ على موتِ الإنسان. ومقابل ذلك، فالأمةُ الديمقراطيةُ تُمَكِّنُ من إعادةِ إنشاءِ المناطقيِّ والكونيّ، وتُؤَمِّنُ للواقعِ الاجتماعيِّ فرصةَ التعبيرِ عن نفسِه. أما تعاريفُ الأممِ الأخرى، فجميعُها تحتلُّ أماكنَها بين هذَين النموذجَين الرئيسيَّين.
بالرغمِ من التعاريفِ متراميةِ الآفاقِ بصددِ نماذجِ إنشاءِ الأمة، إلا إنه بالمستطاعِ صياغةُ تعريفٍ عامٍّ يشملُها جميعاً. ألا وهو التعريفُ القائلُ بكَونِ الأمةِ معنيةً بالذهنيةِ والوعيِ والعقيدة. والأمةُ في هذه الحالةِ هي مجموعُ الأناسِ الذين يتشاطرون عالَماً ذهنياً مشتركاً. وعليه، فحدودُ الدينِ واللغةِ والثقافةِ والسوقِ والتاريخِ والسياسةِ ليست مُعَيِّنةً في تعريفِ الأمةِ هذا، بل تؤدي دوراً مُجَسِّماً لا أكثر. وتعريفُ الأمةِ في الأساسِ بناءً على حالةٍ ذهنيةٍ ما، يتسمُ بطابعٍ ديناميكيّ. وبينما تتركُ القومويةُ بصماتِها على الذهنيةِ المشتركةِ لدى أمةِ الدولة، فإنّ ما يضفي صبغتَه على الأمةِ الديمقراطيةِ هو وعيُ الحريةِ والتعاضد. لكنّ تعريفَ الأممِ بالحالاتِ الذهنيةِ فحسب، يُبقي ذاك التعريفَ معلولاً ناقصاً. فكيفما أنه لا وجود للذهنياتِ من دونِ جسد، فالأممُ أيضاً غيرُ ممكنةٍ إلا بوجودِ الجسد. وجسدُ الأممِ ذاتِ الذهنيةِ القوموية، هو مؤسسةُ الدولة. وبالأصل، تسمى مثل تلك الأممِ بالدولةِ القوميةِ انطلاقاً من بدنِها ذاك. وعندما تطغى المؤسساتُ القانونيةُ أو الاقتصادية، فبالمقدورِ تمييزُ مثل تلك الأممِ بنعتِها بأمةِ السوقِ أو أمةِ القانون. أما بدنُ الأممِ المتمحورةِ حول الحريةِ والتعاضد، فهو شبهُ الاستقلالِ الديمقراطيّ. أي إنّ شبهَ الاستقلالِ الديمقراطيّ يعني أساساً قيامَ الأفرادِ والمجموعاتِ التي تتشاطرُ ذهنياتٍ متقاربةٍ بإدارةِ نفسِها بإرادتِها الحرة. هذا وبالإمكانِ تسميةُ ذلك بالإدارةِ الديمقراطية أو الاقتدارِ الديمقراطيّ. وهو تعريفٌ منفتحٌ على الكونية.
وعلى ضوءِ هذه التعاريفِ العامةِ بشأنِ الأمة، فإنّ KCK يرفضُ المواقفَ الدولتيةَ القوميةَ في حلِّ القضيةِ الوطنيةِ الكردية، ويعملُ أساساً بمقتضى تجسيدِ النموذجِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ وحقِّ الكردِ في التحولِ إلى أمةٍ أو إلى ظاهرةِ المجتمعِ الوطنيِّ مُجَسَّماً في هيئةِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ. ما يَسري هنا هو تعريفُ أمةٍ بجسدٍ واحدٍ منفتحٍ على تعريفِ أمةٍ عليا تتألفُ بِمَعيّةِ الأممِ الأخرى كالأمةِ التركيةِ على سبيلِ المثال. هذا وبالإمكانِ توسيعُ نطاقِ تعريفِ الأمةِ العليا، بحيث تحتضنُ العديدَ من الأممِ بين طواياها. وباستطاعتِنا تَصَوُّرُ الأمةِ الإسلاميةِ نموذجاً بِدئياً لهذا التعريف. وترجحُ كفةُ الاحتمالِ باتجاهِ توحيدِ الثقافاتِ الاجتماعيةِ للشرقِ الأوسطِ في بوتقةِ مِلّةٍ – أمةٍ مشتركة، أي أمةٍ مستَحدَثة، عاجلاً كان أم آجلاً.
بالمقدورِ التفكيرُ أولاً ببُعدَين اثنَين، فيما يخصُّ تحولَ الكردِ إلى أمةٍ على هدى تلك المصطلحاتِ الأساسية. أولُهما البُعدُ الذهنيّ. نتكلمُ هنا عن البُعدِ الوجوديِّ لِمَن يتشاطرون عالَماً ذهنياً (عالَم الذهنية المشتركة) عامراً بمشاعرِ التعاضدِ والتكافلِ المشترك، ويوحِّدُ حالاتِهم الواعيةَ المعنيةَ بحقولِ اللغةِ والثقافةِ والتاريخِ والاقتصادِ والتوزعِ السُّكّانيّ، دون إهمالِهم لآفاقِهم الأساسيةِ الخاصةِ بهم ضمن إطارِ تلك الحقول. والقسطاسُ الأوليُّ في هذا البُعد، هو التشاطرُ الذهنيُّ لخيالِ أو مشروعِ عالَمٍ حرٍّ ومتساوٍ مرتكزٍ إلى الاختلافِ والتباين. كما وبمقدورِنا وصفُ عالَمِ الذهنيةِ ذاك بالعالَمِ الكوموناليِّ أو اليوتوبيا الكوموناليةِ للأفرادِ الأحرار. المهمُّ هنا هو الإحياءُ الدائمُ لذهنيةِ المساواةِ والحريةِ التي لا تدحضُ أَوجُهَ التباين، وتحقيقُ انتعاشِها في الحيزِ العامّ، وفي العالَمِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ للمجتمع. أي، العيشُ بالذهنيةِ الديمقراطيةِ على مدارِ الساعة. البُعدُ الثاني هو الجسدُ الذي سيَركُنُ إليه العالَمُ الذهنيّ. المقصودُ من البدن، هو إعادةُ ترتيبِ الوجودِ الاجتماعيِّ بموجبِ العالَمِ الذهنيّ. كيف سيُعادُ ترتيبُ المجتمعِ بموجبِ عالَمِ ذهنيةِ الأمةِ التي يشتركُ الجميعُ في تشاطُرِها؟ أيُّ معيارٍ معماريٍّ سيُطَبَّقُ على الوجودِ الجسديّ؟ باقتضاب، فتعريفُ البُعدِ الجسديِّ يتمثلُ في إعادةِ ترتيبِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ (وبيئتِها) المتبقيةِ من الماضي الغابرِ والتقاليدِ القديمة، والتي رتَّبَتها – أو بَعثَرَتها ونَثَرَتها – الحداثةُ الرأسمالية، بحيث صَيَّرَتها مَريضةً ومتأزمةً وقمعيةً واستغلاليةً إلى أقصى الدرجاتِ (بما في ذلك الممارساتُ التي تبلغُ حدَّ الإبادةِ الثقافية) بما يتماشى ومآربَها المُغرِضة.
يتطلبُ البُعدُ الذهنيُّ فرزاً محدوداً، نظراً لاهتمامِه بعالَمِ الفكرِ والخيالِ ومشاعرِ التعاضدِ فيما بين مجموعِ الأفرادِ والمجموعاتِ الطامحين في التحولِ إلى أمة. وما يتصدرُ هذه الأنشطةَ العمليةَ في سبيلِ ذلك، هو إعطاءُ التدريبِ العلميِّ والفلسفيِّ والفنيِّ (والدينيّ أيضاً)، وافتتاحُ المدارسِ اللازمةِ لهذا الغرض. ذلك أنّ شحذَ الذهنِ والعاطفةِ فيما يتعلقُ التحولَ إلى أمة، هو وظيفةُ تلك المدارس. وبقدرِ الاعتناءِ بالوجودِ التاريخيِّ والاجتماعيّ، فإنّ المحورَ الأساسَ هنا هو وعيُ الحاضرِ والثقافةِ الاجتماعيةِ المعنيةِ بالعصرِ الحاليّ، وتشاطُرُ جوانبُها الصائبةُ والفاضلةُ والجميلةُ على شكلِ أفكارٍ ومشاعر مشتركة. باختصار؛ فالمَهَمّةُ الذهنيةُ الأوليةُ المتجسدةُ في هيئةِ KCK، هي تَصَوُّرُ الكردِ أمةً قائمةً بذاتِها، على صعيدِ عالَمِ الفكرِ والمشاعرِ الفاضلةِ والصحيحةِ والجميلةِ المُشتركةِ فيما يخصُّ نشوءَهم. وبتعبيرٍ آخر، إنها خلقُ كينونةِ الأمةِ لدى الكردِ بالثورةِ العلميةِ والفلسفيةِ والفنية، وإبداعُ عالَمِ الفكرِ والمشاعرِ الأساسيِّ لهذه الكينونة؛ والتشاطرُ الحرُّ لانفراجِ وانشراحِ الحقيقةِ العلميةِ والفلسفيةِ (الأيديولوجية) والفنيةِ للواقعِ الكرديّ. والسبيلُ إلى ذلك هو التفكيرُ الذاتيّ، وتَلَقّي التدريبِ الذاتيّ، وتشاطُرُ الفاضل، والعيشُ بجمالية. والنقطةُ الأوليةُ التي يُمكنُ مطالبةُ الدولِ القوميةِ الحاكمةِ بتلبيتِها على الصعيدِ الذهنيّ، هي الالتزامُ التامُّ بحريةِ الفكرِ والرأيِ والتعبير. ولَئِنْ كانت الدولُ القوميةُ ترغبُ في العيشِ المشتركِ مع الكردِ في ظلِّ معايير مشتركة، فعليها احترامُ قيامِ الكردُ بتكوينِ عالَمِهم الفكريِّ والعاطفيِّ الخاصِّ بهم، وبالارتقاءِ بأنفسِهم إلى منزلةِ مجتمعٍ وطنيٍّ مُحَصَّنٍ بفوارقِهم وتبايناتِهم؛ وعليها تضمينُ حريةِ الفكرِ والرأيِ والتعبيرِ بدستور، كشرطٍ لا بدّ منه. ذلك إنّ الطريقَ المؤديةَ إلى تشكيلِ أمةٍ مشتركة، تمرُّ من الامتثالِ الكاملِ بحريةِ الفكرِ والرأي.
الطريقُ الثاني على دربِ التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية، هو إعادةُ ترتيبِ النشوءِ الجسديّ. هذا ويتسترُ شِبهُ الاستقلالِ الديمقراطيِّ في رُكنِ البُعدِ الجسديّ. وبالمقدورِ صياغةُ تعريفٍ عامٍّ وآخر ضيقٍ بصددِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ. فهو بمعناه الواسعِ يعني الأمةَ الديمقراطيةَ التي لها أبعادُها المتوزعةُ على مساحاتٍ أوسع. إذ يُمكنُ تعريفُه بنطاقٍ عامٍّ من خلالِ أبعادِه الثقافيةِ والاقتصاديةِ والاجتماعيةِ والقانونيةِ والدبلوماسيةِ وغيرِها. أما بالمعنى الضيق، فشبهُ الاستقلالِ الديمقراطيِّ يفيدُ بالبُعدِ السياسيّ، أو بعبارةٍ أخرى: إنه يدلُّ على الاقتدارِ الديمقراطيِّ أو الإدارةِ الديمقراطية. هذا ويعاني بُعدُ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ على دربِ التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطيةٍ من إشكالياتٍ أكثر استعصاءً مع الدولِ القوميةِ الحاكمة، التي عادةً ما تطعنُ بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ وتدحضُه، ولا تَميلُ إلى الاعترافِ به كحقٍّ مشروع، ما لَم تستدعِ الضرورة. من هنا، فالاعترافُ والقبولُ بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ بالنسبةِ إلى الكرد، يكمنُ في أساسِ الوفاقِ مع الدولِ القومية. ذلك أنه يُشَكِّلُ الحدَّ الأدنى للعيشِ المشتركِ مع الدولِ القوميةِ للأثنياتِ الحاكمةِ تحت سقفٍ سياسيٍّ جامع. وأيُّ اختيارٍ أدنى منه مرتبةً، لن يعنيَ حلَّ القضية، بل تجذُّرَ العقمِ وتصعيدَ أجواءِ الصراعِ والاشتباك. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ الرأسماليةَ الإنكليزيةَ قد صاغَت مؤخَّراً مشروعَ "الحقوق الفردية والثقافية" الليبراليّ، كي تتمكنَ من توجيهِ طبقتِها العاملةِ ومستعمَراتِها بسهولةٍ أكبر؛ وتعملُ على تنفيذِه داخل الجمهوريةِ التركيةِ أيضاً بِيَدِ AKP. إلا إنّ هذا المشروعَ الغريبَ عن ثقافةِ الشرقِ الأوسط، لن يُجديَ نفعاً سوى في تصعيدِ أوساطِ الصِّدامِ والنزاع. أما شبهُ الاستقلالِ الديمقراطيّ، فهو أفضلُ مشاريعِ الحلِّ المُصاغةِ لصالحِ الدولةِ القومية. وأيُّ فكرةٍ أو تجربةٍ أَقَلُّ مستوى منه، لن تفيدَ سوى في خدمةِ أجواءِ الحربِ والصراعِ المستفحلة.
بالوسعِ تطبيقُ حلِّ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ عن طريقَين: يعتمدُ الطريقُ الأولُ الوفاقَ مع الدولِ القومية، ويَجِدُ تعبيرَه الملموسَ في حلِّ الدستورِ الديمقراطيّ. وهو يحترمُ ميراثَ الشعوبِ والثقافاتِ التاريخيَّ – الاجتماعيّ، ويَعتَبِرُه أحدَ الحقوقِ الدستوريةِ الأساسيةِ التي لا استغناء لها عنها للتعبيرِ عن نفسِها وتنظيمِ ذاتِها ونيلِ حريتِها. وشِبهُ الاستقلالِ الديمقراطيّ مبدأٌ رُكنٌ لهذه الحقوق. وأولُ شرطٍ لهذا المبدأِ الثابت، هو تراجُعُ الدولةِ القوميةِ الحاكمةِ عن شتى سياساتِها في الإنكارِ والإبادة، وتخلي الأمةِ المضطهَدةِ أيضاً عن فكرةِ بناءِ دولتيتِها القوميةِ الذاتيةِ الخاصةِ بها. بمعنى آخر، من العصيبِ للغاية أنْ يَرى مشروعُ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ النورَ على أرضِ الواقع، ما لَم تتخلَّ كِلتا الأمتَين عن ميولِها الدولتية. والمحطةُ التي بلغَتها بلدانُ الاتحادِ الأوروبيِّ بعد خبرةٍ طويلةٍ على دربِ الدولةِ القوميةِ دامت ثلاثةَ قرونٍ بحالِها، هو قبولُها بكونِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ هو أفضلُ نموذجٍ لحلِّ القضايا الإقليميةِ والقوميةِ وقضايا الأقلياتِ التي تعاني منها الدولُ القومية.
وفيما يخصُّ حلَّ القضيةِ الكرديةِ أيضاً، فالسبيلُ الأساسيُّ المبدئيُّ والثمينُ والذي لا يستندُ إلى الانفصاليةِ أو العنف، إنما يمرُّ من القبولِ بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ. وجميعُ الطرقِ عدا هذا السبيلِ تؤدي إلى إرجاءِ القضايا وإمهالِها، وبالتالي إلى توطيدِ الانسدادِ العقيمِ أكثر، أو تفضي إلى تصعيدِ الاشتباكاتِ وحصولِ الانفصال. وتاريخُ القضايا الوطنيةِ عامرٌ بالأمثلةِ على هذا الصعيد. ونَعيمُ بلدانِ الاتحادِ الأوروبيِّ بالرفاهِ والغنى ضمن أجواءٍ يعمُّها السلام خلال العقودِ الستةِ الأخيرة، بعدما كانت مهدَ الاشتباكاتِ والنزاعاتِ الوطنية؛ إنما أصبحَ ممكناً بقبولِها لشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، وبتطويرِها المواقفَ والممارساتِ المرنةَ والخلاّقةَ لحلِّ قضاياها الإقليميةِ والوطنيةِ وقضايا الأقلياتِ لديها. أما في الجمهوريةِ التركية، فالعكسُ هو الذي سرى. فالدولةُ القوميةُ المُرادُ إكمالُها وتتويجُها بسياسةِ الإنكارِ والإبادةِ بحقِّ الكرد، قد زجّت الجمهوريةَ في معمعانِ إشكالياتٍ ضخمةٍ لا تُطاق، وأقحمَتها في أجواءٍ من الأزماتِ المتواصلة، والانقلاباتِ العسكريةِ التي يُلجَأُ لها كلِّ عشرِ سنوات، ونظامِ الحربِ الخاصةِ المُسَيَّرةِ على يدِ الغلاديو. وعليه، فلن تستطيعَ الدولةُ القوميةُ التركيةُ بلوغَ الرفاهِ والسعادةِ والغنى، أو ترسيخَ أجواءِ السلامِ الوطيدِ كجمهوريةٍ علمانيةٍ وديمقراطيةٍ طبيعيةٍ قانونية؛ إلا تماشياً مع مدى تخليها عن كلِّ ضروبِ سياساتِها الداخليةِ والخارجيةِ تلك، وتراجُعِها عن ممارساتِ نظامِها ذاك، واعترافِها بشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ لجميعِ الثقافاتِ عموماً (بما في ذلك الثقافتان التركمانيةُ والتركية)، وللوجودِ الثقافيِّ الكرديِّ على وجهِ الخصوص.
طريقُ الحلِّ الثاني لشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، هو تطبيقُ مشروعِه بشكلٍ أحاديِّ الجانبِ ولا يعتمدُ على الوفاقِ مع الدولِ القومية. حيث يطبِّقُ أبعادَ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ على أرضِ الواقعِ بمعناها العامّ، مُؤَمِّناً بذلك حقَّ الكردِ في التحولِ إلى أمةٍ ديمقراطية. لا جدالَ أنه في هذه الحالةِ ستزدادُ الاشتباكاتُ حِدّةً مع الدولِ القوميةِ الحاكمة، التي لن تعترفَ بطريقِ التحولِ أحاديِّ الجانبِ إلى أمةٍ ديمقراطية. ومقابلَ هجماتِ الدولِ القوميةِ فُرادى أو جَمعاً (إيران – سوريا – تركيا)، فإنّ الكردَ في هذه الحالِ لن يَجِدوا أمامَهم خياراً سوى "الانتقال إلى وضعِ الحربِ والنفيرِ العامِّ بهدفِ صونِ وجودِهم والعيشِ بحرية". ولن يتقاعسوا عن تسخيرِ قواهم الذاتيةِ في تحقيقِ وتطويرِ تحوُّلِهم إلى أمةٍ ديمقراطيةٍ بكلِّ أبعادِها على خلفيةِ الدفاعِ الذاتيّ؛ إلى أنْ تُفرزَ الحربُ وفاقاً ما، أو يتوطَّدَ الاستقلال.