ينبغي أنْ يَكُونَ الفردُ المواطنُ مشاعياً في الأمةِ الديمقراطيةِ بقدرِ ما يَكُونُ حراً...
عبد الله أوجلان
يتعينُ التنبيهُ سلفاً لعدمِ ارتكابِ خطأٍ أثناء تجسيمِ الحياةِ الوطنيةِ الديمقراطية. ألا وهو أنّ حياةَ الأمةِ الديمقراطيةِ أو أيِّ نوعٍ آخر للأمةِ تتسمُ بالتكاملِ الذهنيِّ والمؤسساتيِّ الدائم. عادةً ما تُصَنَّفُ المجتمعاتُ عموماً والمجتمعاتُ الوطنيةُ الديمقراطيةُ خصوصاً إلى مجالاتٍ وأبعادٍ مختلفةٍ في التحليلاتِ من بابِ التيسير. لكنّ أياً من تلك المجالاتِ لا يتواجدُ بمفردِه وبشكلٍ منفصلٍ عن التكاملِ الكلياتيّ. ولو شَبَّهنا المجتمعات، وخاصةً الأممَ الديمقراطيةَ المعاصرةَ بكائنٍ حيّ؛ فإنّ كافةَ ساحاتِها وأبعادَها تحيا ضمن تكاملٍ أَشبَهُ بأعضاءِ الكائنِ الحيِّ المترابطةِ ببعضها البعض. بالتالي، ورغمَ تناوُلِ الأبعادِ كلاً على حِدى، إلا إنه يجب عدم التغاضي أبداً عن كونِها قطعاً في جزءٍ واحدٍ متكامل.
ينبغي أنْ يَكُونَ الفردُ المواطنُ مشاعياً في الأمةِ الديمقراطيةِ بقدرِ ما يَكُونُ حراً. فالفردُ الذي يتمتعُ بحريةٍ زائفة، والذي تستثيرُه الأنانيةُ الرأسماليةُ ضد المجتمع، إنما يحيا ضمنياً أعتى أشكالِ العبودية. لكنّ الأيديولوجيةَ الليبراليةَ تُضفي عليه صورةً، وكأنّ الفردَ يتمتعُ بحرياتٍ لامحدودة داخل المجتمع. أما في الواقع، فالفردُ العبدُ المأجورُ الذي يُؤَمِّنُ فرصةَ الربحِ الأعظميِّ بدرجةٍ غيرِ مسبوقةٍ في أيٍّ من مراحلِ التاريخِ الأخرى، ويُحَوِّلُه إلى نظامٍ مهيمن؛ إنما يمثلُ أرقى ضروبِ العبودية. هذا ويُنتَجُ هذا النوعُ من الفردِ ضمن أوساطِ التعليمِ والحياةِ العمليةِ الجائرةِ في ظلِّ الدولتيةِ القومية. ونظراً لتقييدِ حياتِه بسيادةِ المال، فإنّ نظامَ الأَجْرِ يُؤَمِّنُ تكبيلَه وتوجيهَه إلى الجهةِ التي يشاء، تماماً كما الكلبُ المربوطُ إلى الطوق. وما مِن خيارٍ آخر أمامه للعيش. فحتى لو هرب، أي لو فَضَّلَ البطالة، فهذا أيضاً أَشبَهُ بالاحتضارِ منتصباً على قدمَيه. زِدْ على ذلك أنّ الفرديةَ الرأسماليةَ قد تشكلَت على خلفيةِ إنكارِ المجتمع، فتَعتَقدُ بأنها ستُحَقِّقُ كينونتَها بقدرِ دحضِها وطعنِها في شتى ثقافاتِ المجتمعِ التاريخيِّ وتقاليدِه. وهذا هو الزيغُ الأكبرُ الذي تعرضُه الأيديولوجيا الليبرالية. ويتلخصُ شعارُها الرئيسيُّ في عبارةِ "المجتمعُ غائب، والفردُ موجود". وعليه، فالرأسماليةُ نظامٌ مَرَضِيٌّ مرتكزٌ أساساً إلى أرضيةِ استهلاكِ المجتمعِ واستنفاذِه.
مقابلَ ذلك، فإنّ فردَ الأمةِ الديمقراطيةِ يَجِدُ حريتَه في مشاعيةِ المجتمع، أي في الحياةِ على شكلِ مجموعاتٍ صغيرةٍ أكثر فاعلية. وبقولٍ آخر، فالمشاعةُ (الكومونة) أو المجموعةُ الحرةُ والديمقراطية، هي المدرسةُ الأوليةُ التي ينشَأُ فيها فردُ الأمةِ الديمقراطية. لذا، لا فردانية لِمَن لا كومونة له أو لا حياة كومونالية له. هذا وتُعَدُّ المشاعاتُ متنوعةً إلى أبعدِ حدّ، وتَسري في ميادينِ الحياةِ الاجتماعيةِ جمعاء. وبمقدورِ الفردِ العيشُ ضمن أكثر من مشاعةٍ أو حياةٍ اجتماعيةٍ بما يتوافقُ وأوجُهَ التباينِ والاختلافِ لديه. المهمُّ هنا هو أنْ يَعرفَ الفردُ كيفَ يعيشُ داخل المجموعةِ المشاعيةِ بما يتناغمُ مع مهاراتِه وكدحِه وفوارقِه. هذا ويَعتَبِرُ الفردُ مسؤوليتَه تجاه المشاعةِ أو الوحداتِ الاجتماعيةِ التي ينتسبُ إليها ثابتاً أساسياً للتحلي بالأخلاق. فالأخلاقُ يعني إجلالَ المجموعةِ والحياةِ المشاعية، والالتزامَ بهما. كما إنّ الكومونةَ أو المجموعةَ تتبنى أفرادَها بالمقابل، وتحميهم، وتُؤَمِّنُ عيشَهم. وبالأصل، فالمبدأُ الأوليُّ لتكوينِ المجتمعِ البشريّ، هو ثباتُ روحِ المسؤوليةِ الأخلاقيةِ ذاك. أما الطابعُ الديمقراطيُّ للمشاعاتِ أو المجموعات، فيُؤَمِّنُ الحريةَ الجماعية، أو بمعنى آخر، يُحَقِّقُ المشاعةَ أو المجموعةَ السياسية. لذا، فالمشاعةُ أو المجموعةُ غيرُ الديمقراطية، لا يُمكنُ أنْ تَكُونَ سياسية. ولا يُمكنُ للمشاعةِ أو المجموعةِ التي ليست سياسيةً أنْ تَكُونَ حرة. بناءً عليه؛ ثمة تكافؤٌ وتعادُلٌ متينٌ بين الطابعِ الديمقراطيِّ والطابعِ السياسيِّ وطابعِ الحرية.
إذن، والحالُ هذه، ينبغي تعريفُ البُعدِ الرئيسيِّ الأولِ للأمةِ الديمقراطية بهذا المنوال، تأسيساً على الفردِ والمشاعةِ اللذَين تَتَّخِذُهما أساساً. أي إنّ الشرطَ الأولَ لكينونةِ الأمةِ الديمقراطية، هو أنْ يَكُونَ الفردُ حراً، وأنْ يمارسَ حريتَه هذه على أرضيةِ السياسةِ الديمقراطيةِ ضمن مشاعتِه أو جماعتِه التي ينتسبُ إليها. وفي حالِ انضواءِ الفردِ المواطنِ للأمةِ الديمقراطيةِ تحت نفسِ السقفِ السياسيِّ مع الدولةِ القومية، فإنّ نطاقَ تعريفِه يتسعُ أكثر نوعاً ما. وهو في هذه الحالةِ فردٌ مواطنٌ في الدولةِ القوميةِ ضمن إطارِ "المواطَنةِ الدستورية"، بقدرِ ما هو كذلك ضمن أمتِه الديمقراطية. الخاصيةُ التي تكتسبُ الأهميةَ هنا، هي الاعترافُ بوضعِ الأمةِ الديمقراطية. أي، تحديدُ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ كوضعٍ قانونيٍّ ينصُّ عليه الدستورُ الوطنيّ. هذا وللوضعِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ اتجاهان اثنان: يُعَبِّرُ أولُهما عن تحقُّقِ وضعِ أو قانونِ أو دستورِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ في داخلِه. وثانيهما هو ترتيبُ وضعِ شبهِ الاستقلالِ كقِسمٍ سفليٍّ ضمن الوضعِ الدستوريِّ الوطنيّ. هذا وثمة هكذا ترتيباتٌ من هذا القبيلِ في دساتيرِ العديدِ من بلدانِ الاتحادِ الأوروبيّ، بل وحتى بلدانِ العالَمِ أيضاً.
إلى جانبِ كونِ الإنشاءِ أحاديِّ الجانبِ للأمةِ الديمقراطيةِ المستندةِ إلى وحدةِ الفردِ المواطنِ الحرِّ والمشاعةِ حلاً أساسياً، إلا إنه بإمكانِ KCK التوجهُ صوبَ الحلِّ مع الدولِ القوميةِ الحاكمةِ المعترفةِ بوضعِ شبهِ الاستقلالِ الديمقراطيِّ في ظلِّ سيادةِ الدستورِ الديمقراطيِّ الوطنيّ. فبنيةُ KCK منفتحةٌ على التزامِها بحياةِ الفردِ المواطنِ الحرِّ وحياةِ المجموعةِ على حدٍّ سواء، وبالوضعِ القانونيِّ والدستوريِّ لتلك الحياة.
هذا وبالإمكانِ تعريفُ عضويةِ KCK على أنها الفردُ المواطنُ الحرُّ في الأمةِ الديمقراطية. ولكن، يتعينُ عدمُ خلطِ هذه العضويةِ والمواطَنةِ بمواطَنةِ الدولةِ القوميةِ التي تُحَدِّدُ مستوى العبوديةِ العصريةِ للرأسمالية. أي إنّ الفرديةَ الرأسماليةَ تعني الخنوعَ والعبوديةَ المطلقةَ لإلهِ الدولةِ القومية، في حين تُعَبِّرُ مواطَنةُ الأمةِ الديمقراطيةِ عن حالةِ الفردِ الحرِّ بالمعنى الحقيقيِّ للكلمة. وهكذا، بالمقدورِ إنجازُ مواطَنةِ الكردِ ضمن أمتِهم الديمقراطيةِ تحت كنفِ KCK. بالتالي، سيَكُونُ من الأنسبِ من حيث التعريفِ إناطةُ عضويةِ KCK بهويةِ مواطَنةِ الأمةِ الديمقراطية. بمعنى آخر، فكونُ الكردِ مواطنين في كنفِ أمتِهم الديمقراطية، هو حقٌّ وواجبٌ لا غنى عنه في آنٍ معاً. في حين إنّ عجزَ المرءِ عن التمتعِ بمواطَنتِه ضمن الأمةِ التي ينتمي إليها، دليلٌ على اغترابٍ فظيعٍ لا يُمكنُ الدفاعُ عنه تحت أيةِ ذريعةٍ كانت. والمشكلةُ التي تنتصبُ أمامنا هنا، هي ما سيحلُّ بمواطَنةِ الدولةِ القوميةِ الحاكمة. في الحقيقة، بالوسعِ تمثيلُ كِلتا المواطَنتَين معاً بالتداخل. فإذا بُلِغَ بالقضيةِ الكرديةِ إلى الحلِّ ضمن إطارِ المواطَنةِ الدستوريةِ الديمقراطيةِ في كنفِ البلدِ المعنيّ، فإنّ التمتعَ بكِلتا المواطَنتَينِ أنسبُ وأصلحُ من جهةِ الواقعِ الاجتماعيّ. بل وحتى كان بالمقدورِ صياغةُ تعريفِ مواطَنةٍ ثلاثية، لو أنّ تركيا أصبحَت عضواً في الاتحادِ الأوروبيّ. فكيفما أنّ مواطَنةَ كاتالونيا – إسبانيا – الاتحاد الأوروبيّ تتسمُ بمعاني ثلاثيةٍ في إسبانيا، فكان من الواردِ أنْ تتحلى مواطَنةُ كردستان – تركيا – الاتحاد الأوروبيِّ أيضاً بالمعاني الثلاثيةِ عينِها حينذاك. على كلِّ فردٍ كرديٍّ توخي العنايةِ اللازمةِ لتعريفِ نفسِه في سياقِ KCK ضمن إطارِ المواطَنةِ الثنائيةِ ضمن كلِّ دولةٍ قوميةٍ معنية. بل إنّ الأمرَ يتعدى موضوعَ توخي العنايةِ اللازمة، ويتطلبُ تحقيقَ هويةِ المواطَنةِ الثنائية. وفي حالِ عدمِ تمكنِ KCK من إنجازِ هذه الهويةِ الثنائيةِ لأفرادِ أمتِه الديمقراطيةِ بالوفاق؛ فعليه إنجازُ هويةِ مواطَنتِه الأحادية. وعليه وضعُ أجواءِ القمعِ التي ستُلَوِّحُ بها الدولُ القوميةُ الحاكمةُ في هذه الحالة، وتحقيقُ مَهَمَّتِه في منحِ كلِّ فردٍ لديه هويةَ مواطَنتِه المُصَمَّمةَ بحجمٍ معقولٍ يتضمنُ الرمزَ المطلوب.
على كلِّ عضوٍ مواطنٍ في KCK أنْ يتجاوزَ فردانيتَه التي طَعَّمَتها الرأسماليةُ بالفرديةِ فاختزلَتها إلى وضعِ العدم، ويعيشَ عضواً مشاعياً. إذ علينا المعرفةُ يقيناً بأنْ مَن لا حياة مشاعية له، لن تَكُونَ له شخصانيتُه؛ والقبولُ بذلك مبدأً أخلاقياً أولياً. كما ويجبُ عدم الإغفالِ أبداً بأنّ عضويةَ مشاعةٍ أو مجموعةٍ تدلُّ في الوقتِ نفسِه على وجودِ جانبٍ ديمقراطيّ. هذا ولن تتسيَّسَ – وبالتالي تتحررَ – كومونةٌ أو مجموعة، إلا بالآليةِ الديمقراطية. وهكذا يتمُّ التيقنُ من أنّ كلَّ مشاعةٍ أو مجموعةٍ هي في ذاتِ الوقتِ وحدةٌ Birim (Unit) في مجتمعٍ أخلاقيٍّ وسياسيّ. أي إنّ كلّ مشاعةٍ أو مجموعةٍ في KCK، هي بمنزلةِ وحدةٍ أخلاقيةٍ وسياسيةٍ في الآنِ عينِه. وأفرادُها المواطنون أيضاً هم أفرادٌ مواطنون أخلاقيون وسياسيون. مقصدُنا من الحديثِ عن المشاعاتِ أو المجموعاتِ هو الجماعاتُ البشريةُ الفاعلةُ في كافةِ ميادينِ المجتمع. فكيفما أنّ قريةً تتسمُ بشروطِ الكومونةِ هي فعلاً مشاعةٌ أو مجموعةٌ على سبيلِ المثال، فبالاستطاعةِ الارتقاءُ بهذا التعريفِ إلى مستوى الضواحي والمدنِ أيضاً. كما وبمقدورِ تعاونيةٍ أو مصنعٍ أو وقفٍ أو جمعيةٍ أو منظمةٍ مدنيةٍ أيضاً أنْ تَكُونَ مشاعة. وبما أنه يتوجبُ عليها أنْ تتحلى بالديمقراطيةِ في الوقتِ عينِه، فبإمكانِنا تسميتُها بالنظامِ الكوموناليِّ (المشاعيّ) الديمقراطيِّ أيضاً. ومثلما أنه بالمقدورِ الانتقالُ بالمشاعةِ إلى كافةِ مجالاتِ الحياةِ كالميادينِ التعليميةِ والثقافيةِ والفنيةِ والعلمية، فبالمقدورِ أيضاً دمقرطةُ الحياةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ وتصييرُها مشاعية. ولا يُمكِنُ للفردِ المواطنِ الحرِّ إلا أنْ يتحققَ ضمن هذه الحياةِ المشاعيةِ الديمقراطية. إنّ مُواطَنةَ فردِ الأمةِ الديمقراطيةِ عموماً، ومواطَنةَ فردِ KCK خصوصاً وبصورةٍ عينيةٍ ملموسة؛ هما من دواعي الحياةِ الأخلاقيةِ والسياسيةِ المفعمةِ بروحِ المسؤولية. هذا وينبغي فهمُ هذا اللزومُ على أنه في الوقتِ نفسِه أحدُ حقوقِنا وواجباتِنا الأساسية. وفي حالِ قبولِ الدولِ القوميةِ بحقوقِنا وواجباتِنا الأوليةِ تلك، فبإمكانِ الكردِ أيضاً عندئذٍ قبولُ حقوقِهم وواجباتِهم الأساسيةِ ضمن إطارِ مواطَنةِ تلك الدولِ القومية.