سياسة عصر الحضارة الديمقراطية هي السياسة الديمقراطية

النقطة الهامة لعصر الحضارة الديمقراطية تتمثل بتطوير الحساسية الديمقراطية لدى الدولة...

عبد الله أوجلان

من الأنسب أن نطلق اسم "عصر الحضارة الديمقراطية" على هذه المرحلة الانتقالية أي بين نظام الحضارة القديم بأزمته المتفاقمة والمستمرة وبين الانطلاقة الحضارية الجديدة التي لم تتبلور بعد. فانتقال الأساليب الديمقراطية كونها نظام وفاق تم التوصل إليه في نهاية القرن العشرين، إلى وضع المسيطر والسائد لم يتم بناءً على خيارات مزاجية وعشوائية بل كان نتيجة لشروط موضوعية، وقد لعب إفلاس الخيار الفاشي واستبدادية الاشتراكية المشيدة دوراً مصيرياً في وصول الديمقراطية إلى هذا الوضع.

لا يمكن تقييم الخيار الفاشي للرأسمالية بالشكل الهتلري فحسب، بل هو عبارة عن مرحلة تولدت من وصول الطغمة المالية إلى مرحلة الهيمنة وكذلك عن حقيقة النظام الدموي لرجعية الرأسمالية بشكل كلي، ومن المعلوم أنها لم تنتشر في المراكز الرأسمالية فحسب، بل تم العمل على نشرها في علاقاتها مع الدول المحيطة وفي دول الأطراف. إن الخوف والرعب اللذان نجما عن ظروف الانهيار والطابع الشوفيني للقومية الذي فاق التعصب الديني واحتمال أن تتحول الاشتراكية إلى نظام، كل هذه الأمور جعلتها من أكثر الأنظمة ظلماً وقسوة في التاريخ. أما أسباب فشلها فقد جاءت من مستوى الحرية الذي اكتسبته البشرية بشكل عام، ومن نجاحات الثورات العلمية التقنية، ولقد أرغم هذا الوضع النظام الرأسمالي على الخيار الجديد، وبما ان النظام لن يقبل بالانهيار، ولما كان انتصار الفاشية الشامل أمراً مستحيلاً، حينها كان لا بد من نظام توفيقي طويل الأمد، ولم يكن غريباً عندما أطلقوا على هذا الوفاق اسم الديمقراطية، وخاصة أن النجاحات الكبرى للثورة التقنية لم تكتف باعتماد الديمقراطية فحسب، بل برهنت على أنها أفضل نظام يمكن أن يحقق التطور، مما أدى إلى فتح الطريق أمام أمن النظام الرأسمالي، ورغم الممارسات المحدودة في البداية فقد تم قبول الديمقراطية كنمط للإدارة وللحياة الأنسب للوصول إلى نظام كوني في نهاية القرن العشرين، وشيئاً فشيئاً انتشرت في كل مكان.

تعد الدولة ضمن شروط المجتمع الطبقي نفياً وإنكاراً للحرية

يتناقض توجه الاشتراكية المشيدة نحو التوتاليتارية مع مبدأ الحرية اللازم من أجل تقدم الاشتراكية، حيث لم يعد هناك مفر من فشل النظام عندما اتضح أن إذابة الفرد باسم المجتمع حتى لو كان بهدف المساواة، لن يجعل الفرد خلاّقاً حتى بتلك الدرجة التي تجعله الليبرالية البرجوازية. فلقد كانت المساواة تامة في النظام العبودي وكل ما ينقصه هو الحرية فقط، ومنذ تلك المرحلة أصبح طلب المزيد من الحرية هدفاً لكل الممارسات التي قامت بها البشرية، إن الاشتراكية المشيدة هي ضرب من النظام الكهنوتي السومري الذي تم تطبيقه في زمن ما، حيث حقق الكهنة السومريون أول نظام عبودي جماعي، وكان عبارة عن دولة عبودية أشبه ما تكون بدولة الاشتراكية المشيدة. سواء تم تأسيس الدولة إيضاح اليسار أو باسم اليمين، وحتى لربما احتوت في أساسها على أنظمة تخدم مبدأ المساواة، ولكن هذا لا يتم إلا من خلال التضحية بالحرية الفردية، إذ تعد الدولة ضمن شروط المجتمع الطبقي نفياً للحرية، حيث بقيت دولتية الاشتراكية المشيدة كممارسة مكثفة وواسعة متخلفة عن الرأسمالية في مجال الحرية الفردية.

حتى تتمكن الأنظمة التي لا تعتمد على الحرية، من النجاح على الأنظمة التي تعتمد الحرية لابد أن تلجأ إلى العنف الذي يعتبر الطريق الوحيد أمامها. وقد خسر النظام السوفيتي في هذه النقطة تحديداُ. كما تقف أخطاء الهوية الإيديولوجية وراء هذه الحقيقة أيضاً. فمن دون تحقيق تناول فلسفي يستطيع تحرير هوية الفرد بالقدر الذي تحرره الرأسمالية، ومن دون أن تتكامل هذه الحرية مع المساواة الحقيقية، يكون الحديث عن حضارة جديدة مغالطة كبرى. فبعد اتخاذ فلسفة مادية فظة كمرشد للحياة، يكون الوصول إلى نظام يشبه النظام العبودي أمراً حتمياً. وباختزال ظاهرة كحياة الإنسان المعقدة إلى أبعد حد، إلى عدة كليشهات مادية فجة سيكون قد فتح الباب على مصراعيه أمام خلق إنسان تابع لغرائزه. والتجربة السوفيتية تعتبر دليلاً على هذه الحقيقة إلى حد ما. أما شيوع النزعة القومية في القرن العشرين فهي لا تتجاوز حركة قبلية معاصرة ولا يمكن أن ننتظر منها أي إسهام للحضارة الجديدة، باعتبارها نزعة متطورة للقبلية نمت من الناحيتين الكمية والكيفية، عند تحليل الديمقراطية المعاصرة يجب أخذ هذه الحقائق الأساسية بعين الاعتبار، فمع أكثر دولة تميل إلى الاستبداد في التوازن النووي الرهيب ستتحول كافة البشرية إما إلى جنود أو إلى عمال، وهذه التطورات وصلت مستويات لا يتحملها المجتمع الطبقي وكلها تنشأ من بنى الثورة والثورة المضادة المتأزمة، والتي لا يمكنها أن تقوم بالوظائف العادية لأي نظام، ولا يمكن لأية ثورة أو ثورة مضادة أن تصمد طويلاً بهكذا بنية، وقد برهن ذلك من خلال العديد من الأمثلة.

يمكن تقديم الكثير من التعريفات حول الديمقراطية ويمكن التوقف مطولاً عند طابعها الطبقي وطابعها الوفاقي وطابعها المسالم. كما يمكن شرح تطورها النظري والعملي بعمق، وكما يمكن أن يتضح بأنها ليست نظام الحضارة الوحيد ولكن يمكننا أن نقول: أنه لأول مرة تتوفر إمكانية التطور والسباق بين كافة الشعوب والثقافات في أجواء من السلام والعلاقات الشاملة وباسم الخيارات الإيديولوجية والاقتصادية والسياسية حتى ولو حدث ذلك بطريقة غير وافية. ومن الأهمية توضيح أن الديمقراطية التي تأكد انتصارها في نهاية القرن العشرين قد تجاوزت الطابع الطبقي الضيق، حيث حملت كافة الديمقراطيات التي طبقت حتى هذه المرحلة نموذج طبقية ضيقة، بل يمكن القول بأن تلك الديمقراطية حتى ولو كانت شكلاً، لم تكن تشمل كافة المواطنين، ولم تكن أكثر من أسلوب حكم لكيان ضيق من المواطنين الأثرياء، أنها ضرب من ديمقراطية أثينا الأولى، حيث تتخذ من الواقع الطبقي أساساً لها، لكن الديمقراطية التي تحققت في نهاية القرن العشرين استطاعت تجاوز هذا الضيق بشكل متقدم، فهي لم تكتفِ بالتوسع على مستوى الشمول الطبقي فحسب، بل أصبحت تعترف بإمكانية التنظيم والتعبير الحر في كافة المجالات الأساسية مثل الفكر والإيمان والثقافة الأشمل والفروقات الاقتصادية والممارسات السياسية. فكل الأضداد تملك فرص تغيير وتطوير نفسها دون اللجوء إلى العنف ولو بشكل محدود، وهنا لا تنته الصراعات والتضامنات في كافة المجالات الطبقية والقومية، الفكرية والعقائدية، الاقتصادية والثقافية، الاجتماعية والسياسية، فلا تتوقف العلاقات والصراعات، بل تولد مرحلة التنفيذ التزاماً بالقوانين السائدة والأشكال السلمية.

 

من المؤكد أن الديمقراطية تحمل جوهراً أكثر إنسانية

النظر إلى الدموية كمقياس للشجاعة والعظمة هي من تقاليد وأعراف المجتمع الطبقي الأكثر بربرية، ويتم تعظيمها وتقديسها لأجل تغطية حقيقتها الملعونة جداً، فلا يمكن لأي انتصار تحقق على المجازر المرعبة أن يكون مقدساً، وإذا كان لا بد من التقديس فهو الشيء الذي يتحقق بأقل قدر من الألم ويرمي إلى خير الإنسانية باستثناء آلام المخاض الضرورية، وبالتالي فإن الديمقراطية الحديثة التي تجاوزت كافة الأشكال الدموية والتي سادت طوال تاريخ المجتمع الطبقي واعترفت بحق كل إنسان وكل اثنية ودين وجنس وحق كل مجموعة اقتصادية وسياسية بالتعبير الحر، تكون هي أقرب شكل للحياة وأفضل أسلوب للحكم وتستحق التقديس. ومن المفيد أن نوضح بأن هذه الديمقراطية تتحقق لأول مرة منذ بداية التاريخ.

إن تطور الديمقراطية الحديثة ارتقائي ويحدث من الداخل، ولا تظهر نفسها بنتائج مذهلة. لكن إذا كانت الإنسانية تريد أن تملئ ذهنها وروحها بالتطورات الخلاّقة فإنها لن تجد أفضل من هذا النظام. إضافة الى إعطاء الأجوبة الكافية للمسألة التي تتمحور حول السبب الذي جعل الديمقراطية تتحقق بهذه الشمولية، كذلك يجب الا نمل من التكرار عندما نقول بأن الثورات التقنية العلمية قد أظهرت الإمكانات المادية اللازمة لتجاوز الأزمة المتفاقمة والمستمرة.

ان عصر الحضارة الديمقراطية يعبر عن مرحلة تاريخية طويلة الأمد، حيث لم يحسم بعد التجاوز التام للعصر الحضاري الطبقي ارتباطاً مع التحولات والتطورات العلمية والتقنية، ولم يتبلور الجديد كما يجب بعد، أي هناك تداخل بين القديم والحديث. لكن التحول السلمي يسبق رؤيته، وهذا يعتمد على المستوى التقني الموجود وعدم اللجوء الى العنف وخلق شروطاً مناسبةً لتشكيل أرضية مادية للقيام بكل التغييرات المختلفة، كما تجاوز المجتمع المنغلق بالدولة التقليدية واكتسب المجتمع المدني كساحة ثالثة تقع بين الساحة الأول والثانية، أي بين الدولة والمجتمع تأثيراً كبيراً، مما يؤدي إلى ظهور نمط من الحياة والإدارة الفيدرالية، ويتم النظر إلى  التنوع والتمايز الأيديولوجي والاقتصادي والاجتماعي والاثني والجنسي والعرقي والسياسي على انه عامل غني وثراء للمجتمع، ويعتمد على ان كل مجموعة تمتلك حرية التعبير وتتزود بالوعي والتنظيم الذي تريده، ولأن ذلك الوعي فعّال للحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، فإن التعبير الصحيح لهذا النمط من الإدارة والحياة، هو حصول الدولة والمجتمع على المؤسسات المختلفة والضرورية على أساس فيدرالي، ولهذا فالفيدرالية التي تعتمد على مؤسسات المجتمع المدني بقدر ما تختلف عن نمط الحياة والإدارة الديكتاتورية والاستبدادية فهي تمثل الديمقراطية المعاصرة وتتوافق مع قيمها، وبناءً عليه إذا أردنا أن نضع مصطلحاً عاماً لعصرنا فذلك سيكون "عصر الفيدرالية الديمقراطية العالمية".

إن نظام الحضارة الديمقراطية هو عصر دمقرطة المجتمع (التحول إلى مجتمع ديمقراطي). وبهذا المعنى يجب على الشعوب أن تدخل المسار بهويتها الخاصة وبإرادة واعية ومتحررة، وستعمل على تبني هوياتها التي تعرضت للتخدير والقمع على مدى آلاف السنين. وسيتمثل كيانها الثقافي باعتباره الميراث الأكثر قيمة وستعتمد عليه في الحياة الجديدة. وإن الجهود التي بذلت حتى الآن من أجل مصالح الأشخاص والسلالات الحاكمة والكيانات الدينية والزمر الضيقة، ستبذل من الآن فصاعداً في خدمة الكيان الاجتماعي برمته ولضمانة استمراريته، وذلك يعني دمقرطة المجتمع، فوصول ذلك المجتمع ـ كمجتمع معلوماتي ـ إلى إدراك مصالحه وتحويلها إلى مطالب وحملها إلى المؤسسات السياسية، يعني الوصول إلى ديناميكية تراقب وتطالب وتصبح أكثر فاعلية من الإرادة المسلوبة. وضمن هذا النطاق يكون المجتمع ولأول مرة في التاريخ قد وصل إلى مرحلة إدراك نفسه بشكل علمي، وإلى وعي يدافع فيه عن حقوقه ويكون قد تحول إلى وضع يستطيع فيه أن يقرر مصيره بحرية. هذه الحقيقة تعبر بشكل كاف عن السبب الذي جعل من الحضارة الديمقراطية، عصر دمقرطة المجتمع.

من النقاط الأساسية التي تحدد عصر الحضارة الديمقراطية، تتمثل بدمقرطة السياسة

 فإنقاذ السياسة التي عرفت على مدى التاريخ بأنها فن تركيز القوة واستخدامها على أعلى مستوى من أقنعتها وثيابها الضيقة الملونة، يعتبر من إحدى تطورات عصرنا الرائعة، وهذا يعني إنزال السياسة من السماء الى الأرض. وانتهت المناقشات التي كانت تدور حول مصدر السياسة الذي لا ينتهي ولا يستهلك، والاعتراف بأن مصدرها في الأساس هو المجتمع، فالسياسة التي تسترت خلال قرون خلف أمجاد مزورة ومتطورة من أجل خداع البشرية وتحويلها إلى قطيع، قد تحولت إلى أداة بسيطة بيد المجتمع. ولكنها وصلت إلى وعي يمكن أن يعبر عن قيمة باعتبارها أداة مصالح حياتية طويلة الأمد. وكانت الخاصية البارزة لعصر الحضارة الديمقراطية هي إيصالها للسياسة التي كانت تعتبر ولمئات السنين وسيلة إلهية مقتدرة وسحرية، الى معناها الحقيقي وتعريفها كوسيلة في خدمة الشعوب.

إن نجاح حضارة الديمقراطية المعاصرة مرتبط بوصولها إلى شكل تنظيم وتطبيق يتناسبان معها وإلى إعادة تعريف دورها ضمن هذا المعنى، وان المجتمعات والدول التي لم تطور الساحة الثالثة ستكون مسيرتها بساق واحدة في الديمقراطية المعاصرة، ولن يستطيع عنصر العنف والنزعة الانفصالية المسببان للكثير من المصاعب ان يخرجا عن كونهما مشكلة إلا عن طريق اكتسابهما للحرية الموجودة في هذا البعد ولعب دورهما فيه، ومن هذا الجانب تشكل هذه الظاهرة التي يمكن تسميتها بالسياسة الديمقراطية خطوة تمهيدية للانتقال من السياسة المتأزمة إلى السياسة المنتجة للحلول، وستتمكن ساحة السياسة الديمقراطية، كأكثر ساحة ساخنة ومنتجة، من إنتاج الحلول كلما كانت مؤسسات المجتمع المدني أكثر تنوعاً ووظيفة وتنسيقاً. فالثورة ليست الطريق الوحيد، وكذلك الثورة المضادة أيضاً. فالطريق المؤدي إلى الحل هو السياسة الديمقراطية التي تتضمن بدائل حلول متنوعة، إذ أن الحياة مع مرور الوقت تدفع بتشكيل وتطبيق مشروع من أجل تطوير المجتمع المدني إلى المقدمة، والمؤسسة أو الحزب الذي يمتلك مشاريع هذا المجتمع المدني ومنظماته وأعماله، سيتمكن من الإسهام المميز في التحول الديمقراطي للمجتمع وللدولة. إن الذي سيحقق هذا العمل هو الأحزاب أو المؤسسات البعيدة كل البعد عن سياسة السمسرة، والمنتجة للقيم والتي تحمل ذلك الى الدولة والمجتمع الديمقراطية. فالتاريخ يلقي بدور التحول على المؤسسات والأشخاص الذين يمتلكون نظرية وبرنامج واستراتيجية وتكتيك من هذا النموذج. فالذين لا يصبحون أداة لمطالب المجتمع الرسمي غير الواقعية، وبمقدار عدم تحولهم الى آلة لضغوطات الدولة، والذين يؤمنون بأنهم سيحققون خدمات مفيدة للمجتمع والدولة بتطويرهم معايير الديمقراطية المعاصرة، هؤلاء هم الذين سيلعبون دورهم التاريخي بنجاح.

إن هذا الدور يعني امتلاك نظرية الساحة الثالثة فرصة إنتاج الحلول في مرحلة الأزمة، في الوقت الذي أصبح فيه مفهوم المجتمع الذي دخل في طريق مسدود ومفهوم الدولة التي تعمقت أزمتها، يشكلان عائقاً في هذه المرحلة، فالنجاح الكبير الذي سيحرزها مجالها النظري والعملي متوقف على القيام بالأعمال الصحيحة والمتكاملة وعلى تلبية متطلباتها.

النقطة الهامة الأخرى لعصر الحضارة الديمقراطية فتتمثل بتطوير الحساسية الديمقراطية للدولة.

إن تحول الدولة التي تعد أقدم أداة في التاريخ، والتي ما إن يسيطر عليها أحد حتى ينقلب إلى تنين، إلى مؤسسات ديمقراطية يعد في الحقيقة تطوراً ثورياً هاماً. وإن هذا العصر مدعو لأن لا يضفي على هذه الأداة أي صفة أكثر من كونها أداة تنسيق للمجتمع على أعلى مستوى، بعد أن كان يتم تمجيدها باستمرار باعتبارها تمثل الكيان السماوي على الأرض، لقد تم تسليط الضوء بما فيه الكفاية على أن الدولة أنشأت من أجل خدمة الإنسان والفرد، وأنه لا علاقة لها بالآلهة، وأن لجوءها إلى العنف طوال التاريخ ناجم عن وقوعها كأداة بيد السلوك الفردي والسلالات الحاكمة وتعصب الزمر الضيقة. إذ تبين وبما فيه الكفاية بان الذي يجب ان يمجد حقاً هو كل مجتمع يؤكد على ضرورة ان تصبح الدولة أداة تنسيق عامة للمجتمع، وكل من يمجد الدولة باعتبارها كيان مجرد منحطً، وإن تحول الدولة حسب هذا التعريف وإخضاعها للمراقبة هو من أهم حقائق وإنجازات عصر الحضارة الديمقراطية. من المناسب هنا أن يتم تقييم تحول الدولة إلى أداة في خدمة الشعب ووضعها في دور المؤسسة الأساسية للسياسة الديمقراطية، وهذا إنجاز ذو مستوى عال لعصر الحضارة الديمقراطية، كما أن التحول إلى دولة ديمقراطية، يعتبر تطوراً أساسياً في عصرنا.

تحتل مشكلة أشكال الدولة الديمقراطية أهمية من الدرجة الثانية، وكنتيجة لبنيتها المرنة فأن أشكال الدولة بدءاً من الكونفدرالية وحتى المركزية التي تمتلك قدرات وإمكانيات واسعة على الانفتاح، تحمل أهمية كبيرة بقدرتها على إنتاج الحلول. إذ تستطيع الدول والمجتمعات تقرير الشكل المناسب حسب شروطها الواقعية، حيث تعد نوعية المشاكل المعقدة ووسائل مؤسسات الحل الديمقراطي العديدة من العوامل الأساسية التي أنجبت الديمقراطية، وعندما اضطرت الدولة إلى الاعتماد على هذه المؤسسات فإنها بذلك فقدت أهميتها التقليدية، وتلعب دوراً هاماً كأداة تنسيق عليا بينها، إن الطابع الأساسي لدولة بهذه البنية هو ديمقراطيتها. وبما أن الديمقراطية تعبر عن نظام المؤسسات فإن هذا يرغمها بشكل طبيعي على إتباع نظام التعددية والاتحادات وخاصة عندما تزداد أهمية الأعضاء المحليين فإنها تؤدي بالمركزية الى ان تشكل عبئاً، وسيؤدي ذلك بالضرورة إلى التدفق السليم للقوة من المركز إلى الأطراف، ومن البؤر الأساسية إلى البؤر المحلية، والتدفق العام في هذا العصر يأخذ هذا الاتجاه، فلقد تم تطوير البنية التعددية المعتمدة على الحرية وعلى التوزيع العادل للإمكانيات والقوة على كافة المستويات من المجتمع إلى الأسرة، ومن الدولة إلى الاقتصاد. ضمن هذا الإطار تقوم الدولة بتطوير تقدمها الديمقراطي من جهة وتقوم من الجهة الأخرى بنقل القوانين الجديدة إلى أشكال غنية جداً وواسعة، ابتداءً من الكونفدرالية باعتبارها هدفاً هاماً لحركة القوانين الجديدة، وحتى البنى الديمقراطية المعاصرة، ومثلما أزالت هذه الظاهرة الأضرار الناجمة عن مفهوم الوحدة الإرغامية والإكراه، كذلك أزالت أضرار الدولة الصغيرة "ميكرو" الانفصالية التي تلحق الأذى والخسارة بكل الأطراف في النهاية، إن ظواهر مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي ورابطة الدول المستقلة انها تعبر عن تطورات تاريخية، بيّنت جهة تقدم الدولة الديمقراطية المعاصرة، وجعلت المجتمع الجديد والسياسة الديمقراطية ضرورية في جوهرها.