الكونفدراليةُ الديمقراطيةُ هي نظامٌ يحتلُّ مكانَه في سياقِ التاريخِ بكلِّ ثِقَلِه. فالتاريخُ كونفدراليٌّ، لا دولتيٌّ مركزيّ...
عبد الله أوجلان
الديمقراطيات أنظمة مرتبطة بالعمليات الشعبية، ولا يمكن أن تزدهر الديمقراطية في أماكن تغيب فيها العمليات الجماهيرية. وبقدر ما تحترم الدولة العمليات الشعبية، فعلى الشعب أيضاً احترام الدولة وعدم تعطيل النظام الملتزم بالحساسية تجاهه. والأساس هنا هو الالتقاء في مشاريع متبادلة. ومثلما أن ترك كل شيء للدولة يؤول إلى الابتعاد عن الديمقراطية، فإن ترك كل شيء لعمليات الشعب أيضاً يؤدي بالمقابل إلى الفوضوية "أنارشيزم". ومن المهم ألا يتم السقوط في مثل هذه النقاط المتطرفة التي طالما جُرِّبَتْ في التاريخ المديد. من غير الواقعي تقديس الحروب والتمردات الناشبة في القرن الأخير، سواء تلك المخاضة باسم "التحرر الوطني" أو باسم "التحرر الاشتراكي" على وجه الخصوص، أو النظر إليها على أنها عمليات شعبية.
ويشيد تجاوز "الاشتراكية المشيدة" و"الدول القومية" وتخطيها في التحليلات الأخيرة، بعدم كون هذه المزاعم علمانية، ويدل على ذلك بما فيه الكفاية. ويتسم توخي الحذر والحيطة، والتحلي بالواقعية أكثر في التقرب من هذه المصطلحات الشمولية وما شابهها، بأهمية قصوى. فهي تتشابه لحد ما مع مصطلحات الدين والسلالات الاقطاعية. وبات على العمليات الشعبية ألا تتضمن العنف عدا حالات الدفاع المشروع الضرورية جداً، وألا تستهدف هدم الدولة أو بناءها. وإلا فلا يمكن النجاة من تخطيها وبقائها في الخلف، حتى لو مر عليها سبعون عاماً، أو حكمت ثلث العالم. والصحيح هنا أن نصوغ الأهداف الأساسية للعمليات الشعبية كالتالي: نيل رضا الدولة للتمأسس الديمقراطي، وبالتالي لتحرر الشعب، وقبولها لممثلية المكلفين بذلك. ولا يمكن اعتبار الحروب أو العمليات الناطقة باسم الشعب والساعية لهدم الدولة أو عبادتها، على أنها صائبة أو شرعية. وحتى لو نُظر إليها بهذا المنظار، فلن تنجو في منتهى المآل من مناقضتها لحرية الشعب.
كيفما بالإمكان التفكير بالحداثةِ الرأسمالية ضمن إطارِ ثلاثةِ أبعادٍ هامة، فبالمقدور سريانِ الموقفِ نفسِه على العصرانية الديمقراطية أيضاً. فمقابلَ مجتمعِ الإنتاجِ الرأسمالي ومجتمعِ الصناعةِ ومجتمعِ الدولة القومية، التي يتم تَصَوُّرُها كمُتَقَطِّعاتٍ وماهياتٍ خاصةٍ أساسية بالنسبة للحداثة الرأسمالية؛ تَبرُزُ أبعادُ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي والمجتمعِ الأيكولوجي – الصناعيِّ والمجتمع الديمقراطيِّ الكونفدرالي للمقدمة في العصرانية الديمقراطية. هذا وبالمستطاع الإكثار من تفاصيلِ الأبعادِ بالنسبة لِكِلا النظامَين. إلا أنّ هذه الأبعادَ الثلاثيةَ قد تَفِي بالمعنى من حيث تعريفهما بالخطوط العريضة.
بالإمكانِ تحديد البُعدِ الثالثِ للطبيعةِ الاجتماعية إدارياً على شكلِ النظامِ الكونفدرالي الديمقراطي. حيث يُمكِن للبُعدِ الثلاثي أنْ يَكُونَ تعليمياً ناجعاً، رغمَ كلِّ مخاطره. المهمُّ هو تَداخُلُ الأبعاد. قد يَكُونُ ممكِناً إقامةُ شيءٍ ما مكانَ أحدِ الأبعاد مزاجياً، لكنّ ما يَظهَرُ للوسط آنذاك لن يَكُونَ نظامَ العصرانية الديمقراطية، بل شيءٌ آخَر. ثلاثيُّ الحداثةِ الرأسماليةِ أيضاً متداخِل، وأبعادُها تَشتَرِطُ بعضَها بعضاً.
الكونفدراليةُ الديمقراطيةُ ليست أيَّ شكلٍ إداريٍّ خاصٍّ بيومنا الراهن مثلما يُعتَقَد. بل هي نظامٌ يحتلُّ مكانَه في سياقِ التاريخِ بكلِّ ثِقَلِه. والتاريخُ بهذا المعنى كونفدراليٌّ، لا دولتيٌّ مركزيّ. لكنّ شكلَ الدولةِ معروفٌ كونَه بات رسمياً للغاية. في حين أنّ الحياةَ الاجتماعية أدنى إلى الكونفدرالية. وبينما تَهرَعُ الدولةُ دوماً نحوَ المركزيةِ المُفرِطة، فهي تَتَّخِذُ مصالحَ احتكاراتِ السلطةِ التي تَرتَكِزُ إليها أساساً. إذ لا يمكنها صَونَ هذه المصالح في حالِ العكس. أي، لا يمكن ضَمانَها إلا بمركزيةٍ مُشَدَّدةٍ للغاية. بينما العكسُ يَسري في الكونفدرالية. إذ عليها تَجَنُّب النزعةِ المركزيةِ قدرَ المستطاع، بِحُكمِ اتخاذِها المجتمعَ أساساً، وليس الاحتكار. ونظراً لأنّ المجتمعاتِ ليست نمطيةً (كتلةً واحدةً متجانسة)، بل تتألف من عددٍ جَمٍّ من المجموعات والمؤسساتِ والتبايُنات؛ فهي تَشعُرُ بضرورةِ تأمينِ وصَونِ تَكامُلِها جميعاً ضمن تآلُفٍ مُتَّسِقٍ مشتَرَك. بالتالي، فإدارةٌ مُفرِطةٌ في المركزية بالنسبة لهذه التعددية، قد تفسح الطريق مِراراً أمام الانفجارات. والتاريخُ مليءٌ بعددٍ لا محدودٍ من هذه الأمثلة. أما الكونفدرالية الديمقراطية، فتُعاشُ أكثر نظراً لِتَناسُبِها مع مقدرةِ كلِّ جماعةٍ ومؤسسة وتبايُنٍ مختلِفٍ على التعبير عن ذاتها. أما كونها نظاماً غيرَ معروفٍ كثيراً، فيَعودُ لبنيةِ المدنيةِ الرسمية وأيديولوجيتِها المهيمنة. أي أنّ المجتمعاتِ كونفدراليةٌ أساساً في التاريخ، وإنْ لَم يُعتَرَف بها رسمياً. وإداراتُ جميعِ العشائر والقبائل والأقوام تَسمَحُ دائماً بالكونفدارليةِ المتميزةِ بالعلاقاتِ الرخوة. حيث تُكدَمُ وتتضَرَّرُ استقلالياتُها الذاتيةُ في حال العكس. وهذا بدوره ما يُبَعثِرُ صفوفَها ويَنثُرُ كيانَها. بل حتى الإمبراطورياتُ تستند في بُناها الداخلية إلى عددٍ لا محدودٍ من الإداراتِ المختلفة. إذ قد تَتَّحِدُ شتى أنواع الإدارات القَبَلية والعشائرية والقومية والسلطات الدينية والمَلَكِيّات وحتى الجمهوريات والديمقراطيات تحت مِظَلّةِ إمبراطوريةٍ واحدة. بهذا المعنى، فمن المهم بمكان الإدراك أنه حتى الإمبراطورياتُ التي يُعتَقَدُ أنها الأكثر مركزيةً، إنما هي ضربٌ من ضروبِ الكونفدرالية. أما النزعةُ المركزية، فهي نموذجُ حُكمٍ يحتاجُه الاحتكار، لا المجتمع.
يؤلِّفُ النظامُ الكونفدراليُّ الديمقراطي في العصرانيةِ الديمقراطية نظيرَ الدولةِ القوميةِ التي تُعَدُّ الصياغةَ الرسميةَ للحداثةِ الرسمية. بالإمكان تسميةَ ذلك بشكلِ الإدارةِ السياسية التي ليست دولة. وهذه بالذات هي الميزة التي تَمنَحُ النظامَ خصوصيتَه وخاصيتَه. ينبغي قطعاً عدم الخلط بين الإدارات الديمقراطية وحُكمِ الدولة الإداري. فالدولُ تَحكُم، بينما الديمقراطياتُ تَقُود. الدولُ تعتمدُ على السلطة، بينما الديمقراطياتُ تعتمدُ على الرضا الجماعي. التعيينُ أساسٌ في الدول، في حين أنّ الانتخابَ أساسٌ في الديمقراطيات. كما أنّ الضرورةَ الاضطراريةَ أساسٌ في الدول، والطوعيةُ أساسٌ في الديمقراطيات. هذا وبالمقدور الإكثار من الفوارق المشابهة.