شبهُ الاستقلالِ الاقتصاديّ هو أدنى حدودِ الوفاقِ الذي سيُحَقَّقُ بين الدولةِ القوميةِ والأمةِ الديمقراطية...
عبد الله أوجلان
الدولةُ القوميةُ هي أداةُ السلطةِ بِيَدِ الحداثةِ الرأسماليةِ لبسطِ حاكميتِها على الاقتصادِ المرتكزِ إلى تحقيقِ الربحِ الأعظميّ. فمن دونِ هذه الأداة، يستحيلُ إنجازُ الربحِ الأعظميِّ ومُراكمةِ رأسِ المال. إنها تعَبِّرُ عن تأمينِ أقصى درجاتِ السلبِ الاقتصاديِّ في تاريخِ المدنيةِ مبنياً على ركيزةٍ شرعيةٍ إلى حدٍّ ما. من هنا، محالٌ صياغةُ تعريفٍ صائبٍ للدولةِ القومية، ما لَم تُحَلَّلْ بعينٍ سليمةٍ العلاقةُ الكائنةُ بين الربحِ الأعظميِّ وتكديسِ رأسِ المال. هذا ولن يُمكنَ تعريفُ الدولةِ القوميةِ أيضاً على أنها بِحَدِّ ذاتِها نظامُ عنفٍ وسلطة. إذ يستحيلُ تحقيقُ الحداثةِ الرأسماليةِ وما تُنجِزُه من ربحٍ أعظميٍّ ومُراكمةِ رأسِ مالٍ في الحقلِ الاقتصاديِّ على وجهِ الخصوص؛ إلا في حالِ فرزِ سلطةِ الدولةِ في هيئةِ دولةٍ قومية. وهذ ما يدلُّ على أنّ سيطرةَ الدولةِ القوميةِ على الحياةِ الاقتصاديةِ للمجتمعِ قد بلغَت مرتبةَ الدولةِ الأكثر نهباً لفائضِ القيمةِ على مدى سياقِ التاريخ، وأنه قد تحقَّقَ هذا النوعُ من الدولةِ فعلاً على أرضِ الواقع. أما صقلُها بالقومويةِ والروحِ الوطنية، وتأليهُها عبر التعليمِ والتربية، وتسريبُها إلى أدقِّ الأوعيةِ الشعريةِ للمجتمع؛ فهو بهدفِ شرعنةِ نظامِ النهبِ والسلبِ الذي سَلَّطَته على الاقتصاد. في حين تنجرُّ المصطلحاتُ والنظرياتُ والمؤسساتُ المُطَوَّرةُ في مجالاتِ الحقوقِ والاقتصادِ السياسيِّ والدبلوماسيةِ وجميعِ المجالاتِ الأخرى وراء تأمينِ الشرعيةِ عينِها لتصبَّ في نفسِ المرمى. وتسييرُ إرهابٍ تعسفيٍّ ومجحفٍ جنباً إلى جنبٍ مع تحقيقِ الربحِ الأعظميِّ في حقلِ الاقتصاد، إنما يُسَلِّطُ على المجتمعِ عَمالةً مأجورةً مقابل إشباعِ البطنِ من جهة، ويحوِّلُ الغالبيةَ الساحقةَ منه إلى جيشٍ من العاطلين عن العملِ من الجهةِ الثانية. أي إنّ عبوديةَ الأجرِ البخس، والجيشَ الضخمَ للعاطلين عن العمل، هما ثمرةٌ طبيعيةٌ للربحِ الأعظميِّ والدولةِ القوميةِ والصناعوية. وبتعبيرٍ آخر، فإنّ تحقيقَ هذه المرتكزاتِ الثلاثةِ الأوليةِ للحداثةِ الرأسماليةِ غيرُ ممكن، إلا بحرمانِ المجتمعِ من حريةِ التصرفِ بشأنِ الحياةِ الاقتصادية، والحكمِ عليه بالتخبطِ في العبوديةِ المأجورة، وتحويلِ سَوادِه الكاسحِ إلى جيشٍ من العاطلين عن العمل، والحكمِ على المرأةِ بالعبوديةِ المجانيةِ أو متدنيةِ الأجر. والعلومُ الاجتماعيةُ للرأسماليةِ عموماً، وعلمُ الاقتصادِ السياسيِّ على وجهِ التخصيص، هي ميثولوجياتٌ مُرَتَّبةٌ بغيةَ إخفاءِ هذه الحقائقِ وتحريفِها، وينبغي عدم الإيمانِ بها إطلاقاً، بل كشفُ النقابِ عن وجهِها الباطنيِّ لا محال.
ربما تُشَكِّلُ كردستان والمجتمعُ الكرديُّ أحدَ أَندَرِ الأمثلةِ في العالَم، والتي تَشهَدُ قيامَ الركائزِ الأوليةِ الثلاثِ للحداثةِ الرأسماليةِ بعمليةِ بناءِ نظامِها النهّابِ الذي يصلُ حدَّ تسليطِ الإبادةِ الثقافيةِ على الحياةِ الاقتصادية، وبتحويلِها النساءَ والرجالَ العاملين بأدنى الأجورِ إلى جيشٍ ضخمٍ من العاطلين عن العمل. لقد دارت مساعي الدولِ القوميةِ الحاكمة لإخراجِ كردستان من كونِها وطناً، وذلك عن طريقِ شنِّها حرباً خاصةً أحاديةَ الجانبِ بمنظورِ الإبادةِ الثقافيةِ المستورةِ والدائمة. وتاريخُ القرنَين الأخيرَين، هو في واقعِ الأمرِ تاريخُ إخراجِ كردستان من كونِها وطناً تأسيساً على ذلك، وتاريخُ صهرِها في بوتقةِ ظاهرةِ "الوطنِ الواحد" التي أَطلقَتها الدولُ القوميةُ المتحكمةُ بها. أما بالنسبةِ إلى المجتمعِ الكرديّ، فهو تاريخُ تَركِهِ مُعَرَّضاً لعملياتِ الصهرِ والمجازر، تجريدِه من فُرَصِ العمل، الحكمِ عليه بأقلِّ الأجور، تشتيتِه حصيلةَ انتزاعِ حريةِ التصرفِ بالحياةِ الاقتصاديةِ من يدِه، تصييرِه مادةً شيئانية، وإخراجِه من كيونتِه. لقد باتَ المجتمعُ الكرديُّ مجتمعاً يخشى تَبَنّي ذاتِه نتيجةً للإبادةِ الثقافيةِ التي عانى منها مع إضافةِ عناصرِ الحداثةِ الرأسماليةِ الثلاثةِ الأساسية (نهب الربح الأعظميّ، ظلم الدولة القومية، والدمار الذي تَسَبَّبَت به الصناعوية عن طريق التكنولوجيا) إلى ممارساتِ وأحداثِ الغزوِ والاحتلالِ والاستيلاءِ والنهبِ والسلبِ والاستعمارِ والصهرِ التي مرَّ بها على مرِّ تاريخِ المدنية. إنه مجتمعٌ فقدَ سيطرتَه واختيارَه الحرَّ بشأنِ اقتصادِه (أول اقتصادٍ مُؤَسَّسٍ غَذّى البشريةَ في التاريخ)، وخضعَ لحاكميةِ وحشٍ عصريٍّ ذي ركائز ثلاثيةٍ لعناصر متواطئةٍ وغريبةٍ عنه بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. بل حتى إنّ قيامَه بالعملِ مقابلَ إشباعِ البطن (كالسمكةِ العالقةِ بشبكةِ الصيد)، مؤشرٌ على كونِه مجتمعاً تابعاً لمآربِ الإبادةِ والتطهيرِ العرقيّ. إنه مجتمعٌ جُعِلَت فيه النساءُ البانياتُ لصرحِ الاقتصادِ عاطلاتٍ عن العملِ كلياً، وصُيِّرن صاحباتِ أبخسِ أنواعِ الكدح. وهو مجتمعٌ تناثَرَ رجالُه في الجهاتِ الأربعِ من المعمورة، بغرضِ إعاشةِ العائلةِ حسبَ ما يُزعَم. وهو مجتمعٌ يقتلُ فيه الناسُ بعضَهم بعضاً من أجلِ دجاجةٍ أو شبرٍ من الأرض. وعليه، ساطعٌ سطوعَ الشمسِ أنّ هذا المجتمعَ أضحى مجتمعاً مُجَرَّداً من كينونتِه كمجتمع، ومُقَوَّضاً ومُفَكَّكاً ومنهاراً.
الاحتلالُ الاقتصاديُّ أخطرُ أنواعِ الاحتلال، وأشدُّ الأساليبِ بربريةً في الإيقاعِ بمجتمعٍ ما وتقويضِه وتفتيتِه. فما هو مُسَلَّطٌ على المجتمعِ الكرديِّ يتعدى نطاقَ قمعِ الدولةِ القوميةِ وظُلمِها، حيث كُتِمَت أنفاسُه، وأُخضِعَت حياتُه الاقتصاديةُ للرقابةِ المشددة، وتمَّ الاستيلاءُ على أدواتِه الاقتصادية. يستحيلُ على مجتمعٍ ما أنْ يواظبَ على حياتِه بحرية، بعدَ افتقادِه لزمامِ التحكمِ بأدواتِه الإنتاجيةِ والسوق. والكردُ لَم يُفلِتوا من أيديهم نسبةً كبيرةً من زمامِ الحاكميةِ على أدواتِ وعلاقاتِ الإنتاجِ فحسب، بل وانتُزِعَ منهم أيضاً الإشرافُ على الإنتاجِ والاستهلاكِ والتحكمُ بالتجارة. أو بالأحرى، بات صونُهم لأملاكِهم وانتفاعُهم منها، وأداؤُهم دورَهم في التجارةِ والصناعةِ أمراً وارداً، بمقدارِ ما يَتبَعُون للدولِ القوميةِ الحاكمةِ بناءً على إنكارِ هويتِهم. وهكذا صُيِّرَ الأَسْرُ الاقتصاديُّ أفتكَ وسيلةٍ لإنكارِ الهويةِ والحرمانِ من الحرية. ونخصُّ بالذِّكرِ الأنشطةُ الإداريةُ أحاديةُ الجانبِ والمتأسسةُ على المياهِ المتدفقةِ ومكامنِ النفط، والتي قضت على أشكالِ وجودِهم الثقافيِّ التاريخيّ، بقدرِ قضائِها على أراضيهم المعطاء. وهكذا، فالاستعمارُ الاقتصاديُّ المزدادُ تركيزاً وَحِدّةً بعد الاستعمارَين السياسيِّ والثقافيّ، قد أضحى آخِرَ الضرباتِ القاتلة. وفي المحصلة، فالنقطةُ التي وُصِلَ إليها أمسَت كالتالي: "اخرُجْ من كونِك مجتمعاً، أو مُتْ!".
"العملُ حرية".
لا يقتصرُ النظامُ الاقتصاديُّ للأمةِ الديمقراطيةِ على وقفِ هذه الممارساتِ البربريةِ الوحشيةِ فحسب، بل ويعملُ أساساً على إعادةِ بسطِ المجتمعِ لسيطرتِه على الاقتصادِ مجدَّداً. وشبهُ الاستقلالِ الاقتصاديّ هو أدنى حدودِ الوفاقِ الذي سيُحَقَّقُ بين الدولةِ القوميةِ والأمةِ الديمقراطية. وأيُّ وفاقٍ أو حلٍّ أخفضُ مستوىً منه، يُعَدُّ استسلاماً يفيدُ بالعبارةِ الآمِرة "انتَهِ!". أما الانتقالُ بشبهِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ إلى منزلةِ الاستقلال، فيعني بناءَ دولةٍ قوميةٍ مضادة. وهذا ما مفادُه في نهايةِ المآلِ الاستسلامُ للحداثةِ الرأسمالية. أما التراجعُ عن شبهِ الاستقلالِ الاقتصاديّ، فيعني الاستسلامَ للدولةِ القوميةِ الحاكمة. في حين إنّ مضمونَ شبهِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ لا يتَّخِذُ من الرأسماليةِ الخاصة، ولا من رأسماليةِ الدولةِ أساساً له. بل يعملُ أساساً بموجبِ الصناعةِ الأيكولوجيةِ واقتصادِ المشاعةِ باعتبارِهما انعكاساً للديمقراطيةِ على حقلِ الاقتصاد. أما الحدودُ المرسومةُ أمام الصناعةِ والتنميةِ والتكنولوجيا والتشغيلِ والمُلكِيّة، فهي حدودُ كينونةِ المجتمعِ الأيكولوجيِّ والديمقراطيّ. بمعنى آخر، لا مكان في شبهِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ للصناعةِ والتكنولوجيا والتنميةِ والمُلكِيّةِ والاستقرارِ الريفيِّ – المدينيِّ الذي يدحضُ أو يرفضُ الأيكولوجيا والمجتمعَ الديمقراطيّ. هذا ومحالٌ تركُ الاقتصادِ ساحةً يتحققُ عبرها الربحُ ومُراكَمةُ رأسِ المال. وعليه، فشبهُ الاستقلالِ الاقتصاديّ نموذجٌ يُختَزَلُ فيه الربحُ ومُراكمةُ رأسِ المالِ إلى الحدودِ الدنيا. وإلى جانبِ عدمِ رفضِه السوقَ والتجارةَ وتنوعَ الإنتاجِ والرقابةَ والعطاء، إلا إنه لا يَقبلُ إطلاقاً بنفوذِ الربحِ وتكديسِ رأسِ المالِ عليها. ويرضى بسَرَيانِ النظامِ الماليِّ تناسُباً مع مدى خدمتِه للعطاءِ الاقتصاديِّ ونظامِه الإجرائيّ. كما وينظرُ إلى كسبِ المالِ من المالِ على أنه أَيسَرُ نماذجِ الاستغلال. ومن غيرِ الممكنِ أنْ يجِدَ مثلُ هذا النوعِ من الاستغلالِ مكاناً له ضمن نظامِ شبهِ الاستقلالِ الاقتصاديّ. زِدْ على ذلك أنّ شبهَ الاستقلالِ الاقتصاديّ للأمةِ الديمقراطيةِ لا يَعتَبِرُ العملَ تَعَباً مُرهِقاً أو أشغالاً شاقة، بل ممارسةً للتحرر. بمعنى آخر، فمبدؤُه المحوريُّ هو: "العملُ حرية". أما اعتبارُ العملِ تعباً وشغلاً شاقاً، فينبعُ من الاغترابِ عن ثمارِ الكدح. بالمقابل، فعندما تدخلُ ثمارُ الكدحِ في خدمةِ الهويةِ الذاتيةِ وحريةِ الفرد، يغدو حينها ممارسةً ينبغي إثباتُ جدارتِها، ومن صميمِ القلب.
ساحتَي التربةِ والغابةِ هما أقدسُ ساحاتِ العملِ في الأمةِ الديمقراطية،
لقد بُورِكَت وقُدِّسَت الفعالياتُ الاقتصاديةُ الخاليةُ من الاستغلالِ ضمن أجواءٍ من بهجةِ العيدِ ضمن كافةِ المجتمعات، وعلى رأسِها المجتمعُ النيوليتيّ. وشبهُ الاستقلالِ الاقتصاديُّ للأمةِ الديمقراطية، هو نظامٌ تزدهرُ فيه ثانيةً هذه البهجة. فالسدودُ المُقامةُ على المياهِ المتدفقةِ في كردستان، قد أسفرَت عن مجازر تاريخيةٍ وكوارث أيكولوجيةٍ بكلِّ معنى الكلمة. ومنه، يستحيلُ له السماحُ بإقامةِ أيِّ سدٍّ لا يَأبَهُ بالأيكولوجيا أو الأراضي المُثمِرة أو التاريخ. ومحالٌ فيه إنشاءُ السدودِ الجديدةِ منها محلَّ تلك التي ينقضي عمرُها. بل ولا ملاذ من وقفِ وإزالةِ بعضِها إنْ أَمكَن. إنه يقفُ بروحٍ من النفيرِ العامِّ والتامِّ في وجهِ تصحيرِ الأراضي وتَعريَتِها، والذي يُعَدُّ العدوَّ اللدودَ للمجتمعِ والأحياء. كما إنه يعلنُ عن حمايةِ التربةِ وتشجيرِ البيئةِ على أنهما أقدسُ أشكالِ الكدح. حيث إنّ الأنشطةَ في هاتَين الساحتَين لوحدِهما، تكفي للقضاءِ على البطالةِ مدى مئاتٍ كاملةٍ من السنين. وكيفما أنّ الساحةَ التي تَدُرُّ الربحَ الأكثرَ هي أقدسُ ساحةِ عملٍ بالنسبةِ إلى مُراكمةِ الربحِ ورأسِ المالِ ضمن الدولةِ القومية، فإنّ ساحتَي التربةِ والغابةِ هما أقدسُ ساحاتِ العملِ في الأمةِ الديمقراطية، كونهما أمَّنَتا حياةَ المجتمعِ على مدارِ التاريخ. إذ بمقدورِ الحياةِ الاجتماعيةِ الاستمرارُ بوجودِها من دونِ الرأسماليةِ والصناعوية. في حين، يستحيلُ الاستمرارُ بها من دونِ الأرضِ والغابة. وبالأصل، فما يتخفى في جذورِ البطالةِ الغائرة، هو الاجتثاثُ من الأرضِ والقريةِ والغابةِ على يدِ الرأسمالية. أما ظاهرةُ اليدِ العاملةِ الرخيصةِ ومستودعِ البطالة، فهي ظاهرةٌ ابتَكرَتها الرأسماليةُ بالعنفِ المقصودِ كضرورةٍ دائمةٍ لتأمينِ ربحِها الأقصى. لذا، فالعودةُ ثانيةً إلى الأرضِ والتشجير، وباقتضابٍ إلى الحياةِ الأيكولوجيةِ لا يقضي على البطالةِ وحسب، بل وينقذُنا أيضاً من مجتمعِ المدينةِ السرطانية. بالتالي، فهو بذلك ينقذُ المدينةَ أيضاً. حيث إنّ المدينةَ المتضخمةَ كالوَرَم، هي مَرَضٌ سرطانيّ. وبالأساس، فالسرطانُ الفرديُّ أيضاً هو ثمرةُ حياةِ المدينةِ السرطانيةِ تلك، مثلما هي حالُ العديدِ من الأمراضِ الأخرى. وعلى ضوءِ ذلك، فالعودةُ إلى التربةِ ونشاطِ التشجيرِ والزراعةِ الأيكولوجيةِ وتأمينِ الموادِّ الغذائية، لا تُعتَبَرُ الحلَّ الرئيسيَّ للبطالةِ فقط، بل وهي الترياقُ الشافي لكلِّ أمراضِ الحداثةِ والمدينة.
ينبغي عدم خلطِ اقتصادِ المشاعةِ في شبهِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ مع رأسماليةِ الدولةِ واقتصادِها. كما إنه لا يشبهُ جهودَ التأميمِ في الاشتراكيةِ المشيدةِ أيضاً. إننا نتحدثُ عن الوحداتِ الاقتصاديةِ الأنسب لطبيعةِ الإنسانِ والبيئة. إذ لا مكان في الكومونةِ للأعمالِ الشاقةِ ولا للكدحِ أو العملِ الذي لا يثمِرُ الحرية. نحن نتكلمُ هنا عن نموذجِ ومصدرِ الحياةِ الجوهريةِ والذاتيةِ التي اتَّخذَها المجتمعُ أساساً على مدارِ التاريخ، وأوجدَ نفسَه عن طريقِها، وقدَّسَها، واستقبلَها بحفاوةٍ وغبطة. حيث يتواجدُ اقتصادُ المشاعةِ في كلِّ مكانٍ يتواجدُ فيه العطاءُ والبركةُ والحماسُ والبهجة.
وباعتبارِ KCK العمودَ الفقريَّ للأمةِ الديمقراطية، فإنه يَعتَبِرُ شبهَ الاستقلالِ الاقتصاديَّ واقتصادَ المشاعةِ ضرورةً لازمةً بقدرِ الدفاعِ الذاتيِّ للمجتمعِ بأقلِّ تقدير، ويتخذُهما أساساً له. فمثلما لا يستطيعُ المجتمعُ تأمينَ سيرورةَ وجودِه من دونِ دفاعٍ ذاتيّ، فمن دونِ شبهِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ أيضاً، ومن دونِ الاعتمادِ على صونِ الأرضِ وتشجيرِ التربةِ وعلى الأيكولوجيا والكومونة؛ فإنه محالٌ على المجتمعِ توفيرُ مأكلِه، وبالتالي تأمينُ سيرورةِ وجودِه.
هذا وثمة داعٍ لأرضيةٍ قانونيةٍ من أجل شبهِ الاستقلالِ الاقتصاديّ. فالرتابةُ والنزعةُ المركزيةُ الموجودتان في قوانينِ الدولةِ القوميةِ الحاكمةِ تحت اسمِ وحدةِ القانون، إنما تُعَدُّ قيوداً تكبحُ جماحَ الإبداعِ الاقتصاديّ، وتُكَبِّلُ الأيكولوجيا والمنافسة. لذا، وعوضاً عن مفهومِ القانونِ هذا الذي يستندُ ضمناً إلى الاستعمارِ الاقتصاديّ، ثمة حاجةٌ ماسةٌ إلى الاقتصادِ المحليِّ وآلياتِه شبهِ المستقلة، بحيث يأخذُ الاقتصادَ الوطنيَّ وترتيباتِه التنسيقيةَ على محملِ الجد. أي أنّ ما يلزمُ هنا قانونُ اقتصادٍ لا ينكرُ ظاهرةَ السوقِ الوطنية، ولكنه يضعُ ديناميكياتِ السوقِ المحليةِ أيضاً نُصبَ العين. في حين إنّ نظامَ قانونِ المركزِ الواحدِ هو أشدُّ عواملِ التزمتِ العصبيّ، ويعتمدُ على ذرائع سياسيةٍ بحتة، ويخلو تماماً من المنطقِ الاقتصاديِّ.
هذا ومن الضرورةِ بمكان وجودُ صياغةٍ قانونيةٍ لشبهِ الاستقلالِ الاقتصاديِّ ضمن البُعدِ الاقتصاديِّ لحلِّ الأمةِ الديمقراطيةِ المندرجِ في القضيةِ الوطنيةِ الكردية. إذ من الواضحِ جلياً استحالةُ تأمينِ سيرورِ KCK من دونِ بنيةٍ اقتصاديةٍ تحتية. ونسبةُ سريانِ القانونِ المحليِّ ضمن المجالاتِ الاقتصاديةِ المعنيةِ عن قُربٍ بوجودِ المجتمعِ الكرديِّ وحريتِه، إنما تتسمُ بأهميةٍ مصيرية. ذلك إنّ القوانينَ الاقتصاديةَ المحليةَ أساسيةٌ في شؤونِ: ترتيبِ المُلكِيّة، ضخامةِ الشركات، المياه الجارية، الاستفادةِ من المكامنِ المعدنيةِ السطحيةِ والباطنية، تأسيسِ الأسواق، نظامِ البنوك، بنيةِ الميزانيةِ للإداراتِ الديمقراطيةِ المحلية، وللضرائبِ وغيرِها من الأمور. هذا وبالوسعِ تحقيقُ التناغمِ والتواؤمِ بين قوانينِ الاقتصادَين الوطنيِّ والمحليّ.
تتحلى الإدارةُ الاقتصاديةُ في KCK ببالغِ الأهمية. حيث لا قابليةِ للحياةِ في مجتمعٍ دعامتُه الاقتصاديةُ مفلسة. أما الاستقلالُ الاقتصاديُّ التامّ، فهو يوتوبيا اقتصاديةٌ يستحيلُ تحقيقُها في أيِّ وقتٍ من الأوقات. إننا في عصرٍ يَقبَلُ بالاقتصادِ الذي يرتكزُ إلى المنفعةِ المتبادلة، ويتسمُ بحيزٍ فسيحٍ من شبهِ الاستقلالِ الداخليّ. لقد اتضحَ بجلاءٍ مدى كونِ الحداثةِ الرأسماليةِ نظاماً لا طائل منه، ولا يُطاقُ الاستمرارُ به في عصرِ رأسِ المالِ الماليِّ العالميّ، نظراً لأنه يهددُ البشرية. ومقابل ذلك، يتعينُ فهمُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ المستندةِ إلى الوحداتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ على أنها النظامُ البديلُ الطامحُ في الخلاصِ من الأزماتِ الاقتصاديةِ والبطالةِ والجوع.