ثقافة الأمة الديمقراطية

تسعى الأمةُ الديمقراطيةُ إلى تكوينِ نفسِها، بإعادةِ المعنى الحقيقيِّ إلى التاريخِ والثقافة...

عبد الله أوجلان

البُعدُ الثقافيُّ عاملٌ هامٌّ في نشوءِ الأمم. وبالمعنى الضيق، تُعَبِّرُ الثقافةُ عن الذهنيةِ التقليديةِ والحقيقةِ العاطفيةِ للمجتمعات. ويُشَكِّلُ الدينُ والفلسفةُ والميثولوجيا والعلمُ ومختلفُ الحقولِ الفنيةِ ثقافةَ مجتمعٍ ما بالمعنى الضيق، ويَعكسُ حالتَه الروحيةَ والعقلية. بينما يتعرضُ العالَمُ الثقافيُّ لتحريفٍ وتحطيمٍ كبيرَين، أثناء تشييدِ الدولةِ القوميةِ أو تكوينِ الأممِ بِيَدِ الدولة. فالحداثةُ الرأسماليةُ لا تَقبلُ بالتقاليدِ بكلِّ ما تملكُ من حقائق كما هي عليه. بل تنتهلُها منها، بعدَما تصطفي ما ينفعُها منها، وتُطرئُ التحولَ  عليها بناءً على مصالحِها هي. وهكذا، فما تَمهرُه بمُهرِ التاريخِ الثقافيِّ عارضةً إياه على المجتمعِ والفرد، إنما هو شيءٌ مختلفٌ كلَّ الاختلاف. إنه اللاتاريخُ باسمِ التاريخ، واللاثقافةُ باسمِ الثقافة. وبعبارةٍ أخرى، إنها تنتقي من بين تاريخِ وثقافةِ البشريةِ بالكاملِ ما يلائمُ المنظورَ المنفعيَّ والغرائزَ المصلحيةَ للرأسمالية، لتسردَه أمامنا وكأنها ترسمُ لوحةً جديدةً تماماً. وبهذا المعنى، فالحداثةُ الرأسماليةُ والدولةُ القوميةُ التي تُعَدُّ المُكَوِّنَ الأهمَّ لديها، تُشَكِّلان حركةً مُريعةً في تعتيمِ وتشويهِ التقاليدِ والثقافة. إنهما ضربةٌ قاضيةٌ تلحقُ بالتاريخِ والثقافةِ على صعيدِ الحقيقة. حيث لا يُمكنُها البتة شرعنةُ قاعدةِ الربحِ الأعظميِّ وتكديسِ رأسِ المالِ المتحققةِ بمنوالٍ آخر. أي إنّ الحداثةَ والدولةَ القوميةَ عاجزتان عن تحقيقِ كينونتِهما، من دونِ إعادةِ إنشاءِ التاريخِ والثقافةِ حسبما تشاءان. بمعنى آخر، فحقيقةُ الحداثةِ والدولةِ القوميةِ البارزةُ إلى الوسط، هي واقعٌ مغاير، بل وحقيقةٌ مختلفةٌ كلَّ الاختلافِ عن التاريخِ والثقافة.

تسعى الأمةُ الديمقراطيةُ إلى تكوينِ نفسِها، بإعادةِ المعنى الحقيقيِّ إلى التاريخِ والثقافة. أي، وكأنّ التاريخَ والثقافةَ المُعَرَّضَين للتشويهِ والإبادةِ يشهدان النهضةَ في خضمِّ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيّ. وبالأساس، فالنهضةُ المُعاشةُ في أوروبا أثناء طويِ صفحةِ العصورِ الوسطى، كانت تعني عودةَ انتعاشِ أو انبعاثِ التاريخِ والثقافةِ الإغريقيَّين والرومانيَّين. ثم حذَت كافةُ البلدانِ والأقوامِ الأوروبيةِ حذوَ المثالِ الإيطاليّ، وانطلقَت لإنجازِ نهضتِها، مسجِّلةً النجاحَ في تحولِها الوطنيِّ الديمقراطيّ. لقد كان مفادُ ذلك عودةُ التقاءِ كلِّ شعبٍ بتاريخِه وثقافتِه الذاتيَّين من خلالِ تجاوزِ النزعةِ الكاثوليكية العالمية، وعودةُ إنشاءِ نفسِه أمةً ديمقراطية. أي إنّ العناصرَ النابعةَ من التاريخِ والثقافةِ هي التي كانت سائدةً بدايةَ التحولِ الوطنيِّ في أوروبا. وتلك العناصرُ كانت أساساً تُشَكِّلُ تاريخَ الشعوبِ والأقوامِ وثقافاتِها. وعليه، كانت الميولُ الديمقراطيةُ هي الطاغيةُ ضمن الأممِ الناشئة. لكنّ تصاعدَ الميولِ الطبقيةِ لدى البورجوازيةِ فيما بعد، وبسطَها هيمنتَها في الثورةِ الفرنسيةِ خصيصاً؛ قد حوَّلَ طابعَ الأمةِ الديمقراطيةِ إلى أمةِ دولةٍ ممهورةٍ بخاتمِ السلطةِ والدولة. وفي واقعِ الأمر، فما حصلَ في جميعِ الثوراتِ الأوروبيةِ تتصدرُها الثورةُ الفرنسيةُ الكبرى – بما في ذلك الثورةُ الروسيةُ أيضاً، ولو أتت متأخراً – كان نشوبَ الثورةِ المضادةِ على يدِ الدولةِ القوميةِ في وجهِ الأمةِ الديمقراطيةِ وثورةِ الأمةِ الديمقراطية. أي إنّ الدولةَ القوميةَ كانت أكبرَ حركةِ ثورةٍ مضادةٍ مُنجَزةٍ ضد الثوراتِ الديمقراطيةِ الكبرى التي أطلقَها الكادحون والشعوبُ الأوروبية. وبتعبيرٍ آخر، فكلُّ دولةٍ قوميةٍ أو كلُّ نزعةٍ قوميةٍ مُحَقَّقةٍ بِيَدِ الدولةِ في عمومِ أوروبا ثم في كافةِ أرجاءِ المعمورة، هي حركاتُ ثورةٍ مضادةٍ كبرى شنَّتها الرأسماليةُ والبورجوازيةُ ضد الاشتراكيةِ والبروليتاريا وثوراتِ الأمةِ الديمقراطيةِ التي أطلقوها، وضد تعاونِ وتعاضدِ الأممِ والشعوبِ الثوريةِ وأممياتِها.

باقتضاب، كلُّ دولةٍ قوميةٍ هي ثورةٌ مضادة. إنها ديكتاتوريةُ وفاشيةُ الرأسماليةِ والبورجوازيةِ وشركائِهما. فبالرغمِ من تَقمُّصِ النظامِ الرأسماليِّ والطبقةِ البورجوازيةِ المؤسِّسةِ إياه وتموُّهِهما بالقناعِ الثوريِّ ضد النظامِ الإقطاعيِّ الأقلَّ عطاء، وضد ممثليه من إماراتٍ وممالك إقطاعية؛ إلا إنّ الشعوبَ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ الشعبيةَ الثوريةَ هي مَن حاربَه في واقعِ الأمر. وعليه، فالنصرُ كان من حقِّها هي. لكنّ البورجوازيةَ تسللَت بين صفوفِ جميعِ الثوراتِ الشعبيةِ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ تلك. حيث استخدمَت قوتَها الاقتصادية، وصَعَّدَت ثورتَها المضادةَ من جهاتٍ عدةٍ متمثلةً في القومويةِ والدولةِ القومويةِ والأمةِ الدولتيةِ في وجهِ ثوراتِ الأمةِ الديمقراطية؛ تاركةً بذلك بصماتِها على العصرِ الذي بات منضوياً تحت هيمنتِها. وهكذا، رصفَت الأرضيةَ لصعودِ هيمنةِ المدنيةِ الجديدة، أي الحداثةِ الجديدةِ للعصرِ الرأسماليِّ على صعيدِ العالم.

أفدحُ خطأٍ ارتكبَه مؤسِّسا الاشتراكيةِ العلميةِ كارل ماركس وفريدريك أنجلز، هو دعمُهما –بدلاً من مناهضتِهما– للثوراتِ المضادةِ التي شنتها الدولةُ القوميةُ التي تكللت بالنصرِ الظافرِ في ألمانيا وإيطاليا كآخِرِ حلقةٍ لها في أواسطِ القرنِ التاسعِ عشر. وهكذا، أمسى هذا الخطأُ ثاني أكبرِ ضربةٍ قاضيةٍ لحقَت بثوراتِ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ التي أطلقَتها الشعوبُ حتى يومِنا الراهن، بعدَما سلَّطَت البورجوازيةُ الضربةُ الأولى ضدها. وقد عانت جميعُ الشرائحِ الكادحةِ والشعوبِ والأممِ من الآلامِ الأليمةِ والخسائرِ الجسيمةِ حصيلةَ ذلك.

لقد كانت ثوراتُ الأمةِ الديمقراطيةِ المتناميةُ في بلادِ الأناضولِ وميزوبوتاميا فيما بين عامَي 1919 – 1922 ثمرةً من ثمارِ الشعوبِ بالفعل. وتحالفُ الشعوبِ هو الذي كَلَّلَ تلك الثوراتِ بالنصرِ المؤزر. وكافةُ التصريحاتِ التي أدلى بها حينذاك قائدُ هذه الثوراتِ مصطفى كمال، إنما تُشيدُ بهذه الحقيقة. لقد كان الشعبان التركيُّ والكرديُّ يُشَكِّلان العنصرَين الأصليَّين المُكَوِّنَين للثورةِ الوطنية. وعلى الصعيدَين الأيديولوجيِّ والسياسيِّ أيضاً، كانت التياراتُ التركيةُ والكرديةُ واليهوديةُ (حركة الدونمة) والشركسيةُ الوطنيةُ من جهة، والتيارات القوميةُ الإسلاميةُ والشيوعيةُ من الجهةِ الأخرى ضمن تحالفٍ فيما بينها. بالتالي، فالنصرُ المُحرَزُ بهذا التحالف، كان عبارة عن ثورةٍ وطنيةٍ ديمقراطيةٍ ضد الإمبرياليةِ وأزلامِها المتواطئين معها.

حسناً، وما الذي فعلَته الزمرةُ التي بمقدورِنا تسميتُها بالبورجوازية؟ أي، مِمّن كانت تتشكلُ البورجوازيةُ الماسونيةُ المسماةُ بـ"تركيا الفتاة" (التي لا علاقة لغالبيتِها الساحقةِ بالتركياتية)، والتي لمَّت شملَها تحت مسمّى "جمعية الاتحاد والترقي"، وبأيةِ مؤامراتٍ طَبَعَت السلطةَ والثورةَ الوطنيةَ ببصماتِها؟

إذ إنّ جميعَ المعنيين بالعلمِ والمتنورين المُنصِفين وذوي الضميرِ الحيّ، يعلمون جيداً أنّ جمعيةَ الاتحاد والترقي تنظيمٌ تآمريٌّ وانقلابيّ. وكلُّ المعنيين بالأمرِ يعرفون بوجهٍ حسنٍ أنها تركَت بصماتِها على ثورةِ المشروطيةِ الثانيةِ أولاً بعد استحواذِها على السلطة، ثم على كافةِ أجهزةِ السلطةِ مع اندلاعِ الحربِ العالميةِ الأولى. من هنا، ينبغي المعرفة على أكملِ وجهٍ كيف تسللوا إلى صفوفِ الثورةِ الوطنيةِ الناشبةِ فيما بين 1919 – 1922، وإدراك حقيقةِ المؤامراتِ والاغتيالاتِ والانقلاباتِ التي دبّرَها ونفَّذَها المتعاونون مع الهيمنةِ الإنكليزيةِ بصورةٍ خاصة. فهؤلاء هم مَن حاكَ المؤامرةَ لخنقِ رئيسِ "الحزب الشيوعيّ التركيّ TKP" مصطفى صبحي مع كافةِ أعضاءِ اللجنةِ المركزيةِ المؤلفةِ من خمسةَ عشر شخصاً في مياهِ البحرِ الأسود. بَيْدَ أنّ البلاشفةَ الذين كانوا يمثلونهم، كانوا أصحابَ دورٍ استراتيجيٍّ في إنجاحِ الثورةِ الوطنية. فضلاً عن أنّ أدهم الشركسي وقواتِه التي أَكرَهوها غدراً وتآمراً على الالتجاءِ إلى الجيشِ اليونانيّ، كانت نفسُها القواتِ التي دَرأَت وسَحقَت العديدَ من تمرداتِ الثوراتِ المضادةِ المزروعةِ على دربِ الثورةِ الوطنية. كما إنّ السَّوادَ الأعظمَ ممّن قتلوهم بذريعةِ أنهم رجعيون ومتشددون، كانوا من المسلمين القوميين الذين أدوا دوراً استراتيجياً في التحررِ الوطنيّ. زِدْ على ذلك أنّ محمد عاكف وسعيد النورسيّ اللذَين أُرسِلا إلى المنفى بعدَ إحرازِ النصر، كانا في خدمةِ الثورةِ الوطنيةِ إلى أنْ تكلَّلَت بالنصر. أما الكردُ العَلَوِيون والسُّنّةُ الذين لَبّوا نداءَ مصطفى كمال للتحالفِ الاستراتيجيّ، بدءاً من كوجكري إلى ديرسم، ومن السليمانيةِ إلى ديار بكر، وبالرغمِ من الدورِ الاستراتيجيِّ الذي لعبوه في تتويجِ الثورةِ الوطنيةِ بالنصر؛ إلا أنّ القوى التآمريةَ تلك هي نفسُها مَن أنكَرَهم وأبادَهم عن بكرةِ أبيهم بلا هوادةٍ أو رحمة، سواء أثناء الثورةِ أو بعدَها. علاوةً على أنّ هؤلاء أيضاً هم مَن شلَّ تأثيرَ مصطفى كمال وزَجَّ به في أزمةٍ خانقةٍ غائرة، بتدبيرِ محاولةِ اغتيالِه في إزمير أولاً، ثم بإحاطتِه بهالةٍ من الألوهيةِ الميثولوجية.

ومَن هم هؤلاء؟ إننا نسمّي غالبيتَهم بالأتراكِ البِيض الذين ليسوا بأتراك، وببقايا "جمعية الاتحاد والترقي". ليس مهماً اسمُهم، بل مضمونُهم هو المهمّ. واضحٌ وضوح الشمسِ أنّ هؤلاء هم أصحابُ الثورةِ المضادةِ المُنادون بنزعةِ الدولتيةِ القومية، والذين تَبَرجَزوا بوساطةِ سلطةِ الدولةِ التي استولوا عليها، وأَلحقوا من خلالِ مؤامراتِهم وانقلاباتِهم واغتيالاتِهم التي حبكوها ضرباتٍ كبيرةً بالحركاتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ المتصاعدةِ خلال سياقاتِ الحُكمِ الدستوريِّ وتشييدِ الجمهوريةِ على السواء، فانتزعوا زمامَ المبادرةِ فيها وتحكّموا بها. وهم أنفسُهم الذين لَم يترددْ حتى هتلر بالإقرارِ بأنه اقتفى أثرَهم وحذا حذوَهم. من هنا، ولَئِنْ كنا نودُّ فعلاً استيعابَ التاريخِ المعاصرِ لبلادِ الأناضول وميزوبوتاميا، أي لتركيا وكردستان؛ وإذا كنا نريدُ فهمَ ثورتِهم الوطنيةِ المتحققةِ بفضلِ التحالف، وإدراكَ كَنَهِ مجتمعِهم الوطنيِّ الديمقراطيِّ بعينٍ واقعية؛ فعلينا معرفةُ حقيقةِ الثورةِ المضادةِ التي شنّتها الدولتيةُ القومية، وماهيةِ أصحابِ هذه الثورةِ المضادةِ على أتمِّ وجه. وإلا، فلن نتمكنَ بأيِّ شكلٍ آخر من استيعابِ التاريخِ الحديثِ وتاريخِ الجمهوريةِ بمنوالٍ صحيح. ونخصُّ بالذّكرِ أننا حينها لن نستطيعَ التحصنَ بالمعرفةِ الكافيةِ والصائبةِ لتواريخِ وثقافاتِ شعوبِ الأناضولِ وميزوبوتاميا العريقةِ عراقةَ تاريخِ البشرية، والتي تتعرضُ للإنكارِ والإبادة. وفي حالِ عجزِنا عن معرفةِ ذلك وهضمِه وتَبَنّيه، فلن يَكُونَ بوسعِنا إحرازُ النجاحِ في إنشاءِ وتطويرِ تحالفاتِ وحركاتِ الأمةِ الديمقراطيةِ لشعوبِنا التي تتشاطرُ نفسَ الثرى.

يتعلقُ حلُّ الأمةِ الديمقراطيةِ في القضيةِ الكرديةِ أولاً بالتعريفِ الصحيحِ للتاريخِ الكرديِّ والثقافةِ الكردية. وهذا ما سيجلبُ معه التعريفَ الصحيحَ للوجودِ الاجتماعيِّ الكرديِّ أيضاً. ذلك أنّ التحولَ إلى مجتمعٍ وطنيٍّ مفادُه امتلاكَ الوعيِ والروحِ اللازمَين بصددِ التاريخِ والثقافة. وإنكارُ وإبادةُ الكردِ في تاريخِ الجمهورية (ثمة ممارساتٌ مماثلةٌ في تواريخُ الدولِ القوميةِ الأخرى أيضاً)، قد بدأَ أولاً بإنكارِ التاريخِ الكرديِّ وإبادةِ وجودِه الثقافيّ. حيث قُضِيَ بادئَ ذي بدءٍ على المقوِّماتِ الثقافيةِ المعنوية، ثم على مقوماتِ الثقافةِ المادية. ولهذا السببِ بالضبط، كان شروعُ PKK بإنشاءِ نفسِه بالتحصنِ بالوعيِ التاريخيِّ والثقافيِّ بدايةً في محلِّها. فسعيُه إلى إيضاحِ وشرحِ التاريخِ والثقافةِ الكرديَّين بمقارنتِهما مع تاريخِ وثقافةِ شعوبِ العالمِ قاطبة، وإفصاحُه عن ذلك متجسداً في المانيفستو المعنونِ باسمِ "طريق الثورة الكردستانية"؛ قد لعبَ دورَ النهضةِ الثوريةِ لبعثِ الحياةِ ثانيةٍ في التاريخِ الكرديِّ والثقافةِ الكردية. وبالمقدورِ القولُ أنّ الكردَ حققوا بدايةً راديكاليةً مع هذا المانيفستو على دربِ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيّ. أما الوجودُ الثقافيُّ الكرديُّ المُجَرَّبُ مع الحربِ المُعلَنةِ تزامناً مع حملةِ آب 1984، فقد أثبتَ جدارتَه في السيرورةِ والحياةِ مدعوماً بالكثيرِ من أحداثِ البطولةِ الباسلة. ذلك أنه ما كان بإمكانِ الكردِ الاستمرارُ بوجودِهم، لولا النهجُ الأيديولوجيُّ – السياسيُّ لـPKK وللحربِ الشعبيةِ التي رادَها، ولولا عكسُه للتاريخِ والثقافةِ الكرديَّين بعينٍ سليمة. علماً أنّ العديدَ من المجموعاتِ والشخصياتِ تناولَت القضيةَ بطموحاتٍ مماثلةٍ حينئذ، ولكنها لَم تستطعْ إنقاذَ نفسِها قاطبةً من التعرضِ للتصفيةِ والزوال، نتيجةً لعدمِ تَبَنّيها للتاريخِ والثقافةِ الكرديَّين بمنظورٍ قويمٍ وصائب.

إنشاءُ الأمةِ الديمقراطيةِ الكرديةِ مختلفٌ نوعاً عن إنشاءِ الأمةِ التي يُرادُ تطويرُها بمواقفَ قومويةٍ ودولتية. وكيفما أنه مغايرٌ لقومويةِ الدولةِ القوميةِ الحاكمة، فإنه يختلفُ أيضاً عن المواقفِ القومويةِ والدولتيةِ الكردية؛ مُظهِراً مقابل ذلك إلى الوسطِ إنشاءَ الأمةِ الديمقراطيةِ كبديلٍ يرتكزُ إلى تواريخِ وثقافاتِ الشعوبِ والكادحين.

يتبنى KCK ضمن عمليةِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ الكرديةِ الدورَ الذي أداه الكردُ كعنصرٍ أصليٍّ مشارِكٍ في الثورةِ الوطنيةِ خلال الفترةِ ما بين 1919 – 1922، والذي جرى إنكارُه على مدى تاريخِ الجمهورية. فهو يَعتَبِرُ هذه الثورةَ الوطنيةَ ثورةً وطنيةً بالنسبةِ للكردِ ولبقيةِ الحلفاءِ المشاركين فيها، بقدرِ ما هي كذلك بالنسبةِ للأتراك. كما إنه ينظرُ إلى إقصاءِ الحلفاءِ وإنكارِ تواريخِهم وثقافاتِهم في الفتراتِ اللاحقةِ على أنه انقلابٌ على الطابعِ الشعبيِّ للثورة. وعليه، فهو يَعتَبِرُ مقاومةَ الكردِ ضد ذاك الانقلابِ شرعيةً وتقدميةً وتحررية. فضلاً عن إفصاحِه علناً بأنّ التحالفَ الكرديَّ – التركيَّ الاستراتيجيَّ المبتدئَ مع معركةِ ملازكرد (1071) يستندُ إلى مبدأِ الطواعية، وأنّ الكردَ والأتراكَ ظلوا شركاء أساسيين ضمن تشكيلاتِ السلطةِ والدولةِ منذ ذلك التاريخِ بالرغمِ من تعرضِهم لفتراتِ انقطاعٍ مختلفة، وأنه ثمة شراكةٌ منيعةٌ وتداخلٌ حصينٌ بين تاريخِ وثقافةِ كِلا الشعبَين تأسيساً على ذلك. هذا ويَقبلُ بكونِ الأتراكِ و الكردِ لعبوا دوراً استراتيجياً مشتركاً طيلةَ الأعوامِ الألفِ الأخيرةِ من تاريخِ منطقةِ الشرقِ الأوسط. وعليه، فقد ازدادَت مواقفُ PKK وKCK الأيديولوجيةُ والسياسيةُ وضوحاً وشفافية، وتعزَّزَت آراؤُهما التي ازدادَت انفراجاً في آفاقِها مع هذه المرافعةِ فيما يتعلقُ بالتاريخِ الكرديِّ والثقافةِ الكردية. فهي منفتحةٌ على الاتحاداتِ والتحالفاتِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ الأوسع نطاقاً، انطلاقاً من منظورِ الأمةِ الديمقراطيةِ المنفتحِ على الشعوبِ الأخرى. علاوةً على أنها تَعتَبِرُ استحداثَ وإعادةَ إنشاءِ الاتحاداتِ والتشكيلاتِ الكونيةِ المُعاشةِ ضمن الثقافةِ الشرقِ أوسطيةِ على مدى سياقِ التاريخ (الأمةُ الإسلاميةُ خيرُ وأفصحُ مثالٍ على ذلك)، سبيلاً إلى الخلاصِ والحريةِ والتحررِ الحقيقيِّ لشعوبِ الشرقِ الأوسطِ جمعاء.

إنّ الأمةَ الديمقراطيةَ الكردية، التي ستكتسبُ مزيداً من الماهيةِ البنيويةِ تدريجياً خلال سياقِ KCK، ستُقدمُ بكلِّ أبعادِها تجربةَ إعادةِ الإنشاءِ الوطنيّ، التي ستغدو نموذجاً تقتدي به شعوبُ الشرقِ الأوسط. ومقابل نزعةِ إنكارِ التاريخِ والثقافة، التي تتبناها الدولُ القوميةُ العاجزةُ عن تخطي دورِ العمالةِ والتواطؤِ مع الحداثةِ الغربية؛  فإنها ستبتدئُ عصراً جديداً، أي ستطلقُ العنانَ لصعودِ وسموِّ عصرِ العصرانيةِ الديمقراطيةِ تزامناً مع نهضةِ الأمةِ الثوريةِ والديمقراطية.