نظام الدفاع الذاتي في الأمة الديمقراطية

الدفاعُ الذاتي لدى النوعِ البشريِّ اجتماعيٌّ بقدرِ ما هو بيولوجيّ...

عبد الله أوجلان

لكلِّ نوعٍ في عالَمِ الكائنات الحيةِ نظامٌ دفاعيٌّ خاصٌّ به. وما من كائنٍ حيٍّ واحدٍ فقط يخلو من آليةِ الدفاع. بل وبالمقدورِ اعتبارُ المناعة، التي يُبديها كلُّ عنصرٍ أو جُسَيمٍ في الكونِ للحفاظِ على وجودِه، دفاعاً ذاتياً. إذ من الساطعِ جلياً أنّ المناعةَ التي يُبديها إزاء أيِّ عطلٍ أو خروجٍ من الكينونة، لا يُمكنُ إيضاحُها إلا بمصطلحِ الدفاعِ الذاتيّ. وفي حالِ فقدانِ تلك المناعة، فإنّ ذاك العنصرَ أو الجُسَيمَ يفسد، ويخرجُ من كينونتِه، ويتحولُ إلى عنصرٍ آخر مغاير. أما في عالَم الكائناتِ الحية، فبمجردِ تحطمِ جدارِ حصنِ الدفاعِ الذاتيّ، فإنّ ذاك الكائنَ الحيَّ يصبحُ فريسةً سهلةً لكائناتٍ أخرى، أو يموت.

هذا ويَسري النظامُ عينُه على النوعِ البشريِّ والمجتمعِ البشريِّ زيادةً عن اللزوم. إذ لا يستطيعُ نوعٌ لطيفٌ كالإنسانِ وكيانٌ منفتحٌ على المخاطرِ كمجتمعِه الحفاظُ على وجودِهما مدةً طويلةً من الزمن، في حالِ غيابِ الدفاعِ الذاتيِّ المنيع. والدفاعُ لدى النوعِ البشريِّ اجتماعيٌّ بقدرِ ما هو بيولوجيّ. يعملُ الدفاعُ البيولوجيُّ من طرفِ غرائزِ الحمايةِ والدفاعِ الموجودةِ في كلِّ كائنٍ حيّ. أما في الدفاعِ الاجتماعيّ، فجميعُ أفرادِ الجماعةِ يلوذون عن نفسِهم بشكلٍ مشترك. بل ويطرأُ التغيرُ باستمرارٍ على تعدادِ المجموعةِ وشكلِ تنظيمِها، وفق ما توفرُه فرصُ الدفاعِ عن الذات. وعليه، فالدفاعُ وظيفةٌ أصيلةٌ في المجموعة. ومحالٌ الاستمرارُ بالحياةِ من دونِه. وكما هو معلوم، فالوظيفتان الأصليتان الأُخريَتان في عالَمِ الأحياء، هما تأمينُ المأكلِ والتوالد. وكيفما يستحيلُ على الكائناتِ الحيةُ مواصلةُ حيواتِها من دونِ مأكلٍ أو توالد، فمحالٌ عليها الاستمرارُ بالحياةِ في حالِ غيابِ الدفاعِ الذاتيِّ أيضاً. النتيجةُ الهامةُ الأخرى التي بإمكانِنا استخلاصُها من موضوعِ الدفاعِ الذاتيِ لعالَمِ الأحياء، هو أنّ هذا الدفاعَ يهدفُ – فقط وفقط – إلى حمايةِ الوجود. وهو يخلو من نظامِ الاستعمارِ وبسطِ النفوذِ على أبناءِ الجنسِ الواحدِ أو الأنواعِ الأخرى من الكائنات. ولأولِ مرةٍ طُوِّرَت أنظمةُ الاستعمارِ والحاكميةِ عند الجنسِ البشريّ. وما يلعبُ دورُه في ذلك هو النماءُ الذهنيُّ لدى النوعِ البشريّ، والاستحواذُ على فائضِ الإنتاجِ ارتباطاً بذلك؛ مما يفضي إلى توفيرِ فرصِ الاستغلال. وهذا ما يؤدي إلى ضرورةِ حمايةِ قِيَمِ الكدحِ إلى جانبِ اللوذِ عن الوجود. أي أنه يؤولُ إلى إشعالِ فتيلِ الحروبِ الاجتماعية.

لَطالما تحلى الدفاعُ الذاتيُّ بأهميةٍ عظيمةٍ بالنسبةِ للكردِ على مرِّ التاريخ، نظراً إلى الظروفِ الملموسةِ التي مروا بها. حيث تعرضوا للهجماتِ المتواصلة، كونهم الوارثين الأوائل للمجموعاتِ التي شهدَت الثورةَ النيوليتيةَ بأعمقِ حالاتِها وأطولِها أجَلاً. ففوائضُ الإنتاجِ الناجمةُ عن الثورةِ الزراعيةِ المندلعةِ في الهلالِ الخصيب، كانت تفتحُ شهيةَ المُغيرين وتستجلبُهم على الدوام. وقد مرّت آلافُ الأعوامِ بهذا المنوال. حيث، وكلما تطورَت نُظُمِ المدنيةِ المرتكزةُ إلى فوائضِ الإنتاج، بدأَ بالظهورِ عهدُ الهجومِ الممنهجِ والمدروسِ والمخططِ من قِبَلِ القوى المعتمدةِ على بُنى المدينةِ والطبقةِ والدولة. وهكذا، لَم تَغِبْ أبداً الهجماتُ المباشرةُ والملتويةُ لعددٍ لا حصرَ له من قوى المدنية، والتي استهدفَت المنطقةَ والأراضي نفسَها، بدءاً من المدنيةِ السومريةِ ووصولاً إلى أمريكا بصفتِها آخرَ قوةٍ مهيمنةٍ في المدنيةِ السائدةِ في يومِنا الحاليّ.

اكتَسَبَت هجماتُ القرنَين الأخيرَين المتصاعدةُ بِمَعِيّةِ الحداثةِ الرأسماليةِ طابعاً مختلفاً. حيث إنّ أنظمةَ حمايةِ الوجودِ وآلياتِ الدفاعِ الذاتيّ، التي طوَّروها على شكلِ وحداتٍ عشائريةِ وقبائليةٍ اعتماداً على المناطقِ الجبليةِ التي قطنوها منذ العصورِ الأولى؛ لَم تَفِ بالغرضِ مقابلَ وسائلِ الهجومِ المعتمدةِ على النظامِ الرأسماليّ. ولأولِ مرةٍ دخلَ في الأجندةِ خطرُ خُسرانِهم لوجودِهم. ذلك إنّ بنيةَ الدولةِ القوميةِ في الحداثةِ الرأسمالية، لَم تسفرْ عن فقدانِ الكردِ لحرياتِهم وحسب، بل وآلَت إلى مواجهتِهم مخاطرَ فقدانِهم وجودَهم أيضاً. فبرنامجُ وممارسةُ خلقِ "لغةٍ واحدة" و"أمةٍ واحدة" و"وطنٍ واحد" ضمن نفسِ الحدودِ السياسية، قد أفرزَ معه بقاءَ اللغاتِ والأممِ والأوطانِ الأخرى المنضويةِ تحت لواءِ تلك الحدودِ وجهاً لوجهٍ أمام مخاطرِ الإنكارِ والإبادة. لقد أُخضِعَ الكردُ لسياقِ الإبادةِ والإنكارِ على يدِ الدولِ القوميةِ ضمن كافةِ أجزاءِ الوطنِ التي عانوا الانقسامَ عنوةً ضمنها. والدولُ القوميةُ المدعومةُ من قِبَلِ القوى المهيمنة، قد جعلَت تصفيةَ الكردِ وكردستان سياسةً أساسيةً لديها. وعندما انكسرَت شوكةُ المقاومةِ حصيلةَ نقصانِ الدفاعِ الذاتيّ، أتى الدورُ حينها على هدمِ المجتمعِ وتقويضِه وصهرِه بغيةَ تصفيتِه وحسمِ أمرِه.

وحركةُ PKK، التي وُلِدَت كَرَدّةِ فعلٍ على هذا السياقِ المُمارَسِ بكلِّ شدتِه وعنفوانِه، هي أساساً من حيث البدايةِ حركةُ دفاعٍ ذاتيٍّ عن الشعبِ الكرديّ. فحركةُ الدفاعِ الذاتيِّ التي كانت تُمارَسُ بدايةً على الصعيدَين الأيديولوجيِّ والسياسيّ، قد انتقلَت في غضونِ فترةٍ وجيزةٍ إلى طورِ دفاعٍ ذاتيٍّ يعتمدُ على العنفِ المتبادل. بمعنى آخر، فالكفاحُ المسلَّحُ المرتكزُ إلى حمايةِ وجودِ الكوادرِ والمؤيدين فحسب بادئَ ذي بدء، قد اتسعَ نطاقُه محتضناً الشعبَ أيضاً بين ثناياه مع حملةِ 15 آب 1984. وعليه، فالحركةُ المتحولةُ إلى حربِ الدفاعِ الذاتيِّ عن الشعب، قد تعرضَت للهجماتِ المدروسةِ التي خططَت لها كافةُ القوى المهيمنةُ المعنية، وبالأخصِّ قوى الغلاديو التابعةِ لحلفِ الناتو. وقد لقيَت تلك الهجماتُ مساندةَ جميعِ القوى المرتابةِ والمتخوفةِ من قيامِ الكردِ بقلبِ موازينِ المنطقةِ رأساً على عقبٍ بعدَ أنْ يتمكنوا من تقريرِ مصيرِهم بأنفسِهم في كردستان. ومع ذلك، فقد أَلحَقَت حروبُ المقاومةِ تلك ضرباتٍ قاضيةً بسياساتِ الإنكارِ والإبادةِ والصهرِ المفروضة، وحسمَت موقفَها لصالحِ تَبَنّي هويةِ الشعبِ والعضِّ بالنواجذِ على الرغبةِ في الحياةِ الحرة. وعلى الرغمِ من عدمِ وضعِ حدٍّ نهائيٍّ وحاسمٍ للدولِ القوميةِ التي عَوَّلَت على آمالِها التصفويةِ القديمةِ بحقِّ الشعبِ الكرديّ، إلا إنها لَم تَعُدْ تتحلى بعزيمتِها القديمة. إذ تمّ بلوغُ مستوى الاعترافِ بالهويةِ واحترامِ الحياةِ شبهِ المستقلة، مما يشكِّلُ وضعاً جديداً من جهةِ حربِ الدفاعِ الذاتيّ. وقد عملَ PKK على الاستفادةِ من هذا الوضعِ وتقييمِه من خلالِ KCK.

يُشَكِّلُ موضوعُ كيفيةِ ضبطِ الدفاعِ الذاتيِّ بمنهاجٍ دائميٍّ راسخ، البندَ الهامَّ الآخر الذي لا استغناء عنه ضمن برنامجِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ في KCK. فسياساتُ الإنكارِ والإبادةِ والإذابةِ الجديدة، التي لن تتقاعسَ الدولُ القوميةُ عن مزاولتِها كلما سنحَت لها الفرصةُ بوصفِها احتكارَ القوةِ المسلحةِ الوحيد، قد أَرغَمَت نظامَ الدفاعِ الذاتيِّ في KCK على الاتسامِ بالثباتِ الوطيد. والشرطُ الأدنى منزلةً للعيشِ المشتركِ مع الدولِ القومية، هو تضمينُ الهويةِ الذاتيةِ الكرديةِ وحياتِها الحرةِ بدستور. هذا ولن يكفيَ الضمانُ الدستوريُّ لوحدِه، بل وسيجري البحثُ فضلاً عن ذلك في الظروفِ العينيةِ لذاك الضمانِ من خلالِ ضوابط تحدِّدُها القوانين. وفيما عدا الأمنِ القوميِّ المشتركِ إزاء الخارج، يتعينُ أنْ يَقومَ المجتمعُ الكرديُّ بذاتِ نفسِه على تدبيرِ الشؤونِ الأمنية. حيث إنّ تأمينَ الأمنِ الداخليِّ بأفضلِ صورة، وتلبيةَ متطلباتِه بأنسبِ الأشكالِ غيرُ ممكن؛ إلا في حالِ قامَ المجتمعُ به بذاتِ نفسِه. بناءً عليه، من الضرورةِ  بمكان أنْ تقومَ الدولُ القوميةُ المعنية (الدول القوميةُ المركزيةُ التركيةُ والإيرانيةُ والعراقيةُ والسورية) بالإصلاحاتِ الهامةِ في سياساتِها الأمنيةِ الداخلية. وفي حالِ استتبابِ السلمِ وإرساءِ دعائمِ الحلِّ الديمقراطيّ، يتعينُ على KCK أيضاً حينئذ إعادةُ ترتيبِ وفرزِ قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ لديه، أي "قواتِ الدفاعِ الشعبيِّ HPG". وما لا جدال فيه هو أنّ إعادةَ الفرزِ يقتضي قوانيناً جديدة. كما ومن الجليِّ جلاء النهارِ استحالةُ الحديثِ هنا عن نظامٍ من قبيلِ الألويةِ الحميديةِ القديمةِ أو "حُماة القرى" الجديد. ولكن، بالوسعِ القيامُ بترتيباتٍ وعملياتِ فرزٍ جديدةٍ للقوى، فيما يخصُّ الأمنَ الداخليَّ القانونيَّ والرسميّ، والذي يعتمدُ على الوفاقِ مع الدولِ القومية.

وفي حالِ عدمِ تحقُّقِ الوفاقِ مع الدولِ القوميةِ المعنية، فإنّ KCK سيجهدُ لترتيبِ وضعِ قواتِ الدفاعِ الذاتيِّ لديه كَمّاً ونوعاً بما يغطي الاحتياجاتِ الجديدة، وذلك تأسيساً على حمايةِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ بكلِّ أبعادِها، وبمنوالٍ أحاديِّ الجانب. وهكذا، فقواتُ HPG المُعادُ ترتيبُها وفرزُها، ستُكَلَّفُ بحمايةِ التحولِ الوطنيِّ الديمقراطيِّ في جميعِ الساحاتِ والمجالاتِ وبكافةِ الأبعاد، وستؤسِّسُ أرضيةَ السيادةِ الوطنيةِ الديمقراطيةِ بجدارة. كما وستَكُونُ مسؤولةً عن أمنِ الإنسانِ والمُلكِ للمواطنِ الفردِ في الأمةِ الديمقراطية. وسوف تظلُّ في حالةِ صراعٍ دؤوبٍ ودائمٍ حيال جميعِ ممارساتِ الدولةِ القومية (تجاه حروبِها العسكريةِ والسياسيةِ والثقافيةِ والاجتماعيةِ والنفسية)، والتي تبلغُ حدَّ الإباداتِ الثقافية. من هنا، فوجودُ وحريةُ كردستان والكرد، مستحيلان من دونِ دفاعٍ ذاتيّ.