نظام الكونفدرالية الديمقراطية يستند على المجتمع الأخلاقي والسياسي...
عبد الله أوجلان
A- منفتحةٌ على الكياناتِ السياسية المختلفة ذاتِ الطبقيةِ المتعددة. ذلك أنّ الكياناتِ السياسيةَ المختلفةَ عامودياً وأفقياً ضرورةٌ اضطراريةٌ بسببِ البنية المعقدةِ للمجتمع القائم. هذا وتَلُمُّ شَملَ الكيانات السياسية المركزية والمحلية والإقليمية ضمن حالةِ توازن. فبِحُكمِ ردِّ كلِّ واحدٍ منها على ظروفٍ ملموسةٍ معيَّنة، فإنّ البنى السياسيةَ التعدديةَ أقربُ إلى إيجادِ سُبُلِ الحل الأسلم والأصح للمشاكل الاجتماعية. كما أنّ تعبيرَ الهوياتِ الثقافية والأثنية والوطنية عن نفسها بالكياناتِ السياسية مِن أكثرِ حقوقها طبيعيةً. أو بالأحرى، مِن متطلباتِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي. وهي منفتحةٌ على أشكالِ التوافقِ المبدئي مع تقاليد الدولة، سواءً كانت دولةً قومية أم جمهوريةً أم ديمقراطياتٍ بورجوازية. إذ بمستطاعها العيش تحت مظلةٍ واحدة على أساسِ السلامِ المبدئي.
-Bتستندُ إلى المجتمعِ الأخلاقي والسياسي. أما مساعي المجتمعِ المُصاغةُ على شكلِ مشاريعَ عينيةٍ ونمطيةٍ مرتكِزةٍ إلى هندسةِ المجتمع مِن قَبيلِ: المجتمع الرأسمالي، الاشتراكي، الإقطاعي، الصناعي، الاستهلاكي وغيرها؛ فتَعتَبِرُها مندرجةً ضمن إطارِ الاحتكارات الرأسمالية. إذ لا وجودَ لهكذا نوعٍ من المجتمعات مضموناً، بل دعائياً وحسب. فالمجتمعاتُ أساساً سياسيةٌ وأخلاقية. والاحتكاراتُ الاقتصاديةُ والسياسيةُ والأيديولوجية والعسكرية أجهزةٌ تَقرضُ وتَنخُرُ طبيعةَ المجتمعِ الأساسيةَ تلك، طمعاً بفائضِ القيمة، بل وحتى بالجزيةِ الاجتماعيةِ الثقيلة. إذ لا قيمةَ لها بمفردها. فحتى الثورةُ تعجزُ عن خلقِ مجتمعٍ جديد. حيث لا يمكنها إلا أنْ تؤديَ دوراً إيجابياً كعملياتٍ يُلجَأُ إليها في سبيلِ البلوغِ بالنسيجِ الأخلاقي والسياسي للمجتمع إلى وظيفته الأصليةِ بَعدَ أنْ كان مُعَرَّضاً للضمورِ والتآكل. وما يتبقى تُحَدِّدُه الإرادةُ الحرةُ للمجتمعِ الأخلاقي والسياسي.
- Cتعتمدُ على السياسةِ الديمقراطية. فمقابلَ مفهومِ الدولةِ القوميةِ في الإدارةِ والحكم الصارمِ المركزيِّ البيروقراطي ذي المسار المستقيم، تُشَكِّلُ جميعُ المجموعاتِ الاجتماعية والهويات الثقافيةِ الإدارةَ الذاتيةَ للمجتمعِ من خلالِ الكيانات السياسيةِ المُعَبِّرَةِ عنها. ويتم تسيير الشؤون والأعمال على مختلفِ المستوياتِ عن طريقِ إداريين قائمين على وظائفهم بالانتخاب، لا بالتعيين. المهمُّ هو كفاءةُ إصدارِ قراراتِ المَجالِسِ المُتَداوَلة بالنقاش. أما الإداراتُ المستقلة، فغيرُ دارجةٍ أو مقبولة. تَتَحَقَّقُ الإدارةُ الديمقراطية ورقابةُ الأعمالِ الاجتماعية من خلال حزمةِ الهيئاتِ المتعددة البنى، المتطلعةِ إلى الوحدة ضمن إطارِ التباين والاختلاف، والمناسِبةِ لِبُنيةِ كلِّ مجموعةٍ وثقافة، بدءاً من الهيئة التنسيقية المركزية العامة (مجلساً كانت أم لجنة أم مؤتمراً)، وصولاً إلى الهيئات المحلية.
D- ترتكِزُ إلى الدفاع الذاتي. وحداتُ الدفاع الذاتي قوةٌ أساسيةٌ، ليس بوصفها احتكاراً عسكرياً، بل بخضوعها لمراقبةِ الأجهزةِ الديمقراطية المُشَدَّدة بما يُلَبّي احتياجات المجتمع الأمنية الداخلية والخارجية. تتجسدُ وظيفتُها في تفعيلِ إرادةِ السياسة الديمقراطية للمجتمع الأخلاقي والسياسي بوصفه بنيةَ القرارِ الحرِّ المعتمِدِ على المساواة تأسيساً على الاختلاف والتباين، وعلى شَلِّ تأثيرِ تَدَخُّلاتِ القوى العاملة على إفراغِ هذه الإرادة أو عرقلتها أو القضاء عليها، سواءً خارجياً أم داخلياً. البنيةُ القياديةُ للوحدات تَخضَعُ للرقابةِ المزدَوَجة مِن قِبَلِ أجهزةِ السياسة الديمقراطية وأعضاءِ الوحداتِ على السواء، ويمكن تغييرها بسهولة عندما تقتضي الحاجة من خلال الاقتراحات والمُصادَقاتِ المتبادَلة.
E- لا مكانَ فيها للهيمنةِ عموماً وللهيمنةِ الأيديولوجيةِ على وجهِ الخصوص. فمبدأُ الهيمنةِ يَسري في المدنيات الكلاسيكية. بينما في الحضاراتِ والعصرانيةِ الديمقراطية لا يُنظَرُ بعينِ التسامحِ إلى القوى والأيديولوجيات المهيمنة. ولدى تَخَطّي حدودِ التعبيرِ المغاير والإدارةِ الديمقراطية، يُشَلُّ تأثيرُ ذلك من خلالِ الإدارةِ الذاتية وحريةِ التعبير. التفاهمُ المتبادَل، واحترامُ المقتَرَحاتِ المختلفة، والالتزامُ بأسسِ القرار الديمقراطي شروطٌ لا بد منها في الإدارةِ الجماعيةِ لشؤونِ المجتمع. ورغمَ تَقاطُعِ مفهومِ الإدارةِ في المدنيةِ الكلاسيكيةِ والحداثةِ الرأسمالية مع مفهومِ الإدارةِ في الدولة القومية بصددِ هذا الموضوعِ؛ إلا أنه ثمة فوارقٌ وحالاتُ شذوذٍ كبرى بينهما وبين مفهومِ الإدارةِ في الحضارةِ والعصرانية الديمقراطيتَين. فنمطُ الإدارةِ البيروقراطية المزاجية ونمطُ الإدارةِ الديمقراطية الأخلاقية يَكمنان في أساسِ الفوارقِ وحالاتِ الشذوذِ والخِلاف.
هذا ولا يمكن الحديث فيها عن الهيمنةِ الأيديولوجية بتاتاً. فالتعدديةُ ساريةٌ على الآراءِ والأيديولوجيات المختلفة أيضاً. ولا تحتاجُ الإدارةُ إلى التمويهِ الأيديولوجيِّ لتَعزيزِ ذاتها. بناءً عليه، ومثلما لا ترى داعياً للأيديولوجياتِ القوموية والدينَوية والعلموية الوضعية والتعصبية الجنسوية، فهي مضادةٌ لبسطِ الهيمنةِ أيضاً. كلُّ رأيٍ وفكرٍ وعقيدةٍ له الحق في التعبير عن ذاته بِطَلاقةٍ وحرية، طالما لا يتخطى بنيةَ المجتمعِ الأخلاقيةَ والسياسيةَ، ولا يتطلعُ إلى بسطِ الهيمنة.
- Fتَقِفُ في صفِّ الاتحاد الكونفدرالي الديمقراطي العالمي للمجتمعاتِ الوطنية العالميةِ مقابلَ مفهومِ الاتحادات على شاكلةِ هيئةِ الأمم المتحدة التي تضمُّ الدولَ القوميةَ الخاضعة لرقابةِ القوة المهيمنة الخارقة. ذلك أنّ توحيدَ المجموعات الأوسع نطاقاً بكثير كَمّاً ونوعاً على السواء تحت مظلةِ الكونفدرالية الديمقراطية العالمية حسبَ معاييرِ السياسة الديمقراطية، إنما هو شرطٌ أوليٌّ من أجلِ عالَمٍ أكثرَ أمناً وسلاماً وأيكولوجيةً وعدالةً وإنتاجية.
الفوارقُ ونقاطُ التضادِّ القائمةِ بين العصرانيتَين الرأسمالية والديمقراطية، والتي يمكننا المقارنةَ بينها بمنوالٍ أوسع بكثير؛ ليست مجرد ادِّعاءٍ مثاليٍّ وحسب، فهما عالَمان كبيران معاشان في الواقع الملموس. هذان العالَمان اللذان تَحارَبا أحياناً بلا هوادة كقُطبَين متضادَّين جَدَلياً، مثلما لَم ينقصْ السلامُ والوفاقُ بينهما بين الفينة والأخرى على مر مسيرتهما التاريخية؛ إنما هما في راهننا أيضاً يتصارعان أحياناً ويتسالمان أحياناً أخرى ضمن علاقاتهما وتناقضاتهما. لا ريب أنّ النتيجةَ النهائيةَ سوف يُحَدِّدُها مَن يَنفُذُ مِن الأزمة البنيوية الممنهجة القائمة بتحقيق الانطلاقةَ السليمة والحسنة والجميلة فكرياً وسياسياً وأخلاقياً.