الحالةُ الأكثر شفافيةً وتَلَمُّساً للسياسةِ الاجتماعيةِ هي السياسةُ الديمقراطية...
عبد الله أوجلان
لا ريبَ في أهميةِ علمِ الاجتماع. ولكن، من العصيبِ نعتَ حالتِه الراهنةِ بالعلم. فالأقوالُ والعباراتُ السوسيولوجيةُ الموجودةُ في الميدانِ لا معنى لها أكثرَ مِن شرعنةِ الحداثةِ الرسمية. ثمة حاجةٌ ماسةٌ لثورةٍ علميةٍ وانطلاقةٍ أسلوبيةٍ جذريتَين في هذا الموضوع.
أما المرحلةُ المُرادُ إضفاء المعاني عليها عبرَ الطبيعةِ الثالثة، فغيرُ ممكنةٍ إلا بهذه الثورةِ العلميةِ الأسلوبية. الطبيعةُ الثالثةُ كاصطلاحٍ تعني إعادةَ تأقلمِ وتناغُمِ الطبيعتَين الأولى والثانية مع بعضهما في مستوى أعلى. فالتركيبةُ الجديدةُ للطبيعةِ الاجتماعيةِ مع الطبيعةِ الأولى في مستوى أعلى، إنما تقتضي إنجازَ الثورةِ العمليةِ الجذرية، بقدرِ حاجتِها لبراديغما نظريةٍ ثورية. خاصةً وأنّ تجاوُزَ النظامِ الرأسماليِّ العالميّ (وبالتالي الحداثة الرأسمالية)، الذي يُشَكِّلُ المرحلةَ الراهنةَ لنظامِ المدنيةِ المركزية، أمرٌ مصيريّ. لذا، فإنّ تَطَوُّرَ عملياتِ إنشاءِ الحضارةِ الديمقراطيةِ بالحدِّ الأدنى، إلى جانبِ تَطَوّرِ حركاتِ المجتمعِ الأيكولوجيِّ والفامينيِّ وتفعيلِ فَنِّ السياسةِ الديمقراطيةِ وعملياتِ إنشاءِ المجتمعِ المدنيِّ الديمقراطيِّ كأمورٍ مميِّزةٍ وملموسةٍ أكثر؛ كلُّها خطواتٌ تقتضي خَطوَها بنجاح.
السياسة الديمقراطية هي فنّ التحرر الحقيقي
لقد شَهِدَت السياسةُ خُسرانَها الأكبرَ في ظِلِّ النظامِ الرأسماليِّ العالميّ. وبالمقدور الحديث عن الموتِ الحقيقيِّ للسياسةِ في هذه المرحلةِ التي بَلَغَ فيها نظامُ المدنيةِ المركزيةِ أَوجَهُ على مدى التاريخ. بالتالي، ثمة غيابٌ وانتهاءٌ سياسيٌّ في عصرنا الراهنِ بما يستحيل مقارنته بأيِّ عصرٍ من العصور. فكيفما أنّ انتهاءَ الأخلاقِ – الذي يُعَدُّ من ميادين الحرية – من ظواهرِ حاضرنا، فميدانُ السياسةِ أيضاً مرشحٌ أكثر بكثير للانتهاء. لذا، إنْ كُنّا راغبين في الحرية، فيَبدو وكأنه لا خَيارَ أمامنا سوى إعادة إنهاضِ وتفعيلِ الأخلاقِ أولاً كضميرٍ جماعيٍّ للمجتمع، ومن ثَمَّ السياسةِ كعقلٍ مشترَكٍ بجميعِ نواحيها، وبكلِّ ما أُوتِينا من قوةٍ فكرية.
العلاقاتُ بين الحريةِ والديمقراطيةِ أكثرُ تعقيداً. وأيٌّ منهما تنبعُ مِن الأخرى موضوعُ جدالٍ دائم. ولكن، بمقدورنا التبيان – وبكلِّ سهولة – أنّ كثافتَي كِلتا العلاقتَين مُتَمِّمَتان لبعضهما. فبقدرِ ما نُفَكِّرُ بأواصرِ السياسةِ الاجتماعيةِ مع الحرية، بمستطاعنا عقدَ الروابطِ بينها وبين الديمقراطيةِ أيضاً. والحالةُ الأكثر شفافيةً وتَلَمُّساً للسياسةِ الاجتماعيةِ هي السياسةُ الديمقراطية. بالتالي، بالإمكان تعريف السياسةِ الديمقراطيةِ بأنها فنُّ التحررِ الحقيقيّ. فبِدونِ ممارسةِ السياسةِ الديمقراطية، لن يَكُونَ باستطاعةِ المجتمعِ عموماً، وكلِّ شعبٍ أو جماعةٍ خصيصاً، أنْ تَتَسَيَّسَ أو تَتَحَرَّرَ عَبرَ الدربِ السياسي. السياسةُ الديمقراطيةُ هي مدارسُ حقةٌ لِتَعَلُّمِ الحريةِ وممارستها. فبقدرِ ما تَخلُقُ الأعمالُ السياسيةُ ذواتاً ديمقراطية، بقدرِ ما تُسَيِّسُ السياسةُ الديمقراطيةُ المجتمعَ، وبالتالي تُحَرِّرُه. وإذا ما أَجمَعنا على أنّ التسيسَ هو الشكلُ الأوليُّ للتحرر، فعلينا عندئذٍ الإدراكَ أنه بقدرِ تَسييسِ كلِّ مجتمع، نَكُونُ قادرين على تحريره. والعكسُ صحيح: بقدرِ تحريرِ المجتمع، نَكُون قد سَيَّسناه أكثر. لا ريب في وجودِ العديدِ من الميادين الاجتماعيةِ المغذِّيةِ للحريةِ والسياسة، وعلى رأسها المصادرُ الأيديولوجية. لكنّ المصدرَين الأساسيَّين اللذَين يُوَلِّدان ويُغَذِّيان بعضَهما تبادُلياً، هما السياسةُ الاجتماعيةُ والحرية.
بينما تُمَثِّلُ الأخلاقُ تقاليدَ الفكرِ الجماعي، فوظيفةُ السياسةِ مختلفةٌ نوعاً ما. فهي تقتضي القوةَ الفكريةَ في سبيلِ النقاشِ والإقرار بصددِ الأعمالِ الجماعية اليوميةِ بالأغلب. الفكرُ المبدعُ يومياً شرطٌ أوليٌّ للسياسة. مرةً أخرى، يدركُ المجتمعُ بأكملِ وجهٍ استحالةَ إمكانيةِ إنتاجِ الفكرِ السياسيِّ أو ممارسةِ السياسةِ بذاتِها، دون الاعتمادِ على الأخلاقِ كمصدرٍ للفكرِ وتَراكُمِه. السياسةُ ساحةُ ممارسةٍ لا غنى عنها لأجلِ الأعمالِ الجماعية اليومية (المصلحة المشتركة للمجتمع). إجراءُ النقاشِ واتخاذُ القرارات شرطٌ لازم، حتى ولو ظَهَرَت أفكارٌ مغايرة، بل وشاذة. المجتمعُ الخالي من السياسة، إما أنْ يقتفي أثَرَ ضوابطِ الآخرين كما القطيع، أو لا يختلفُ بشيءٍ عن الحيوانِ المتألِّمِ كما الدجاجةُ المبتورُ رأسُها. الفكرُ الذاتيُّ للمجتمع ليسَ بمؤسسةِ بُنيةٍ فوقية، بل هو دماغُ المجتمع. وعضواه هما الأخلاقُ والسياسة.
الإطلاق تأتي قضيةُ شلِّ تأثيرِ الأنسجةِ الأخلاقيةِ والسياسية للمجتمع، والبلوغِ بها إلى حالةٍ تَعجَزُ فيها عن العمل في مقدمةِ القضايا الأوليةِ على. لا ريب أنه مِن غيرِ الممكن القضاءَ كلياً على الأنسجةِ والميادينِ الأخلاقية والسياسية. فما دام المجتمعُ موجوداً، فالأخلاقُ والسياسة أيضاً ستتواجدان. ولكنهما تعجزان عن أداءِ مهاراتهما وكفاءاتهما الإبداعيةِ والوظيفية، بسببِ خروجِ أو إخراجِ السلطةِ والدولة من كونهما ميداناً للمهارةِ والخبرة. واضحٌ جلياً أنّ أجهزةَ وعلاقاتِ السلطةِ والدولة في راهننا تتسللُ إلى أدقِّ مساماتِ المجتمع (عبر الإعلام، شتى أنواع وحدات الاستخبارات والعمليات الخاصة، والتعاليم الأيديولوجية وغيرها)، لِكَتمِ أنفاسه، وتصييرِه جاهلاً لنفسِه، قاصراً عن تطبيقِ أيٍّ مِن مبادئه الأخلاقية، عاجزاً عن القيامِ بأيِّ نقاشٍ سياسيٍّ أو صياغةِ أيِّ قرارٍ لِتَلبيةِ احتياجاته الأساسية (السياسة الديمقراطية).
وإلا، وعلى سبيلِ المثال، لماذا تستفحلُ البطالةُ والمجاعةُ والفقرُ في سهولِ ميزوبوتاميا، التي أَشبَعَت عدداً جماً من المجتمعاتِ على مَرِّ التاريخ، والتي أَدَّت دورَ الأمومةِ للمجتمعِ النيوليتيِّ طيلةَ خمسة عشر ألف عام؟ إنّ تلك السهول بإمكانها تأمينَ الغذاءِ لخمسٍ وعشرين مليون مِن الأنفُسِ وفق معاييرنا الراهنة، بل وسيفيض منها؛ في حالِ التخطيطِ لحملةٍ إنتاجيةٍ لا تَهدِفُ إلى الربح. الحاجةُ الوحيدةُ لتلك السهولِ وأهاليها ليست يَدَ الرأسماليةِ التي لا تُشَغِّلها لأنها تُعتَبَرُ السببَ الوحيدَ للبطالةِ والجوعِ والحرمان؛ إنما– وعلى النقيض – تتجسدُ في أنْ تتخلى تلك اليدُ عن خِناقها (سواء كانت اليد خاصة أو يد الدولة، لا فرق بينهما). الشيءُ الوحيدُ الذي هي بحاجةٍ إليه هو: التقاءُ يَدِ الكادحِ الحقيقيِّ مع الأرض، وإنجازُ الثورةِ الذهنيةِ الاجتماعيةِ التي تهيئُ فرصةَ ذلك، ووصولُ الأخلاقِ الاجتماعيةِ والسياسةِ مجدداً إلى وظائفها كأنسجةٍ وأعضاءٍ أساسية، واندفاعُ السياسةِ الديمقراطيةِ نحو التشبثِ بِمَهامِّها بالنواجذ والأطرافِ من خلالِ عقولٍ حقيقية.
السياسة هي ساحة المجتمع الحرة أو التحررية
يُمثِّلُ مصطلحُ السياسةِ أيضاً ظاهرةً اجتماعيةً عويصةً على الإدراكِ بقدرِ مصطلحِ السلطةِ على الأقل. وكلمةُ السياسة، التي تُذَكِّرُ بالإدارةِ وبمصطلحِ السلطةِ على السواء، ذاتُ أصولٍ إغريقية، وتَعني "إدارة المدينة". لكن، وعندما يَجري الحديثُ عنها كظاهرةٍ اجتماعية، فبالإمكانِ تعريفُها على أنها تحقيقُ تطوُّرِ المجتمعِ من خلالِ إدارةِ شؤونِه بحرية، وتأمينُ رُقِيِّ الفردانيةِ فيه. فإلى جانبِ احتوائِها لظاهرةِ الإدارة، إلا أنه لا يُمكنُ حصرُها بها فحسب. هذا ومحالٌ مطابقتُها مع الإدارةِ الذاتيةِ أو مع حُكمِ السلطة. لذا، فالنظرُ إلى السياسةِ على أنها مساحةُ حريةِ المجتمعِ ومساحةُ الخَلْقِ التي يزدادُ فيها التطورُ معنىً وإرادةً، هو أدنى إلى حقيقتِها الجوهرية. بل وبالمستطاعِ المُطابَقةُ بين السياسةِ والحرية. موضوعُ الحديثِ هنا هو إدراكُ المجتمعِ لذاتِه وهويتِه فكراً وممارسةً، وتطويرُه إياهما، ودفاعُه عنهما. وبينما تَكتسبُ السياسةُ هويةَ السياسةِ الديمقراطيةِ لدى بلوغِها القدرةَ على الإدارةِ الذاتية، فبالإمكانِ تقييمُ تحويلِها إلى حالةِ حُكمِ السلطةِ على أنه تحريفُ السياسةِ عن حقيقتِها الجوهرية، وإسقاطُها في وضعٍ تَنكرُ فيه ذاتَها. ذلك أنّ ساحةَ السلطةِ هي الحقلُ الذي تُنكَرُ فيه السياسة. بناءً عليه، فحُكمُ الدولةِ ليس سياسةً أو إدارةً سياسيةً كما تُرَوِّجُ له الليبراليةُ بإصرار. بل، وعلى النقيض، إنه يعني إنكارَ السياسة، وإقامةَ الحُكمِ المزاجيِّ للسلطةِ أو لحكمِ الدولةِ المضبوطِ بدلاً منها. ولا يُمكنُ البتةَ تعريفُ حكمِ الدولةِ بالسياسة، بل هو ضربٌ من ضروبِ السلطةِ المضبوطةِ والمؤَطَّرةِ بمعايير وقواعد. وفي كلِّ الأحوال، فالسلطةُ بالذات تعني دحضَ وتفنيدَ السياسة.
الساحةُ التي أصابَها التشوشُ بالأكثر في علمِ الاجتماع، هي ساحةُ العلاقةِ بين السلطةِ والإدارةِ والسياسة. إذ تُستَخدَمُ هذه المصطلحاتُ بالتداخُلِ وكأنها متطابقة، بحيثُ يُحاكُ سقفُ علمِ الاجتماعِ برمتِّه بمنوالٍ خاطئٍ تسلسلياً. وعلمُ الاجتماعِ الذي يَنتهلُ من الأيديولوجيةِ الليبرالية، إنما يَخدمُ تشويشَ العقولِ بلا حدودٍ في هذا المضمار. حيث ولدى إطلاقِ تسميةِ السياسةِ على كافةِ ممارساتِ الأنظمةِ التسلطيةِ بصورةٍ خاصة، فإنه يتمّ التغاضي عن الكسراتِ السياسيةِ النذيرةِ الصامدةِ من جهة، والحكمُ على الإدارةِ القَبَليةِ البدائيةِ من الجهةِ الثانيةِ بكونِها نزعةً محليةً ضيقةً وقاصرةً عن التحلي ببُعدِ الرؤيةِ وعن تمثيلِ المصالحِ الوطنيةِ الأساسيةِ الداخليةِ منها والخارجية. ويُعَدُّ تشوُّشُ العقولِ والعَربدةُ في هذا السياقِ في أعلى الدرجات. كما ويَجري الحديثُ عشوائياً ودون أيِّ تفكيرٍ عن تحقيقِ تطورٍ كبيرٍ على الصعيدِ السياسيّ، وعن بلوغِ مستوى عصريٍّ ومتحضرٍ في السياسة؛ رغمَ إقصاءِ السياسةِ من المجتمعِ منذ أمَدٍ بعيد، ورغمَ إحلالِ ألغازِ السلطةِ المُطابِقةِ للخيانةِ محلَّها. بَيْدَ أنّ ما يَسري في الميدانِ الاجتماعيِّ الذي تتواجدُ فيه السياسة، هو المصالحُ الحياتيةُ للمجتمع، وسلامتُه ورُقِيُّه بُنيةً ومعنىً. بينما المجتمعاتُ التي تَغيبُ فيها السياسةُ أو تضعف، لن تتخلصَ من معاناةِ نيرِ سلطةٍ إباديةٍ واستعماريةٍ من الخارج، أو استغلالِ وقمعِ نخبةٍ سلطويةٍ وطبقةٍ استغلاليةٍ من الداخل. من هنا، فأعظمُ حَسَنةٍ يُمكنُ عملُها من أجلِ مجتمعٍ ما، هي النهوضُ به إلى مستوى المجتمعِ السياسيّ. والأفضلُ من ذلك هو البلوغُ به إلى ديمقراطيةٍ دائمةٍ وبنيويةٍ تَنشطُ فيها السياسةُ الديمقراطيةُ على مدارِ الساعة.