لا يمكن إنشاء الاقتصاد الكومينالي بدون السياسة الديمقراطية  

أثناء توجُّهِنا نحو الاقتصادِ المشاعيّ، علينا الإدراكُ بعظيمِ الأهميةِ أنه يستحيلُ علينا إنشاؤُه من دونِ سياسةٍ ديمقراطية...

عبد الله أوجلان

جليٌّ جلاءَ النهارِ مدى صعوبةِ تذليلِ حالاتِ الدمارِ هذه، والتي أفرَزَها التحكمُ الاقتصاديُّ الليبراليُّ والدولتيُّ للحداثةِ الرأسمالية؛ في حالِ إتباع أيِّ سبيلٍ عدا الاقتصادِ الكومينالي للعصرانيةِ الديمقراطية. يتعينُ عدم التفكيرِ باقتصادِ المشاعةِ على أنه ابتكارٌ أو مذهبٌ جديد. كما إنه ليس خطةً أو مشروعاً جديداً. بل ينبغي تصوُّرُه نمطَ وجودٍ يستحيلُ على المجتمعِ البشريِّ العيشُ من دونِه، أو استيعابُه على أنه حقيقةٌ يقينة. ولَئِنْ كان المجتمعُ يطمحُ في البقاءِ متيناً وفي تأمينِ سيرورتِه، فيجبُ عليه حينها اتخاذُ اقتصادِ المشاعةِ أساساً له. قد تحتوي كلمةُ "يجب" على قاعدةٍ صارمة. لكنّ فِعلَ "يجب" هنا في مكانِه، نظراً لاستحالةِ العيشِ من دونِ اقتصاد، ولاستحالةِ تحقُّقِ هذا الاقتصادِ من دونِ مشاعة. هذا ويتحتمُ علينا جعلُ اقتصادِ المشاعةِ في الصدارة، ما دمنا نتطلعُ إلى المواظبةِ على الحياةِ الاجتماعية، ليس في الشرقِ الأوسطِ فقط، بل وعلى وجهِ البسيطةِ بأكملِه. أقولُ "الصدارة" لأنه يصعبُ علينا اجتثاثُ الرأسماليةِ الخاصةِ ورأسماليةِ الدولةِ وكأننا نقطعُهما بالسكين، ثم الرميُ بهما جانباً. بل، وبينما نسمحُ لهما بالحياةِ بعد تصييرِهما هامشيتَين مثلما كانتا في الماضي الغابر، فمن الضرورةِ بمكان أنْ نجعلَ المشاعةَ تحتلُّ مرتبةَ الصدارة.

إيقافُ قانونِ الربح يقتضي – بالطبع – ممارسةً اجتماعيةً كبرى. وبِحُكمِ أنّ الربحَ ليسَ دافعاً رئيسيّاً أو عنصراً مُحَرِّكاً للعصرانية الديمقراطية، فهي تتسمُ بأهميةٍ حياتيةٍ، كونَها خيارَ الحضارةِ الأنسب. الهَمُّ الشاغِلُ أساساً لنظامِ المجتمع الأخلاقي والسياسي غيرِ المستند إلى نظامِ الطبقة – رأسِ المال – الربح، هو الحفاظُ على هويته حرةً، وجعلُ وسائلِ سياستِه الديمقراطية حياتيةً لهذا الغرض. بينما الليبراليةُ، التي تَضَعُ هَوَسَ الكسبِ والربحِ اللامحدودَين أمام الفرد، تُرَوِّجُ دوماً للحداثةِ الرأسماليةِ والصناعويةِ كنمطٍ وحيدٍ للحياة، وتَشعُرُ بالحاجةِ إلى تقديسِ النظامِ وكأنه ضربٌ من أديانِ العصور الأولى. وما الصناعويةُ الثقافيةُ سوى شكلٌ جديدٌ لا يَعرِفُ حدوداً لذاك التقديس. من هنا، فالصراعُ الطبقي الاقتصادي، وشتى أنواعِ الصراع على السلطة، والحركاتُ الأيكولوجية والفامينية بمفردها؛ جميعُها لا يُمكِنها سدَّ الطريقِ أمام الحداثةِ البالغةِ أبعاداً عملاقةً لهذه الدرجة، إلا بالعصرانيةِ البديلة. والقرونُ الأربعةُ للهيمنةِ الرأسمالية تَكشِفُ النقابَ عن هذه الحقيقة بما فيه الكفاية.

مجتمعُ الشرقِ الأوسطِ ليس متسالماً مع الرأسماليةِ مثلما هي عليه في أوروبا والمناطقِ الأخرى من العالم. وهو بعيدٌ عن هضمِها واستساغتِها. بالتالي، فجذورُه الكوموناليةُ منيعةٌ ووطيدة. أما عنصرُ الاقتصادِ المشاعيِّ للعصرانيةِ الديمقراطيةِ المُحَصَّنةِ بعلومِ العصرِ الراهنِ وتقنياتِه، فهو لا يكتفي فقط بالتغلبِ على الآثارِ المُهشِّشةِ والمُفكِّكةِ والمدمِّرةِ التي خلَّفَتها الرأسمالية، بل ويرصفُ أرضيةً حصينةً لإعادةِ إنشاءِ كافةِ الميادين الاجتماعية. لكنّ الرأسماليةَ قد صيَّرَت أفرادَ البشرِ خلال القرنِ الأخيرِ متسكعين وعاطلين عن العملِ ومناهِضين للمجتمعية، لدرجةٍ تقتضي معها إنجازَ ثورةٍ اجتماعيةٍ حقيقية، للتمكنِ من كسبِهم ثانيةً لنظامِ الاقتصادِ المشاعيّ. فالفرديةُ الليبراليةُ مَرَضٌ خطيرٌ بما يعادلُ السرطان. ولا يُمكنُنا ضمُّها إلى الحياةِ الكومونالية، إلا بعد معالجتِها بعنايةٍ فائقة. هذا وتلعبُ الذهنيةُ والتعليمُ الأخلاقيُّ دوراً كبيراً في ذلك. لكن، وأثناء توجُّهِنا نحو الاقتصادِ المشاعيّ، علينا الإدراكُ بعظيمِ الأهميةِ أنه يستحيلُ علينا إنشاؤُه من دونِ سياسةٍ ديمقراطية، وأنْ نلبيَ متطلباتِ ذلك. فضلاً عن أنّ البُعدَ الأخلاقيَ لا يَحتملُ الإهمال. وباقتضاب، فإعادةُ إنشاءِ اقتصادِ المشاعةِ يقتضي تعليماً وتدريباً أيديولوجياً وسياسياً وأخلاقياً كثيفاً.

عاملُ الذهنيةِ ليس بُنيةً فوقيةً بعيدةً عن الاقتصادِ مثلما يُعتَقَد.

 وبالأصل، فالتمايزات المشابهةُ مِن قَبيلِ الفوقي – التحتي، تُزيدُ مِن تعقيدِ وتشويشِ سياقِ فهمِ الطبيعة الاجتماعية. فالطبيعةُ الاجتماعيةُ بذاتها هي الكيانُ الذي يتكاثفُ فيه ذكاءُ الطبيعةِ على أعلى المستويات. أما التفكيرُ بعناصرَ ذهنيةٍ أخرى، فرُبَّما يُقابَلُ بالاستهجان. لكنّ بَترَ العلمِ عن المجتمعِ التاريخي، وحَثَّه على خدمةِ المدنيةِ الرسمية، وإقحامَه في دورِ مصدرِ القوةِ الأكثر عطاءً بالنسبة للسلطة؛ إنما يُؤكِّدُ أهميةَ إعادةِ النظر في ذهنيةِ وبُنيةِ حياةِ الحضارةِ الديمقراطية. فلَطالما أَبدَت المدنيةُ الرسميةُ بِعِلمِها وهيمنتِها الأيديولوجيّةِ موقفاً مناهِضاً للذهنية وبُناها، وحاوَلَت إيجادَ البدائلِ لها على مَرِّ التاريخ. كما تَواجَدَ الصراعُ الأيديولوجيُّ والحركاتُ العلميةُ البديلةُ في كلِّ الأوقات. والمدنياتُ الكلاسيكيةُ باتت أكثرَ الأنظمةِ استِغلالاً لنماءِ الذكاء التحليلي، حيث استفادت كثيراً من جميعِ مستوياتِ التصورِ والرموز الخياليةِ المُضَلِّلة والمُرعِبة بشتى أنواعها التي لا ضوابطَ لها في دناءتِها، في سبيلِ طمسِ حقيقتها الاستغلالية. هذا وعَرَضَت وقائعَها المادية في ميادينِ الميثولوجيا والدين والفلسفة والعلموية كواقعٍ اجتماعيٍّ عام، وسَعَت دائماً إلى الترويجِ بأن البحثَ عن الحقائق الأخرى عبثٌ وهُراء.

هذا الهدفُ "الانفردي" ممهورٌ بطابعِ إرغاماتِ رأسِ المال والسلطة كسبيلٍ وحيدٍ صحيح. وكأنها دَهَنَت الألوانَ ذات التنوعِ والتباينِ العظيمِ للطبيعتَين الأولى والثانية باللونِ الرمادي في محاولةٍ منها لإثباتِ أنّ اللونَ الرماديَّ لونٌ وحيدٌ انفردي. كما سَخَّرَت كَمّاً ضئيلاً مما جَمَعَته من فائضِ القيمة لاستخدامِه كرأسمالٍ فكريّ، ولم تُنقِصْ من الهيمنة الأيديولوجية شيئاً. وتَحَوَّلَت أنظمةُ المدارسِ التعليمية والتربويةِ إلى أماكنَ تُلَقَّنُ فيها أنماطُ حياتها. هذا واستخدَمَت الجامعةَ كمكانٍ للنبذ والإلغاء والإنكار، لا مكاناً لتَبَنّي وتَمَثُّلِ الحقيقةِ والهويةِ الاجتماعية. أما مضمونُ العلم وبُنيتُه، فقد أُعِدَّت بِحِرصٍ وعناية في سبيلِ تشييءِ واقعِ المجتمعِ التاريخيِّ للطبيعةِ الاجتماعية، وعزلِه عن دوره كذاتٍ فاعلةٍ تحت اسمِ الموضوعية. هكذا عُرِضَت مستوياتُ المدنية ذات النهجِ المتصلب على أنها قواعد وصياغات كونية مُثلى.

يَنعَكِسُ تناغُمُ الحضارةِ الديمقراطية مع الطبيعة الاجتماعية على التطور الذهني أيضاً. فحتى أكثرُ أذهانِ الكلاناتِ طفولةً كانت مُدركةً لارتباطها الحيوي مع الطبيعة. أما تَصَوُّرُ "الطبيعة الميتة"، فليس سوى تلفيقٌ وخيانةٌ أطلَقَتها المدنيةُ المبتورةُ تدريجياً عن الطبيعة. وإذا ما أَخَدنا بعينِ الحسبان أنّ الحيويةَ والألوهيةَ التي يَجِدُها عصرُ التمويل العالمي الراهن في "المال"، لا يراها في أيٍّ من كياناتِ الطبيعة الأخرى؛ فسنُشاهِد أنّ المتقدِّمَ والراقي في مضمارِ حيويةِ وألوهيةِ الطبيعة هو واقعُ الكلان، لا الاحتكارات الراهنة. ذلك أنّ القبيلةَ والعشيرةَ والقوم والبنى الوطنيةَ الديمقراطية كانت ميادينَ وجودِ ذهنيةٍ حية. فالذكاءُ والبنيةُ على علاقةٍ مع الحياة. بالتالي، لا يُمكِنُ للذكاءِ التحليلي والعاطفي بلوغَ تَوَحُّدٍ جَدَلِيٍّ إلا في ظلِّ نظامِ الحضارة الديمقراطية.

إنّ ذهنيةَ الحضارةِ الديمقراطية، التي تَنظُرُ بعينِ الشك إلى أنظمةِ المدارس والأكاديميات والجامعاتِ الرسمية، لَم تتخلفْ عن تطويرِ بدائلها على مرِّ التاريخ. فبِدءاً من أنظمةِ النبوة إلى مدارسِ الفلاسفة، ومن التصوف إلى علومِ الطبيعة؛ قامت بتطويرِ عددٍ لا حصرَ له من المَقامات، غُرف الزاهدين، البُؤَر، الطرائق، المدارس، المذاهب، الأديِرة، الكليات، الجوامع، الكنائس، والمعابد. يُلاحَظُ أنّ الحالةَ الثنائيةَ للحضارة، لا الأحادية الانفرادية، هي التي تُظهِرُ نفسَها للعيان في كافةِ ميادينِ الطبيعة الاجتماعية. القضيةُ هي التحلي بالحلِّ في الطرفِ الطبيعَوِيِّ من الثنائية، دون الاختناق في البنية الأحادية الرسمية؛ والقدرةُ على تطويرِ فوارقِ الحياةِ الحرةِ بوصفها خيارَ الحضارة الديمقراطية.

اعتباراً من النصفِ الثاني من القرنِ العشرين، بدأَت الاحتكاراتُ الذهنيةُ تُصابُ بالتآكلِ والتعريةِ ضمن الشرقِ الأوسط، مثلما كانت عليه في عمومِ أرجاءِ العالَمِ أيضاً. فالثورةُ الثقافيةُ المندلعةُ في 1968، باشرَت بفتحِ ثغراتٍ في احتكاراتِ الاستشراقية. وقد كانت تلك الفترةُ سنواتٍ بدأَت الأيديولوجيا الليبراليةُ والعلمويةُ الوضعيةُ تفقدُ فيها تفوقَها. والانهيارُ المتسارعُ للاشتراكيةِ المشيدةِ في عامِ 1990، قد زادَ من زعزَعَةِ سيادةِ الفكرِ الوضعيِّ الليبراليّ. ونخصُّ بالذِّكرِ أنّ العلمويةَ الاجتماعيةَ أُصيبَت بجروحٍ غائرة. كما أُصيبَ الاحتكارُ الذهنيُّ للحداثةِ الرأسماليةِ لأولِ مرةٍ بتزعزعٍ جديّ، فظهرَت إلى الوسطِ العديدُ من التياراتِ المسماةِ بماوراء الحداثة. وتصاعدَت التياراتُ الفامينيةُ والأيكولوجيةُ والثقافيةُ والمدارسُ الفكريةُ اليساريةُ الجديدة. وهكذا جرَت المعاناةُ من الأزمةِ البنيويةِ المستفحلةِ في الرأسماليةِ خلال أعوامِ 1970، بالتزامنِ مع الأزمةِ الذهنيةِ التي كانت تتجذرُ باستمرارٍ مع مُضِيِّ الوقت. فانهارَ الاحتكارُ الفكريُّ القديمُ لدرجةٍ باتَت إعادةُ تأسيسِه أمراً مستحيلاً. ونالَت الاستشراقيةُ أيضاً نصيبَها من ذاك الانهيار، باعتبارِها نسخةً مشتقةً من الأيديولوجيا الليبرالية، فتبدَّدَت حاكميتُها الفكريةُ على الشرق. وقدَّمَ عددٌ كبيرٌ من المفكرين إسهاماتٍ ثمينةً للثورةِ الفكرية التي كشَفَت النقابَ عن دورِ الشرقِ الأوسطِ من جهةِ كونِها مهدَ نظامِ المدنيةِ المركزية، يتقدمُهم في هذا المضمارِ كلٌّ من جوردون تشايلد، صموئيل كريمر ، وآندريه غوندر فرانك. وهكذا، فقد تمَّ عيشُ نهضةً فكريةً بكلِّ معنى الكلمة، مع الاستمرارِ في بسطِ حدودِ الحداثةِ الرأسماليةِ وتطورِ الشرقِ ارتباطاً بنُظُمِ المدنيةِ المركزية. أما أفكارُنا بشأنِ السياسةِ الديمقراطيةِ والعصرانيةِ الديمقراطية، والتي سعينا إلى رسمِ ملامحِها وصياغتِها في المرافعاتِ على شكلِ حلقاتٍ تزدادُ اتساعاً وعُمقاً بنحوٍ طرديّ؛ فقد أضحَت مُتَمِّمةً لأفكارِ أولئك المفكرين، ولو عن دونِ قصد. وفيما يتعلقُ بالتقييماتِ والشروحِ التي تناولَت موضوعَ ولادةِ نظامِ المدنيةِ المركزية، ومدى تأثيرِه ودورِه في صعودِ الحداثةِ الرأسماليةِ داخل أوروبا الغربية؛ فقد كانت صحيحةً وصائبةً بخطوطِها العريضة.

كان التأثيرُ المشتركُ لكافةِ هذه العواملِ الفكريةِ الثوريةِ قد أفضى إلى ثورةٍ ذهنيةٍ متسارعةٍ في وجهِ الذهنيةِ الليبراليةِ والاستشراقيةِ بدءاً من تسعينياتِ القرنِ العشرين. وبالرغمِ من التأثيرِ المحدودِ لتلك الثوراتِ الذهنية، إلا إنّ ما طغى على مرافعاتي كان بمثابةِ تدوينٍ مستقلٍّ لثورةٍ فكريةٍ وتطورٍ فكريٍّ تدريجيٍّ في آنٍ معاً. تتسمُ بعظيمِ الأهميةِ الثورةُ الذهنيةُ التي تخطَّت الاستشراقيةَ وتخلصَت من تَبِعاتِ المذاهبِ المركزيةِ واليمينيةِ واليساريةِ اللّيبراليةِ على حدٍّ سواء ضمن منطقةِ الشرقِ الأوسط. هذا وينبغي عدم التغاضي إطلاقاً عن أنه يستحيلُ عيشُ أيةِ ثورةٍ اجتماعيةٍ راسخةٍ ودائمة، ما لَم تُعَشْ الثورةُ الذهنية. والصياغةُ التي تحتوي عليها المجلَّداتُ الخمسةُ الأخيرةُ من مرافعاتي، تبسطُ للعيانِ مَرامَنا من مصطلحِ الثورةِ الذهنيةِ في الشرقِ الأوسطِ بخطوطِه العريضة. يتعينُ عليَّ التشديدُ على أهميةِ سكبِ ذلك في الممارسةِ العملية، عوضاً عن تكرارِ التنويهِ به. فأثمنُ الأفكار، أي تلك التي نصيبُها من الحقيقةِ جدُّ وطيد، لن تُعَبِّرَ عن أيِّ شيء، ما لَم تُطَبَّقْ عملياً. وحتى لو اتّحدَ العالَمُ كلُّه وأجمعَ على فكرةٍ خاطئةٍ أو نصيبُها من الحقيقةِ واهن، فإنّ شخصاً واحداً فقط قادرٌ على الوقوفِ في وجهِ العالَمِ برمتِه، والدفاعِ بنجاحٍ موفقٍ عن فكرةٍ نصيبُها من الحقيقةِ أرقى، وإحرازِ نصرِها المؤزرِ في نهايةِ المطاف، حتى ولو التَزَمَ بها لوحدِه دوناً عن غيرِه. والتاريخُ البشريُّ مليءٌ بالأمثلةِ على ذلك. وما يؤدي إلى ذلك هو قوةُ الحقائقِ الغالبةُ دوماً. قد تُقمَعُ الأفكارُ المُعَبِّرةُ عن الحقيقة، وقد تُجازى؛ ولكنها لن تُهزَمَ أبداً.

لقد وُجِدَت جميعُ الأديان والفلسفات والتعاليمِ الأخلاقية وكافةُ الحكماءِ الفاضلين في التاريخِ للردِّ على قضايا الحداثةِ التي عاصروها. بالمقدور نقاش مدى كفايتهم أو عدم كفايتهم في ذلك. المهمّ هو عدمُ غيابِ الجهود بتاتاً باسمِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي. والعصرانيةُ الديمقراطيةُ على هُدى كافةِ تجاربها وخبراتها تلك، لا يمكنها أنْ تَعنيَ شيئاً، إلا عندما تَصُوغُ تحليلاً شاملاً وتتوصلُ إلى أجوبةٍ شاملةٍ بصددِ الحداثةِ الرأسماليةِ بكلِّ قضاياها الخاصة بها. فالتاريخُ والحاضر – على عكسِ ما يُعتَقَد – ليس ميداناً للحاكميةِ المطلقةِ لقوى المدنية. والأقوالُ المشيرةُ إلى ذلك مشحونةٌ بالدعاية. فمثلما أنّ كلَّ تاريخٍ مُدَوَّنٍ ليس حقيقياً، كذا فكلُّ ما قاله علمُ الاجتماعِ بصددِ الحداثةِ الراهنةِ أيضاً ليس حقيقياً. بل هو بلاغةُ الهيمنةِ الأيديولوجيةِ في التشويشِ والتعمية وإضفاءِ الطابعِ الدوغمائيِّ بنسبةٍ ساحقة. السياسةُ الديمقراطية ليست فقط وسيلةً لتفعيلِ وتنشيطِ المجتمعِ السياسي بالمعنى الضيق. بل وهي ممارسةٌ لكشفِ المجتمعِ التاريخيِّ بجميعِ جوانبه أيضاً. أما إيضاحُ الحداثةِ الرأسماليةِ والصناعويةِ بالسياسةِ الديمقراطية، فلا يمكن أنْ يُسفِرَ عن قوةِ القرارِ والممارسةِ العظمى للمجتمعِ الأخلاقي والسياسي، إلا لدى التِحامها وتَكامُلِها مع الحقيقة. حينها فقط يُمكن لسؤالِ "أيّةُ عصرانيةٍ وحياةٍ عصرية؟" أنْ يَجِدَ جوابَه اللائق به. وتجربةُ الهيمنةِ الرأسماليةِ طيلةَ القرونِ الأربعة الأخيرةِ خيرُ برهانٍ على استحالةِ إيجادِ الأجوبةِ الكافية والمؤديةِ إلى النجاحِ بأساليبَ أخرى أياً كانت. بينما العصرانيةُ الديمقراطية بممارساتها المُثلى جوابٌ قَديرٌ وكفوءٌ لهذه التجربةِ التاريخية.