الاقتصادُ بماهيته الأساسيةِ هو الممارسةُ التاريخيةُ للمجتمع...
عبد الله أوجلان
يُمكن التفكير في موضوعِ الاقتصاد على أنه ممارسةٌ أوليةٌ للمجتمع الأخلاقيِّ والسياسي التاريخي، بل وتصييره علماً تجريدياً إنْ تَطَلَّبَ الأمر. أما التفكير بِكَونِ الاقتصاد السياسي الأوروبيِّ المحورِ علماً، فربما يعني وقوعَ العقلِ أسيراً لميثولوجيا ثانيةٍ هي الأكثر استعماراً بعد الميثولوجيا السومرية. لذا، فالثورةُ العلميةُ الراديكالية سوف تؤدي دوراً مصيرياً بالنسبة لهذا الميدان.
علينا التبيان، وبكلِّ إصرار، أنه ما مِن ممارسةٍ اجتماعيةٍ هي أخلاقيةٌ وسياسيةٌ بقدرِ الاقتصاد. وهو بتوصيفِه هذا لن يتخلصَ مِن إيجادِ معناه كموضوعٍ هو الأكثر أولويةً في السياسةِ الديمقراطية. عليه، فنظامُ الحضارةِ الديمقراطية المبنيُّ على اقتصادِ المجتمعِ التاريخيِّ الأكثر لُزوماً مِن الطبِّ ألفَ مرة لأجلِ سلامةِ وعافيةِ المجتمع، إنما يَعِدُ بثورةٍ حقيقيةٍ بقدرِ ما يُفَسَّرُ بمنوالٍ سليم.
الأساسُ الاقتصاديُّ للحضارةِ الديمقراطية على تناقضٍ دائمٍ مع احتكاراتِ رأسِ المال المَبنِيّةِ على الفائضِ الاجتماعي. فهو منفتحٌ بِحُرِّيّة على شتى أشكالِ النشاطاتِ الزراعية والتجاريةِ والصناعية، بشرطِ أخذِ الاحتياجاتِ الاجتماعيةِ الأساسيةِ والعناصرِ الأيكولوجيةِ بعينِ الحسبان في تَطَوُّرها. وهو يَعتَبِرُ المكاسِبَ شرعيةً ما دامت خارجَ إطارِ الربحِ الاحتكاري. كما أنه ليس مضاداً للسوق، بل على العكس، هو اقتصادُ سوقٍ حرةٍ حقيقيةٍ، نظراً للوسطِ الحرِّ الذي يُوَفِّرُه. ولا ينكر دورَ المنافسةِ الخَلاّقة في السوق. ما يناهِضه هو أساليبُ الكسبِ بالمُضارَبة. أما المعيارُ في قضيةِ المُلكِية، فهو العطاء. في حين أنّ دورَ الاحتكار كمُلكيةٍ يتناقضُ مع العطاءِ في كلِّ الأوقات. لا تندرجُ المُلكِيةُ الفردية المفرطة، ولا مُلكيةُ الدولة ضمن إطارِ الحضارةِ الديمقراطية. فالاقتصادُ في الطبيعةِ الاجتماعية قد مُورِس دوماً على شكلِ مجموعات. إذ لا توجدُ علاقةٌ للفرد أو الدولة بمفردِهما مع الاقتصاد، فيما خلا الاحتكار. وأشكالُ الاقتصاد التي يَكُونُ فيها الفردُ أو الدولةُ موضوعَ حديث، إما أنْ تتجهَ صوبَ الربح أو الإفلاسِ بالضرورة. بينما الاقتصادُ هو عملُ المجموعاتِ على الدوام. وهو الميدانُ الديمقراطيُّ الحقيقيُّ للمجتمع الأخلاقي والسياسي. الاقتصادُ ديمقراطية. والديمقراطيةُ ضروريةٌ للاقتصاد أكثر من غيره. وبهذا المعنى، لا يمكن تفسير الاقتصادِ كبنيةٍ تحتيةٍ أو فوقية. بل من الواقعيةِ أكثر تقييمه كممارسةٍ ديمقراطيةٍ أساسيةٍ أكثر بالنسبة للمجتمع.
تحليلاتُ العلاقاتِ الاقتصادية التي جَرَّدَتها تقييماتُ الاقتصاد السياسيِّ الرأسمالي والتفسيراتُ الماركسية، إنما هي مَحفوفةٌ بالمخاطر الجَمّة. إذ لا يمكن للاقتصاد أنْ يَنحَصِر في ممارسةِ ربِّ العمل – العامِل بتاتاً. أنا شخصياً مرغَمٌ على تقييمِ ثنائيِّ ربِّ العمل – العامِل بأنهما لِصّان احتكاريان للاقتصادِ الذي هو ممارسةٌ ديمقراطيةٌ أساسيةٌ للطبيعةِ الاجتماعية (إذا ما أَدرَجنا عهدَي الكلان والقبيلة في ذلك، فسيكون من الأنسب تسميته بالنشاط الأولي للمجتمع الأخلاقي والسياسي). مَقصَدي مِن العامل هنا هو ذاك العامِل المتنازِل الذي يُمنَحُ باسمِ الأَجرِ جزءاً زهيداً مما سُلِب وسُرِقَ من بؤساءِ المجتمع الآخَرين، وخاصةً من رَبّاتِ البيوتِ والفتيات العامِلات بلا أَجر. فكيفما أنّ العبدَ والقِنَّ امتدادان لسيدهما وأفنديهما بالأرجح، كذلك، فالعامِلُ المتنازِل امتدادٌ لِرَبِّ العمل في كلِّ زمان. الشرطُ الأول للتحلي بالأخلاق والسياسةِ القويمَين، هو النظرُ بِعَينِ الشكِّ والريبة إلى الاستعبادِ والاستقنانِ والتحول العُمّالي، ومناهضته، وتطويرُ الممارسةِ والأيديولوجية تأسيساً على ذلك. فمثلما أنّ ثالوثَ السيد – الأفندي – رب العمل غيرُ جديرٍ بالثناءِ والمدح، فمن المحال بتاتاً إجلالَ ثالوثِ العبد – القن – العامل كشرائح اجتماعيةٍ فاضلة. أما الموقفُ الأصح، فهو التأسفُ على وضعِهم كشرائحِ المجتمعِ المنحطة، والعمل على تحريرهم بأسرعِ ما يمكن.
الاقتصادُ بماهيته الأساسيةِ هو الممارسةُ التاريخيةُ للمجتمع
ما مِن فردٍ (سيداً كان أم أفندياً أم رب عمل أم عبداً أم قِنّاً أم عامِلاً) أو دولةٍ يُمكِنُه أنْ يَكُونَ ممثِّلاً للممارسةِ الاقتصادية. وعلى سبيلِ المثال، ما مِن فردٍ يمكنه دفعَ ثمنِ عملِ الأمومة التي تُعَدُّ المؤسسةَ الأكثر تاريخيةً ومجتمعيةً بلا نظير، سواءً كان ربَّ عمل أو أفندياً أو سيداً أو عاملاً أو قروياً أو مدينياً. ذلك أن الأمومةَ تُعَدُّ الممارسةَ الأكثر مشقةً والأَلَحَّ ضرورةً بالنسبة للمجتمع، وتُعَيِّنُ استمراريةَ الحياةِ فيه. لا أَوَدُّ الحديثَ عن إنجاب الأطفال وحسب. بل إني أَنظُرُ إلى الأمومة من زاويةٍ فسيحة، باعتبارها ثقافةً، وظاهرةً في حالةِ انتفاضٍ دائمٍ بنبضاتِ فؤادها، وصاحبةَ الممارسةِ المفعمةِ بالذكاء. وهذا هو الصحيح. حسناً، ما دامَ كذلك، تلك المرأةُ الضروريةُ لهذه الدرجة، والتي تعاني المشقات، وتُمارِسُ العملَ المتواصل، والمشحونةُ بهذا الكمِّ من الفؤادِ والعقل، والمنتفضةُ على الدوام؛ بأيِّ عقلٍ أو ضميرٍ تتناسبُ معاملتُها ككادحٍ بلا أَجر؟ كيف للماركسيةِ المعروفة بأنها أيديولوجيةُ الكادحين بلا منافس أنْ تَعرضَ علمَ الاقتصاد وحَلَّه على أنه اجتماعي، مع أنها أَبقَت على أصحابِ الممارسةِ الاجتماعية كالمرأة وأمثالها خارجَ الأَجر، و لم يَخطُروا ببالها قطعياً، وأَجلَسَت غُلامَ وخادِمَ ربِّ العمل في الزاويةِ الرُّكن؟ الاقتصادُ الماركسي اقتصادٌ بورجوازيٌّ بنحوٍ خطير. وهو بحاجةٍ لتقديمِ نقدٍ ذاتيٍّ جدّيّ. فالبحثُ عن الاشتراكية في ساحةِ مصالحِ البورجوازية، دونَ تقديمِ النقد الذاتي بجرأة؛ لا يعني سوى تقديم أثمنِ الخدماتِ للنظام الرأسماليِّ بلا مَقابل، تماماً مثلما لوحِظَ في إفلاسِ حركةِ القرن ونصفِ القرن (الاشتراكية المشيدة) وانهيارِها (بل وتلقائياً). كَم كان لينين صادقاً عندما قال "الطريقُ إلى جهنم مرصوفةٌ بِلَبَناتِ النوايا الحسنة"! تُرى، هل كان نفسُه يتصور أنّ هذه الجملةَ سوف تُؤكِّدُ صحتَها في ممارسته هو أيضاً؟