خلقُ المجتمعاتِ عن طريقِ "هندسة المجتمع"، هو ليس مَهَمَّةَ السياسةِ الديمقراطية...
عبد الله أوجلان
لا يُمكن لاستتبابِ السلامِ أنْ يكتَسِبَ معناه الحقيقي، إلا في حالِ صونِ وضمانِ طابعِ الدفاعِ الذاتيِّ للمجتمعات، أي طابعِها الأخلاقيّ والسياسي. ونخصُّ بالذِّكرِ تعريفَ السلامِ الذي يتطلبُ مثيلَ الجهودِ الدؤوبةِ العظمى لميشيل فوكو، والذي لا يُمكِنُه اكتسابَ تعبيرٍ مجتمعيٍّ مقبولٍ إلا بهذا المنوال. وأيُّ تَحميلٍ آخر للمعنى عليه، لن يعني أكثرَ مِن كونِه فخاً منصوباً باسمِ كلِّ الجماعاتِ والشعوب، واستمراراً لحالةِ الحربِ بأشكالٍ مغايرةٍ مستورة. كلمةُ السلامِ مُثقَلَةٌ بالمصائدِ في كنفِ ظروفِ الحداثةِ الرأسمالية. بالتالي، فاستخدامُها محفوفٌ بالمخاطر، ما لَم تُعَرَّفْ بنحوٍ سليم. وإذا ما عَرَّفناه مرةً أخرى، فالسلامُ لا يعني زوالَ حالةِ الحرب كلياً، ولا حالةَ استتبابِ الأمنِ والاستقرار وغيابِ الحربِ في ظلِّ تَفَوُّقِ طرفٍ واحد. ثمة أطرافٌ عديدةٌ في السلام. والتَفَوُّقُ الحاسمُ لطرفٍ واحد ليس موضوعَ بحث، ويجب ألا يَكُون. ثالثاً، ينبغي إسكاتَ صوتِ السلاحِ على أساسِ رِضى المجتمع، وبموجبِ آلية مؤسساتِه الأخلاقيةِ والسياسية الذاتية. هذه الشروطُ الثلاثة هي أرضيةُ السلامِ المبدئي. ولن يُعَبِّرَ السلامُ الحقيقيُّ عن أيِّ معنى، ما لَم يستند إلى هذه الشروطِ المبدئية.
وإذا ما شَرَحنا هذه الشروطَ الثلاثةَ قليلاً؛ فأولُها لا يرتأي تجريدَ الأطرافِ المعنيةِ مِن الأسلحةِ كلياً. بل يَتَعَهَّدُ بعدمِ شنِّ الهجومِ المُسَلَّحِ على بعضها البعض، أياً كانت ذرائعُها. كما لا يندفعُ وراءَ التفوقِ المُسَلَّح. بل يَقبَلُ احترامَ حقوقِها وإمكانياتها في ضمانِ أمنِها. ثانياً؛ لا يُمكن الحديث عن التفوقِ النهائيِّ لطرفٍ ما. قد يستَتِبُّ الاستقرارُ والسكونُ تحت ظلِّ تَفَوُّقِ الأسلحة، ولكن، يستحيل نعتَ هذا الوضعِ بالسلام. بل لا يَدخُلُ السلامُ جدولَ الأعمالِ إلا في حالِ قَبُولِ الأطرافِ إيقافَ الحربِ بشكلٍ متبادَل، دون تحقيقِ التفوق (بالسلاح)؛ أياً كان الطرفُ المعنيّ (مُحِقاً أم مُجحِفاً). ثالثاً؛ تَعتَرِفُ الأطرافُ المعنيةُ لدى حلِّ القضايا باحترامِها للآليةِ المؤسساتيةِ الأخلاقيةِ (الوجدانية) والسياسيةِ للمجتمعات (أياً كان وضع الطرَفين، مجتمعاً أم سلطة). وضمن هذا الإطارِ يُعَرَّفُ الشرطُ المسمى بـ"الحلِّ السياسي". إذ يستحيلُ تقييمَ أيّةِ هدنةٍ على أنها سلام، ما لَم تَحتَوِ هذا الحلَّ السياسيَّ والأخلاقي.
لدى عملِ مؤسساتِ المجتمعِ الأخلاقية والسياسية، يَكُونُ السياقُ البارزُ للوسطِ – طبيعياً – هو مسارُ السياسةِ الديمقراطية.
تَدخُل السياسةُ الديمقراطيةُ الأجندةَ في ظلِّ شروطِ السلامِ المبدئيةِ تلك، مكتَسِبَةً أهميةً لا استغناءَ عنها. فلدى عملِ مؤسساتِ المجتمعِ الأخلاقية والسياسية، يَكُونُ السياقُ البارزُ للوسطِ – طبيعياً – هو مسارُ السياسةِ الديمقراطية. والأوساطُ الآمِلةُ باستتبابِ السلام، عليها إدراكَ أنه لا يُمكن تحقيق النجاح، إلا إذا أَدّت السياسةُ دورَها على أساسٍ أخلاقيّ. ينبغي على طرفٍ واحدٍ بأقلِّ تقدير أنْ يَكُونَ مُلتَزِماً بالسياسةِ الديمقراطيةِ في السلام. وفي حالِ العكس، فما يتحققُ لن يذهبَ أبعدَ مِن كونِه "لعبةَ سلام" باسمِ الاحتكارات. تؤدي السياسةُ الديمقراطيةُ دوراً مصيرياً في هذه الحالة. إذ ليس بالمقدورِ إنجازَ مرحلةٍ سلميةٍ ذاتِ معنى، إلا على يدِ قوى السياسةِ الديمقراطيةِ تأسيساً على الحوارِ تجاه قوى السلطةِ أو الدولة. وما يتبقى ليس سوى المُضِيُّ وراءَ وَقفٍ زمنيٍّ متبادَلٍ بين القوى المتحارِبة (الاحتكارات)، حيث هناك الإنهاكُ مِن الحربِ والمشقاتُ اللوجستيةُ والاقتصادية. وفي حالِ تلافي هذه المصاعبِ والتغلبِ عليها، تستمرُّ الحربُ إلى أنْ يتحققَ تَفَوُّقُ طرفٍ ما. مِن هنا، لا تُسمى مثلُ هذه الأشكالِ بفترةِ سلام، بل يُمكن تسميتَها بوقفِ إطلاقِ النارِ الهادفِ إلى خوضِ حروبٍ أكثرَ ضراوةً. ولكي يَكُونَ أيُّ وقفٍ لإطلاقِ النارِ سلمياً، فإن إفساحَه الطريقَ أمامَ السلام، وضمانَه بالشروطِ الثلاثةِ التي ذكرناها يتميزُ بأهميةٍ مبدئية.
هندسة المجتمع هو ليس مهمة السياسة الديمقراطية
بالإمكانِ تجسيدَ المَهَمَّةِ الأوليةِ للسياسةِ الديمقراطية في البلوغِ بالمجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ إلى آلياته ووظائفه وفقَ أسسٍ حرة. والمجتمعاتُ القادرةُ على التحلي بهكذا فاعلية، هي مجتمعاتٌ منفتحةٌ وشفافةٌ وديمقراطية. وبقدرِ ما يَتَطَوَّرُ المجتمعُ الديمقراطي، سيَكُونُ بإمكانِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي أيضاً أنْ يَكُونَ فعالاً. وفنُّ السياسةِ الديمقراطيةِ مسؤولٌ عن جعلِ هذا النوعِ من المجتمعاتِ وظيفياً وفعالاً على الداوم. أما خلقُ المجتمعاتِ عن طريقِ "هندسة المجتمع"، فهو ليس مَهَمَّةَ السياسةِ الديمقراطية. فهكذا هندسة هي نشاطُ الليبراليةِ في تكوينِ احتكارِ رأسِ المال والسلطة.
إنّ تَشَكُّلَ وحياةَ المجتمعاتِ على شكلِ أقوامٍ وأممٍ في الحضارةِ الديمقراطية يختلف عما في المدنيةِ الكلاسيكية. فالمدنياتُ الرسميةُ تَصطَلِحُ الأقوامَ والأمم على أنها امتدادٌ للسلالةِ والمجموعةِ الأثنية الحاكمة. أي، تتم رواية القومِ والأمة ممتَنَّةً بالفضلِ للسلالةِ والمجموعةِ الأثنية الرسمية. وبذلك يُطمَس وضعُ المجتمعِ الطبيعي في أحشاءِ تاريخٍ زائفٍ مُلَفَّق. وبتحويلِ الأشخاص البارزين من بين السلالة والمجموعةِ الأثنية الحاكمة إلى أبطال، يَكُونُ قد خُلِقَ آباءُ القومِ والأمة. وخطوةٌ أخرى قَبلَها أو بعدَها تؤدي إلى التأليه. ويتمُّ تناوُلُ التاريخِ بأحدِ المعاني على أنه فنُّ تصنيعِ وابتكارِ أولئك الآباء (الأسلاف) وتأليههم. بينما الحقيقةُ مختلفة. ذلك أنّ طبيعةَ المجتمعِ التي تتطور على شكلِ قبائل وعشائر، تبدأ بالتَّكَوُّنِ كقومٍ وأمة، كلما زادَ استقرارها وتَطَوَّرَت لغتُها وثقافتُها المشتركة، وكلما حافَظَت على هويةِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي الكامنةِ فيها. أي أنّ المجتمعاتِ لا تُولَدُ بهويةِ القومِ والأمة منذ البداية. ولكنها لَم تَقتَرِبْ كثيراً من هويةِ القومِ إلا في العصورِ الوسطى، ومن هويةِ الأمة إلا في العصرِ القريب.
القومُ ضربٌ من ضروب لوازمِ هويةِ الأمة. حيث يُشاهَد تَحَوُّلُ الأقوامِ إلى أممٍ بطريقَين اثنَين تماشياً مع العصر الحديث. إذ يُلاحَظ أنّ المدنيةَ الرسميةَ سَعَت لتحويلِ التعصب القوميِّ إلى نزعةٍ قومويةٍ عصرية، وعَمِلَت الدولةُ على إبرازِ البورجوازيةِ والشكل الجديدِ لمجتمعِ المدينةِ باعتبارهما أمةَ الدولة. مجموعةٌ أثنيةٌ حاكمةٌ تؤدي دورَ النواةِ الأساسية. بحيث تُعَمِّمُ هويتَها على جميعِ الأمة. بل وحتى أنّ القبائلَ والعشائر والأقوامَ والأمم ذات الهوياتِ المغايرة للغاية، تُخضَع لعمليةِ الصهر عنوةً في بوتقةِ لغةِ وثقافةِ تلك المجموعة الأثنيةِ المسيطرة. هذا هو الطريقُ المسمى بـ"التحويل الوحشي إلى أمة". وقد طُبِّقَت هذه المجزرةُ الثقافية الأشنع في التاريخ على كافةِ لغاتِ وثقافاتِ القبائل والعشائرِ والأقوام والأمم من خلال مواقفِ المدنيةِ الرسمية تلك. من هنا، يأتي هذا النمطُ من الأقوام والأممِ في مقدمةِ العناصرِ الواجب التركيز عليها بالأكثر في إنشاءِ الحضارةِ الديمقراطية باعتبارها تاريخاً ونظاماً.
السبيلُ الثاني في التحولِ إلى أمة يتحققُ بتحويلِ المجموعات المتمايزة أو المتشابهةِ في اللغةِ والثقافة إلى مجتمعٍ ديمقراطيٍّ ضمن نطاقِ المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي، وذلك على أساسِ السياسةِ الديمقراطية. وفي هذا التحولِ إلى أمة، تَحتلُّ جميعُ القبائلِ والعشائر والأقوامِ وحتى العوائل مكانَها كمُكَوِّناتٍ قائمةٍ بذاتها ضمن المجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي، ناقِلةً غِناها في لَهَجاتِها وثقافاتِها إلى الأمةِ الجديدة. وفي هذه الأمةِ الجديدة، لا مكانَ بتاتاً لطغيانِ أو هيمنةِ طابعِ مجموعةٍ أثنيةٍ، أو مذهب، أو عقيدة، أو أيديولوجيةٍ ما بمفردِها. ذلك أنّ التركيبةَ الجديدةَ الأغنى هي تلك التي تتحققُ طوعياً. بل وحتى بمقدورِ العديد من المجموعات اللغويةِ والثقافية المختلفة العيشَ كمجتمعاتٍ ديمقراطيةٍ على شكلِ وحدةٍ Birim عُليا مشتَرَكةٍ لجميعِ الأمم، وكهويةِ أمةِ الأمم بوساطةِ السياسةِ الديمقراطية نفسها. هذا هو الطريقُ المناسب للطبيعةِ الاجتماعية. أما في أسلوبِ أمةِ الدولة، فعلى أساسِ مواقفِ الحداثة الرأسمالية، وبحالتها المُتَجَرِّدةِ من المجتمع الطبيعيِّ بنسبةٍ كبيرة، فهي تَحيا بوصفها "لغة واحدة، أمة واحدة، وطناً واحداً، ودولة واحدة (مركزية)"، لِتُكَوِّنَ ذاتَها على نمطِ نسخةٍ علمانيةٍ جديدةٍ معدَّلةٍ من المفهوم القديمِ ذي الدين الواحد والإلهِ الواحد؛ متحولةً بالتالي إلى شكلٍ جديدٍ لاحتكارِ رأسِ المالِ والسلطة والدولة في الوقتِ نفسه. بمعنى آخر، فأمةُ الدولةِ تُعَبِّرُ عن حقيقةِ كونِ احتكارِ رأسِ المال والسلطة في مرحلةِ التحولِ الرأسماليِّ متموقعاً في المجتمعِ مِن قمةِ رأسه حتى أخمصِ قدمَيه، مستغِلاً المجتمعَ وصاهِراً إياه في بوتقته. وهي الشكلُ الذي تتحققُ فيه ظاهرةُ السلطةِ القصوى والاستغلالِ الأقصى. إنها تعني تَركَ المجتمعِ للموتِ بتجريده من كافةِ أبعاده الأخلاقيةِ والسياسية، وبِتَنمِيلَ الفرد، وبالتالي خلقِ المجتمعِ الرعاع الفاشي. تؤدي المؤثراتُ التاريخيةُ والأيديولوجية والطبقيةُ الغائرة، وعواملُ رأسِ المالِ والسلطةِ دورَها في ظلِّ هذا النموذجِ الأكثر شذوذاً عن الطبيعةِ الاجتماعية. وقد تَحَقَّقَت الإباداتُ العرقيةُ كحصيلةٍ مشتركةٍ لمجموعِ تلك المؤثرات.
إنّ تَواجُدَ كياناتِ الأمةِ واندماجَها مع بعضها ضمن نظامِ الحضارةِ الديمقراطية، هو الترياقُ المضادُّ لاحتكاراتِ رأسِ المال والسلطة، والسبيلُ الرئيسيُّ للقضاءِ كلياً على عللِ وأسبابِ الفاشيةِ والإبادة العرقية (التورم السرطاني للمجتمع). مرةً أخرى، يَظهَر أمامنا تواؤُمُ وتناغُم الطبيعة الاجتماعيةِ مع طابعِ الحضارة الديمقراطية.