تجذّرَت القضايا الأساسيةُ للمجتمعِ الكرديِّ وتعاظَمَت تأسيساً على الحداثةِ الرأسمالية...
عبد الله أوجلان
يكمنُ تحقُّقُ الهرميةِ والمدينةِ والطبقةِ والدولةِ المتناميةِ في أحشاءِ المجتمعِ النيوليتيِّ وراء بروزِ القضيةِ الكرديةِ الراهنةِ ضمن الهلالِ الخصيب، الذي لمَ يَحيَ عليه الكردُ وحسب، بل وربما قطَنَه السوادُ الأكبرُ من البشريةِ أيضاً. فالمدنيةُ السومريةُ في ميزوبوتاميا السفلى (3000 – 2000 ق.م) أُنجِزَت بمعنى من المعاني كحلٍّ للقضايا الاجتماعيةِ التي تمخضَ عنها المجتمعُ النيوليتيُّ البارزُ للوسطِ في ميزوبوتاميا العليا. أما تلك القضايا، فكانت تأتي من التزايدِ السكانيِّ وضيقِ مساحةِ الأراضي وازديادِ النزاعاتِ والعِراكات. إذ قامَ الكهنةُ السومريون في ميزوبوتاميا السفلى بالبحثِ عن ردودٍ تاريخيةٍ لتلك القضايا، من خلالِ إيجادِهم الدولةَ والطبقةَ والدولةَ المتمحورةَ حول المعبد، وذلك اعتماداً على حُكَمائِهم النابغين، وبالاستفادةِ من جميعِ العناصرِ الماديةِ والمعنويةِ للثقافةِ النيوليتيةِ التي اقتاتوا منها. وقد تَبدّى للعيانِ بدايةً أنهم لَم يَكونوا على خطأ. وكأنّ العصرَ الجديدَ المستندَ إلى ثالوثِ المدينةِ والطبقةِ والدولة، كان بمثابةِ حلٍّ معجزويٍّ خارقٍ للقضايا العالقةِ آنئذ. وميثولوجيا ذاك العصرِ لَم تَكُنْ تُعَبِّرُ عبثاً عن نظامٍ إلهيٍّ جديدٍ ربما كان بدايةً جديدةً لجميعِ الأحداثِ اللاحقةِ في التاريخِ البشريّ. كانت معجزةُ الثورةِ النيوليتيةِ قد صُيِّرَت معجزةَ المدنية. والنظامُ المُشادُ ربما كان الأطولَ من نوعِه والأقوَمَ بُنياناً طيلةَ سياقِ التاريخ. لكنه، ومع نضوجِ التناقضاتِ التي بين ثناياه وتجذُّرِها، لَم يتخلفْ هذه المرة عن أداءِ دورِ المُوَلِّدةِ الأولى لقضايا اجتماعيةٍ جديدة. هذا وتنصُّ أولى الوثائقِ المدوَّنةِ أيضاً على أنّ القضايا الاجتماعيةَ برزت بأنقى أشكالِها في التاريخِ ضمن المجتمعِ السومريّ. وما حالاتُ سوءِ التفاهمِ والتنافرِ المتجليةِ بين الآلهةِ أنفسهم من جهة، وبين الآلهةِ والعبيدِ من جهةٍ أخرى في حقيقةِ الأمر، سوى انعكاسٌ للقضايا الاجتماعية، وللتناقضاتِ بين أصحابِ السلطةِ من جانب، وللصراعاتِ والمشاحناتِ بين أصحابِ السلطةِ والناسِ الذين يستخدمونهم عبيداً لهم من الجانبِ الثاني. من هنا، فالمجتمعُ السومريُّ الذي تركَ بصماتِه على الكثيرِ من البداياتِ في التاريخ، إنما يمثلُ بدايةً لا نظيرَ لها من حيث القضايا التي أسفرَ عنها أيضاً.
بالمقدورِ عَزوُ أولى القضايا الاجتماعيةِ الجادةِ التي عانَت منها المجموعاتُ الكرديةُ الأصيلةُ إلى المدنيةِ السومرية. وبالأصل، فقد حُبِكَت ملحمةُ كلكامش تأسيساً على هذه القضايا. فسواء ثقافةُ آل عُبَيد الهرمية (4500 – 3500 ق.م)، أم ثقافةُ أوروك المَدينية (3500 – 3000 ق.م)، كانتا مُرغَمتَين على توسيعِ ذاتَيهما على الدوامِ باتجاهِ الشرقِ والشمال. وباعتبارِهما أولَ كيانَين ثقافيَّين متمحورَين حول المدينةِ والطبقةِ والدولة، فقد كانتا مُضطرتَين إلى التغذي من المجتمعِ النيوليتيِّ الموجودِ على كِلا الاتجاهَين للتمكنِ من العيش. وهذه الضرورةُ الاضطراريةُ جلبَت معها الاشتباكَ والتنازع. أما العلاقةُ بين ثنائيِّ كلكامش وأنكيدو، فتَعكسُ وتشيرُ إلى الإشكاليةِ المعضلةِ الكامنةِ في أول علاقةٍ نموذجيةٍ للاستعمارِ الإمبرياليِّ في التاريخ. والمجموعاتُ الكرديةُ العريقةُ تفيدُ بالمقاومةِ متمثلةً في شخصِ هومبابا (خمبابا) ضد العلاقةِ الاستعماريةِ الإمبريالية. ويتسترُ في أساسِ القضيةِ الحفاظُ على الحياةِ الحرةِ الناضحةِ بالمساواةِ في المجتمعِ النيوليتيِّ إزاء الحياةِ المدينيةِ والطبقيةِ والدولتية. إذ يُأتى بأنكيدو أسيراً إلى مدينةِ أوروك، ويُرَوَّض، ويستَخدَمُ ضمن مجتمعِ المدينةِ كمتواطئٍ عميلٍ ضد المجموعاتِ التي ينحدرُ منها.
ثابرَت القبائلُ الهوريةُ على المقاومةِ والتصدي لصعودِ حضارةِ المدينة. هذه المقاوماتُ المرتكزةُ إلى سلسلةِ جبالِ زاغروس، تدلُّ على مدى استفحالِ وديمومةِ القضايا الاجتماعية. أما الكوتيون، فيعبِّرون عن البنيةِ الكونفدراليةِ لأولى القبائلِ التي تنحدرُ أصولُها من جبالِ زاغروس، والتي سجَّلَت اسمَها على صفحاتِ التاريخِ بإحرازِها الانتصارِ في وجهِ الحُكّامِ السومريين. كما ونرصدُ عن كثبٍ في تلك الحقبةِ أولَ مثالٍ لحالاتِ انصهارِ الغالبين في بوتقةِ ثقافةِ المغلوبين السائدةِ والمسيطرة، والتي ستنتصبُ أمامَنا لاحقاً على مدارِ تاريخِ المدنية. بينما المهيمنون الذين أبرَزَهم فنُّ الحربِ إلى الوسط، عزَّزوا النظامَ الحاكمَ دون انقطاع. فبينما دارت المساعي لحلِّ القضايا، فقد أدت إلى استشرائِها وتعاظُمِها ضمن مفارقةٍ وتناقضٍ ظاهريّ. ذلك أنّ السلطةَ تمهدُ السبيلَ إلى مزيدٍ من السلطة، والدولةَ تفسحُ المجالَ أمام مزيدٍ من الدولة، لتتضخمَ القضايا بدورِها وتتضاعف.
شهدَت الهيمنتان البابليةُ والآشوريةُ اللتان ورثتا تقاليدَ السلطةِ من السومريين فيما بين 1950 ق.م و600 ق.م وضعاً مشابهاً لدى توسيعِها النظامَ أفقياً وعامودياً. فنظراً لكونِ تلك القضايا الناجمةِ من المدينةِ والطبقةِ والدولةِ – السلطةِ تفاقمَت اتساعاً وعُمقاً، فالبحثُ عن الحلِّ أيضاً جرى ضمن نفسِ الدوامةِ العقيمةِ وبمنوالٍ أوسعَ نطاقاً وأكبرَ عُمقاً. لكن، وبينما أفضى الاتساعُ إلى الإمبرياليةِ والاستعمار، فقد أفسحَ التعمقُ أمام مزيدٍ من التحولِ الطبقيِّ والاستغلال. ومن ثمّ سوف تظلُّ آليةُ ذلك النظام الذي سيتعاظمُ مُكَرِّراً ذاتَه حتى يومِنا الراهنِ كما هي عليه: تطويرُ البنيةِ الإمبرياليةِ الاستعماريةِ خارجياً، وتأسيسُ النفوذِ والسيطرةِ الطبقيةِ داخلياً. هكذا، باتَ الغالبُ والمغلوبُ على السواءِ ضحيةَ النظامِ عينِه. ومقابل ذلك، فدوامةُ الكردِ الأصليين في المقاومةِ والتصدي للمدنيةِ استناداً إلى سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس، ستُطَوِّرُ آليتَها الحرةَ التي ستتعاظمُ وتتكررُ إلى يومِنا بنحوٍ متواصل. وسيتنامى أكثر فأكثر وعيُ القبائلِ والعشائرِ على خلفيةِ آليةِ الحريةِ للمقاومةِ والصمود، وسيتَّسعُ نطاقُ تنظيمِهم، وسيسعى بالتالي مزيدٌ من القبائلِ والعشائرِ للبقاءِ أحراراً. أي أنّ دياليكتيكَ النشوءِ ينشطُ في كِلتا الآليتَين، ويُعَظِّمُ كِلا النشاطَين الدياليكتيكيَّين من نفسَيهما على الدوام.
إنّ ردَّ الكردِ الأصليين على قضايا المدنيةِ المحتدمةِ مع الهيمنتَين البابليةِ والآشوريةِ النابعتَين من التوسعِ الثقافيِّ السومريّ، قد عَكسَ ذاتَه في تقاليدِ مازدا – ميترا والشريعةِ الزرادشتية. الأساسُ في جوهرِ هذه التقاليدِ ليس تبنيَ الثقافةِ السومريةِ كما هي، بل إطراءُ التحويلِ عليها وسردُها خلاقيتَها الخاصة. التحولُ هنا تاريخيّ. هذه التقاليدُ هي التي مَكَّنَت لظهورِ التقاليدِ الإغريقيةِ – الرومانيةِ الثقافية. ورغم أنها لَم تتمكنْ من تقويضِ دوغمائيةِ المجتمعِ العبوديّ وتدميرِها ضمن سياقِ التاريخِ البشريّ، إلا إنها تتسمُ بتفوقِها الذي يُؤَهِّلُها لتطويعِها، وكسرِ شوكتِها، ولتقديمِ بدائل جديدةٍ بين الحين والآخر. حيث قفزَت بالإنسانِ والأخلاق، وبالتالي بالإرادةِ إلى مستوى أرفع وأرقى، وتَعقدُ عُرى حريةِ الإنسانِ مع الأخلاقِ والإرادة. هكذا، فالبشريةُ التي كانت سابقاً مجردَ حشدٍ غفيرٍ من العبيدِ البسطاء وبمثابةِ العدمِ في عينِ الآلهةِ والآلهةِ – الملوك، قد اكتسبَت مزايا مفعمةً بالحريةِ المنتفضةِ للتعبيرِ عن إرادتِها وإعادةِ إنشاءِ أخلاقِها مجدَّداً. من هنا، فالثقافةُ البارزةُ على حوافِّ جبالِ زاغروس، والجوابُ الزرادشتيُّ على وجهِ الخصوصِ يتصفُ بأهميةِ مصيريةٍ من جهةِ استيعابِ وإدراكِ قضايا ذاك العصرِ الأساسية.
بالمقدورِ تحليلُ الجوابِ الإسلاميِّ المُعطى رداً على القضايا الناجمةِ من المدنيةِ عن كثبٍ أكثر. حيث يمكنُ تفسيرُ الإسلامِ بأنه أساساً جوابٌ ثوريٌّ للقضايا الاجتماعيةِ المتكاثفةِ طردياً مع تفاقمِ تأثيرِ المدنياتِ البيزنطيةِ والساسانيةِ والحبشية، التي تُمثلُ بُؤرتَين أو حتى بُؤراً ثلاثاً لقوى الهيمنةِ في ذاك العصر، وإحاطتِها بالحياةِ القَبَلِيّةِ في شبهِ الجزيرةِ العربيةِ من الجهاتِ الأربع. تلك المدنياتُ التي تُعَدُّ آخِرَ ممثلي ثقافةِ العصورِ القديمة، دعكَ من كونِها جواباً للقضايا المستشريةِ للغايةِ على مدارِ العصورِ الأولى برمتِها، بل إنّ دورَها لَم يَكُنْ يتعدَّى مُضاعفةَ نشرِ وتجذيرِ القضايا في مساحاتٍ أوسع. من هنا، بالوسعِ النظرُ إلى تقاليدِ الجوابِ الدينيِّ الإبراهيميِّ على أنه أساساً طرازُ حلٍّ خاصٍّ بذاتِه للقضايا الناجمةِ من ثقافةِ الإلهِ –المَلِكِ للعصورِ الأولى. هذا وبالمستطاعِ تفسيرُ الفترةِ الممتدةِ من إبراهيم إلى موسى بأنها مرحلةُ البحوثِ والردودِ النَّبَوِيّةِ للقضايا المتمخضةِ من المجتمعِ المحصورِ بين فكَّي فراعنةِ مصر (الملوك الذين يزعمون أنّهم آلهة) ونماردةِ بابل وآشور ذوي الأصولِ السومرية (الآلهة – الملوك في ذاك العصر). وبالرغمِ من كلِّ خصوصيتِه القائمةِ بذاتِها، إلا إنّ الجوابَ الموسويَّ لَم يذهبْ أبعدَ من التحولِ إلى مملكةٍ إسرائيليةٍ صغيرةٍ رداً على قضايا القبيلةِ العِبرية. فهذه المملكةُ التي تَعكسُ ذاتَها عبر تصويرَي داوود وسليمان خصيصاً، ما هي إلا جميعةٌ فظةٌ من الثقافتَين البابليةِ والمصرية، وتعبيرٌ عن حكايةِ مملكةِ الشريحةِ العليا.
تُعَدُّ الشريعةُ العيسويةُ بالنسبةِ إلى الفقراءِ المقهورين والعبيدِ وشرائحِ العاطلين عن العملِ والمتسكعين جواباً على قضايا التقاليدِ القديمةِ السائدةِ في المجتمعِ العبوديِّ التي استشرَت وتثاقلَت بأبعادٍ عملاقةٍ في عصرِ الإمبراطوريةِ الرومانية. تميزَ تنافرُ وخِلافُ المسيحيةِ مع الموسويةِ بالطابعِ الطبقيِّ في بداياتِه. فالتصدُّعُ والثغرُ الذي فتَحَته روما داخل القبائلِ العِبريةِ وضمن ثقافاتِ القبائلِ المجاورةِ الأخرى على حدٍّ سواء، قد عَكَسَ نفسَه على شاكلةِ انقطاعٍ دينيٍّ جديد. ونشوءُ التقاليدِ العيسويةِ في المجالِ الذي تجذرَت فيه تقاليدُ التمردِ والعصيان وتكاثفت فيه القضايا الاجتماعيةُ للعصورِ الأولى بالأكثر، إنما كان بمثابةِ القفزِ على العصرِ في تاريخِ البشرية، ولو ليس بالقدرِ الذي كانت عليه التقاليدُ الزرادشتية. ذلك أنّ المسيحيةَ قدَّمَت ذاتَها جواباً للقضايا المُعاشةِ في جميعِ الثقافاتِ القَبَلِيّة. وهكذا، تَكَوَّنَت مجتمعاتُ المجموعاتِ الدينيةِ التي تتعدى لأولِ مرةٍ نطاقَ المجتمعاتِ القَبَلِيّةِ بمنوالٍ شاملٍ وبدرجةٍ يستحيلُ محوُها. إذ يُعتَبَرُ الناسُ من جميعِ القبائلِ والأثنياتِ أعضاءً مُبَجَّلين في الدين الجديد. وهذه مرحلةٌ هامةٌ على صعيدِ المجتمعية. فما يجري هنا هو قيامُ المجموعاتِ الشعبيةِ بعكسِ ذاتِها على مسرحِ التاريخِ بنحوٍ أكثر رسوخاً وعلانية. وقد عرضَ الأرمنُ والسريانُ والإغريقُ واللاتينيون أنفسَهم على المسرحِ من خلالِ المسيحيةِ أكثر من غيرِها.
الدينُ المحمديُّ جوابٌ تاريخيٌّ للقبائلِ العربيةِ المحصورةِ دوماً من الجهاتِ الأربعِ على يدِ ممثلي استبداديةِ العصورِ القديمةِ العاجزةِ عن حلِّ قضايا نفسِ التقاليد، والمُفَرَّغةِ من مضمونِها منذ أمَدٍ بعيد. وما يعكسُ هذه الحقيقةَ هو إعلانُ سيدِنا محمدٍ أنّ عمرَ الموسويةِ والمسيحيةِ اللتَين قَبِلَ بأنهما دِينَا حقٍّ قد انتهى، إلى جانبِ مناداتِه بالتمردِ على أباطرةِ الحبشةِ والساسانيين والبيزنطيين. فلا اليهوديةُ ولا المسيحيةُ تمكنتا من صياغةِ جوابٍ لقضايا المجموعاتِ العربيةِ القَبَلِيّةِ التي بلغَت ذروتَها وطفحَت داخلياً وخارجياً على السواء. حيث أضاعَت اليهوديةُ والمسيحيةُ السائدتان في تلك الفترةِ مضمونَهما الثوريَّ منذ زمنٍ طويل، لتتحولا إلى قومويةٍ قَبَلِيّةٍ وقوميةٍ متزمتة. فالمشاكلُ والمشاحناتُ والنزاعاتُ التي شهدَتها الممالكُ الحبشيةُ والبيزنطيةُ والساسانيةُ بين صفوفِها وفيما بينها على السواء بوصفِها آخرَ ممثلٍ لاستبداديةِ الإلهِ – المَلِكِ التقليدية، قد أخارَت قواها وجعلَتها لا لزومَ لها. بناءً عليه، من المفهومِ قيامُ سيدِنا محمدٍ بصياغةِ شريعةٍ دينيةٍ جديدةٍ لتلبيةِ مطلبِ الاستيلاءِ على ديارِ الجنةِ والطمعِ في الفتحِ والغزو، والذي تطلعَت إليه الشرائحِ العليا من قبائلِ الصحراءِ المفعمةِ بنسيمِ الحرية.
تتسمُ الشريعةُ الإسلاميةُ بخاصيةِ إنشاءِ ذاتِها بَعد أخذِها بعينِ الاعتبارِ حقيقةَ القبيلةِ العربيةِ وحقيقةَ المدنيةِ أثناء ظهورِها في آنٍ معاً. وأبدَت مهارتَها أيديولوجياً وسياسياً في جمعِ الخيارَين الثقافيَّين في تركيبةٍ جديدةٍ واحدة، أي خيار ثقافةِ القبيلةِ المقهورةِ وخيار ثقافةِ المدينةِ والطبقةِ والدولةِ لدى الشرائحِ الفوقية. ومدينةُ مكة الكائنةُ على طرقِ الانتقالِ والعبورِ آنذاك، تتسمُ بملاءمتِها وتفوقِها لكونِها مكاناً تواجهَت فيه الثقافتان واندمجتا ضمنه أكثر من غيرِه. وتتأتى الأهميةُ التاريخيةُ لسيدِنا محمد من صياغتِه لهذه الجميعةِ بنجاحٍ موفقٍ وطبعِها بمُهرِه. وأهمُّ نتيجةٍ تمخضَت عنها الثورةُ الإسلاميةُ على الصعيدِ الاجتماعيّ، هي تأمينُها الانتقالَ من المجتمعِ القَبَلِيِّ المتصلبِ صوب مجتمعِ أمةٍ مختلفٍ ومغاير. والانتقالُ من المجتمعِ ذي التقاليدِ القَبَلِيّةِ المُعَمِّرةِ آلافَ السنين في منطقةٍ معزولةٍ كشبهِ الجزيرةِ العربيةِ صوبَ مجتمعِ الأمة، إنما هو ثورةٌ اجتماعيةٌ كبرى. والطبقةُ الاجتماعيةُ الجديدةُ كانت تحتضنُ ثنائيةً قرينةً بين طواياها منذ البداية. فميولُ الشريحةِ العليا الموروثةِ من الأرستقراطيةِ القَبَلِيّةِ في التحولِ إلى طبقةٍ دولتية، ظلت على صراعٍ وتنافرٍ دائمٍ مع ميولِ الشريحةِ المقهورةِ وطموحِها في المساواةِ والديمقراطية. لقد كانت ملامحُ القضيةِ الاجتماعيةِ تُرسَمُ مجدَّداً وعلى نطاقٍ أعمّ. وهذه الإشكالياتُ والصِّداماتُ الجديدةُ المبتدئةُ مذ كان سيدُنا محمدٌ على قيدِ الحياة، سوف تستمرُّ تداعياتُها إلى يومِنا الراهن.
انكشفَت هذه الثورةُ الاجتماعيةُ الأعظمُ في العصورِ الوسطى عن تداعياتِها فوراً بين صفوفِ المجموعاتِ الكرديةِ الأصيلةِ أيضاً. فميولُ الغزوِ لدى الأرستقراطيةِ العربيةِ من جهة، وتطلعُ الشريحةِ الكرديةِ الفوقيةِ إلى الدولةِ والسلطةِ من الجهةِ الأخرى، قد طوَّرَ مجتمعِ الأمةِ بين الكردِ أيضاً ضمن سياقِ فترةٍ طويلةٍ كانت مشحونةً بالعلاقاتِ والصراعات. لقد كان مجتمعُ الأمةِ الجديدُ أيضاً إشكالياً، على غِرارِ الحالةِ العامة. وعكسَت ميولُ المدينةِ والطبقةِ والدولةِ وميولُ المساواةِ والديمقراطيةِ نفسَها في هيئةِ مذاهب وطرائق متباينة. وكلما طبعَ ممثلو هيمنةِ السلطةِ الإسلامويةِ مجتمعَ الأمةِ بطابعِهم، كلما لجأَت من الأسفلِ الطرائقُ الصوفيةُ والكردُ العَلَويون والزرادشتيون المتشبثون بتقاليدِهم القديمةِ كذريعةٍ للوجودِ والبقاء، إلى الإصرارِ على تطويرِ جماعاتِها المقاوِمةِ والمتصديةِ الخاصةِ بها. وإلى جانبِ تشكُّلِ ظاهرةٍ بمقدوري تسميتُها بالمجتمعِ الكرديّ، فقد ثابرَت على مواصلةِ وجودِها على شكلِ طبقاتٍ ومستويّاتٍ متجزئةٍ ومنقسمةٍ ومغتربةٍ عن بعضِها البعضِ إلى أبعدِ حدّ. كانت القضايا الاجتماعيةُ تعكسُ ذاتَها بالأكثر في هيئةِ طرائق مختلفة. وكانت الصراعاتُ القائمةُ بين المدينةِ والريفِ تتصاعدُ بالتداخلِ مع الانقساماتِ الطبقية. هكذا، بات كلُّ شيءٍ في العصورِ الوسطى أكثر انقساماً وإشكاليةً مما كان عليه في العصورِ الأولى. وبالإضافةِ إلى مشاكلِ الاستقرارِ – الترحالِ التي كانت تعاني منها القبائلُ والعشائر، زادَت عليها القضايا النابعةُ من الانقسامِ الطبقيِّ في المدينة، والمرتكزةُ إلى صراعِ المدينةِ والقرية. فبينما كانت الشرائحُ العليا في القبائلُ تتكاثفُ وتتركزُ على شكلِ دولة، كانت أجزاءُ القبائلِ المقهورةِ المزدادةُ صِغَراً تتحولُ إلى قبائل بائسةٍ ومحرومةٍ جديدة. وأضحت ثقافةُ الحياةِ المستندةِ إلى القريةِ تضمحلُّ وتنحسرُ في وجهِ ثقافةِ الحياةِ المستندةِ إلى المدينة. وكانت الشروخُ والصراعاتُ الاجتماعيةُ تتفاقمُ ضمن مجتمعِ المدينة. وفي المحصلةِ كان يُبحَثُ عن حلٍّ لكلِّ هذه النزاعاتِ ضمن جهازِ الدولةِ المترسخِ أكثر فأكثر. أما الدولة، فكانت تعني بدورِها مزيداً من السلالاتِ المتطلفةِ والقضايا المتكاثرة. هكذا، حُكِمَ على مجتمعِ العصورِ الوسطى بالدورانِ في دوامةِ قضايا اجتماعيةٍ من هذا القبيل.
لَم يَكُ المجتمعُ الكرديُّ في العصورِ الوسطى قد شكَّلَ بَعدُ نخبتَه السلطويةَ الراسخة، على خِلافِ النخَبِ السلطويةِ العربيةِ والفارسيةِ والتركية. لَم يَكُن قادراً على إيجادِ الحلِّ لقضاياه الأوليةِ من خلالِ مملكةٍ مركزيةٍ متحدة، ولا قادراً على العيشِ ضمن المجتمعِ القَبَلِيِّ القديمِ التقليديِّ الجامدِ والمتشرذمِ المنغلقِ على ذاتِه. لذا، غالباً ما كان يسعى إلى إيجادِ حلٍّ للقضايا المتولدةِ من هذا التناقضِ عبرَ مجتمعاتِ الجماعاتِ المذهبيةِ والطرائقية. بينما كانت الزرادشتيةُ تتشتتُ وتضعفُ رويداً رويداً، وكانت العَلَويةُ تحافظُ على وجودِها في المناطقِ الجبليةِ العسيرةِ على الفتحِ دون غيرِها من المناطق. أما الإسلامويةُ السلطويةُ المسيطرةُ على شعبِ المدينةِ والسهل، فكانت استغلاليةً إلى أبعدِ حدّ. فممثلو السلاطين والإماراتُ المحليةُ كانوا قد أَغرَقوا المجتمعَ في قضايا يصعبُ النفاذُ منها. والحالُ هذه، فما كان قائماً هنا ليس حلاً للقضايا بقدرِ ما كان هروباً منها. بالتالي، فنزعةُ الأمةِ والطريقةِ الدينيةِ التي لُجِئَ إليها على أنها الحلّ، سرعان ما كانت تتحولُ إلى وسائل للهروبِ من الحقيقةِ الذاتيةِ والاغترابِ عن النفس. بإمكاننا القولُ أنّ دياليكتيكَ العصورِ الوسطى كان يَعكسُ نفسَه بفاعليةٍ ومنوالٍ كهذا بالخطِّ العريض.
تجذّرَت القضايا الأساسيةُ للمجتمعِ الكرديِّ وتعاظَمَت تأسيساً على الحداثةِ الرأسمالية. فالحداثةُ بِحَدِّ ذاتِها كنظام، تعملُ على حبسِ المجتمعِ في قفص، بكلِّ ميادينِه ومن جميعِ الجهات. والحبسُ في القفصِ يعني بدورِه تصييرَ المجتمعِ برمتِه إشكاليةً عُضالاً. إذ لا مفرّ من تأسيسِ نظامِ قمعٍ واستغلالٍ شامل، وبسطِه على المجتمع، بغيةَ التمكنِ من تنشيطِ وتفعيلِ قانونِ الربحِ الأعظميّ. إلا إنّ نظامَ القمعِ والاستغلالِ ذاك يختلفُ عُمقاً واتساعاً عما كان عليه في العصورِ الأولى والوسطى. فالمسافةُ بين فائضِ القيمةِ اللازمِ لتغذيةِ سلالةٍ مَلَكِيّةٍ في العصورِ القديمةِ وفائضِ القيمةِ اللازمِ لآلافِ الاحتكاراتِ الصناعيةِ في العصرِ الرأسماليّ، ليست فارقاً بسيطاً، بل هُوّةٌ شاسعة. وكافةُ التدابيرِ الاحتياطيةِ المُتّخَذةِ أيديولوجياً وسياسياً واقتصادياً، بهدفِ عدمِ تحولِ الرأسماليةِ إلى نظامٍ مسيطرٍ طيلةَ سياقِ التاريخ، إنما كانت بدافعِ الخوفِ من استحالةِ التحكمِ بهكذا نمطٍ من الاستغلالِ وضبطِه. إذ ما كان للمجتمعِ تحمُّلُ الرأسماليةِ كنظامٍ سائد، ولا الصمودُ في وجهِها في تلك الحقبة. والمؤثرُ الأوليُّ في ذلك يَعودُ إلى افتقارِ طرازِ الاستغلالِ الرأسماليِّ إلى مُرادِفٍ يُخَوِّلُه للاستمرارِ بنفسِه ضمن الطبيعةِ الاجتماعيةِ والبيئة. أما السلاحُ الفتاكُ الذي تستحوذُ عليه الرأسماليةُ لتحقيقِ ذاتِها كنظامٍ حاكم، فهو تحويلُها سلطةَ الدولةِ إلى سلطةِ دولةٍ قومية. والدولةُ القوميةُ بذاتِ نفسِها غيرُ ممكنة، إلا بتغلغُلِ السلطةِ حتى أدقِّ الأوعيةِ الشَّعريةِ للمجتمع. ومجتمعٌ تسللَت فيه السلطةُ حتى أدقِّ أوعيتِه الشعرية، لا يقتصرُ على الاختناقِ بالقضايا الإشكاليةِ حتى النخاعِ وحسب، بل ويَغدو محكوماً عليه بالتمزقِ إرباً إرباً ثم التبعثرِ والتناثر. أي إنّ المجتمعَ في كنفِ الدولةِ القوميةِ محبوسٌ كلياً داخل القفص. هكذا، فحدودُ الوطن، الجيشُ الوطنيّ، البيروقراطيةُ المدنيةُ المركزية، الحُكمُ المركزيُّ والإدارةُ المحلية، السوقُ الوطنية، السيطرةُ الاقتصاديةُ الاحتكارية، العُملة الوطنية، جوازُ السفر، هويةُ المواطَنة، أماكنُ العبادةِ القومية، المدرسةُ الابتدائية، اللغةُ الواحدة، ورموزُ العَلَم؛ كلُّ ذلك يُوَلِّدُ بنحوٍ كلياتيٍّ متحدٍ نتيجةً أوليةً من قبيلِ توظيفِ قاعدةِ الربحِ الأعظميِّ للرأسماليةِ وتسليطِها على المجتمع. هذا السياقُ الذي يُعَرِّفُه سوسيولوجِيُّو الحداثةِ بأنه تجاوُزٌ للمجتمعِ التقليديِّ ونشوءُ المجتمعِ الحديثِ المتجانس، والذي يُقدمونه على أنه مؤشرٌ للتقدمِ والرقيّ؛ يفيدُ في مضمونِه بالمجتمعِ المحبوسِ حتى الأعماقِ داخل قفصٍ حديديٍّ مُقفَلٍ عليه. والمجتمعُ المحبوسُ في القفصِ لا يُطلَقُ سراحُه، إلا عندما يُرَوَّضُ تماماً وفق قواعدِ الرأسمالية. وإطلاقُ السراحِ هذا المسمى بالليبرالية، لا يُعَبِّرُ في فحواه عن شيءٍ سوى العبوديةِ المعاصرة. أما الطرفُ المقابلُ للإصرارِ على الحريةِ ضمن مجتمعِ عصرِ الرأسمالية، فهو الفاشيةُ التي هي اسمُ النظامِ الدمويِّ والاستغلاليِّ إلى أقصى حدّ. والأكثرُ واقعيةً هنا هو الحديثُ عن انعدامِ المجتمع، لا عن وجودِه.
لا تحللُ السوسيولوجيا المعاصرةُ العبوديةَ الرأسماليةَ عن قصدٍ ووعي، بل تَعتَبِرُ شرعنةَ واقعِ العبوديةِ الطبقيةِ وظيفةً أساسيةً لها بموجبِ الأيديولوجيا الليبرالية. بالتالي، فهي ليست علمية، بل تتميزُ بخصائص ميثولوجيةٍ رجعية. أما سيادةُ "المال" في عصرِ رأسِ المالِ الماليِّ الذي هو أكثرُ عصورِ الرأسماليةٍ رجعيةً وقمعاً وطغياناً، فتُفيدُ بالقوةِ التي محالٌ على أيِّ إلهٍ تاريخيٍّ التحلي بها، بل وربما تُعَبِّرُ عن الإلهِ الأقوى للأسيادِ المسيطرين. ومن دونِ هذا الإله، لا الرأسماليةُ ممكنة، ولا الدولةُ القومية، ولا الصناعوية. بينما الحفاظُ على صمودِ المجتمعِ في وجهِ إلهِ المال، فيقتضي المعانيَ الإنسانيةَ العظمى، وقوةَ الحياةِ المجتمعيةِ الجماعية. لكن، ما مِن أثرٍ بارزٍ كثيراً لمجتمعٍ يمتلكُ مثلَ هذه القوة. فتجاربُ المجتمعِ الاشتراكيِّ التي ظهرَت إلى الوسطِ متحصنةً بهدفٍ كهذا، قد أَبدَت القدرةَ المحدودةَ على النجاح، وغالباً ما لَم تتخلصْ من تَكَبُّدِ الهزيمةِ النكراء.
لكن، ومهما فُرِضَ الخنوعُ والهوانُ إزاء الحداثةِ الرأسمالية، فلا خيار سوى الإصرارُ بعزمٍ على المجتمعيةِ والدفاعُ عن المجتمعِ وصونُه. ومهما باتت القضايا سرطانية، ومهما بلغَت أبعاداً من الأزمةِ والفوضى العارمة؛ فالدفاعُ عن الوجودِ الاجتماعيّ، والعملُ على جعلِه حراً شرطٌ لا استغناء عنه لأجلِ العيشِ بإنسانية. أما الحياةُ البديلةُ لذلك، فإما أنها الحياةُ الأعجوبةُ المُجَرَّدةُ من كافةِ القِيَمِ الإنسانية، والتي يطغى عليها الربحُ الأعظميّ، أو أنها الحياةُ المتروكةُ للتفسخِ والاهتراءِ بين صمتِ القبور.
بمقدورِنا رصدُ أكثر حالاتِ النظامِ الاستعباديِّ الذي فرضَته الحداثةُ الرأسماليةُ على الواقعِ الاجتماعيِّ شفافيةً ووضوحاً، من خلالِ الحالةِ التي أُسقِطَ فيها الواقعُ الاجتماعيُّ الكرديِّ الذي يتعدى كونَه قضيةً اجتماعيةً بمسافاتٍ شاسعة، لِيُستَهلَكَ ويُستَنفَذَ بإبادةٍ ثقافيةٍ طويلةِ الأمدِ مستشريةٍ في كافةِ أنسجتِه وخلاياه. أي أنّ المجتمعَ الكرديَّ ليس كأيِّ مجتمعٍ إشكاليٍّ آخر، لأنّ مجرياتِه تُعَبِّرُ عن وضعٍ يتخطى كونَه قضيةً إشكالية. ويكفي النظرُ إلى لغتِه لإدراكِ ما يشيرُ إليه الوضعُ الذي أُسقِطَ فيه، والمليءُ بالعِبَرِ والمشحونُ بالترويعِ المُذهِل. فأكثرُ لغاتِ التاريخِ عراقةً وأصالة، مُكَبَّلةٌ بالقيودِ والأغلال. وهو لا يمتلكُ رياضَ الأطفالِ حتى في المناطقِ الكبيرة. والأنكى أنّ تبنيَّ اللغةِ الكرديةِ وبذلَ الجهودِ في سبيلِها غيرُ ممكنٍ في كنفِ النظامِ السائد، إلا بوضعِ البطالةِ والجوعِ بعينِ الحُسبان. أما الكردايتيةُ بذاتِ نفسِها، فصُيِّرَت موضوعاً شيئانياً لا يساوي خمسةَ قروش. بل وزِدْ على ذلك أنّ مَن يَركلُ تلك الكردايتيةَ أكثر، يتبناهُ النظامُ القائم، ويَعتَبِرُه جديراً بفرصةِ الحياة. وبقدرِ ما تتنكرُ لواقعِكَ الاجتماعيِّ الخاصِّ بك وتستحقرُه وتزدريه، يَغدو وارداً قَبولُكَ في كنفِ نظامِ الأمةِ الحاكمة، وعثورُكَ على عملٍ وتَحَلّيكَ بالقدرةِ على الرقيِّ في أحضانِه. هذه الحالةُ نظاميةٌ وتَسري على كافةِ مستويّاتِ القِيمِ الاجتماعيةِ الكردية. فأينما تواجَدَ كرديٌّ لامعٌ وشهير، ثريٌّ وواثقٌ من عملِه، فإما أنه يحتالُ على مجتمعِه، أو يدأبُ على سلوكِ الإنكارِ والاغترابِ بوعيٍ وقصدٍ دون بُد. ومهما رُوِّجَ مؤخراً لبعضِ الرموزِ الكرديةِ على أنها وطنية، إلا إنه يتوجبُ الإدراكُ على أفضلِ وجهٍ أنّ جميعَ هؤلاء على صِلةٍ كثيبةٍ بالمصالحِ العالميةِ للهيمنةِ الرأسمالية.
بالرغمِ من كافةِ حملاتِ الغزوِ والاستعمارِ والصهرِ القوميةِ للقوى الحاكمة، وعلى رأسِها الفاتحون والغزاةُ العربُ والأتراكُ والفُرس، إلا إنّ مجتمعيةَ الكردِ الأصليون كانت في حالةِ تطورٍ وتقدمٍ في العصورِ الوسطى. فالمجتمعُ القَبَلِيُّ والمجتمعُ المجموعاتيُّ على حدٍّ سواء كانا يُحرزان التقدمَ على دربِ المجتمعِ القوميّ. أما القضايا البارزةُ إلى الوسط، فكانت تلك النابعةَ من الدولةِ والسلطةِ الهرمية، والتي تَسري على جميعِ المجتمعات. وبالمستطاعِ القولُ أنّ المجتمعَ الكرديَّ كان متقدماً على الكثيرِ من أمثالِه من المجتمعات، عندما كان يُخَلِّفُ العصرَ الوسيطَ وراءه. إذ كان قادراً على صياغةِ أجوبةٍ بمستوياتٍ مماثلةٍ للقضايا التي كان يعاني منها، بل وكان يَرُودُ العديدَ من المجتمعاتِ في حلِّ القضايا. ورغمَ كافةِ حملاتِ الهجومِ والاعتداءِ والاستيلاءِ والاحتلالِ والاستعمارِ المسعورةِ التي شنَّها الغُزاة، إلا إنّ دفاعَ المجتمعِ عن ذاتِه، وكفاحَه في إحياءِ نفسِه حراً طليقاً كانا يستمران دون انقطاع. بالتالي، لَم يَكُنْ ممكناً الحديثُ آنذاك عن قضيةِ وجودٍ جادة، أو عن عبوديةٍ شاسعةِ الاختلافِ عما يعانيه أمثالُه.
تغيرَت هذه الحالُ جذرياً في عصرِ الرأسمالية. فنظراً لعجزِ الشعبِ الكرديِّ عن تنظيمِ نفسِه وفق قاعدةِ الربحِ الأعظميّ، وعن مأسسةِ ذاتِه كدولةٍ قومية، واستنفارِ طاقاتِه لأجلِ الصناعوية؛ فقد وجدَ نفسَه وجهاً لوجهٍ أمام حملاتِ الهجومِ والاحتلالِ والاستعمارِ والصهرِ والإبادةِ والتطهيرِ المتعددةِ الجهاتِ على يدِ الدولِ القوميةِ المسيطرةِ التي حقَّقَت كلَّ تلك العناصرِ والمقومات، وعلى يدِ حُكّامِ النظامِ والاحتكاراتِ الرأسماليةِ المتربعةِ على قمةِ تلك الدولِ القومية. هذا ومن غيرِ الواردِ مقارنةُ هذا الوضعِ مع فتحِ القارةِ الأمريكيةِ في القرنِ السادسِ عشر الذي شَهِدَ صعودَ هيمنةِ النظامِ الرأسماليّ، ولا مع احتلالِ أفريقيا في القرنِ التاسع عشر، ولا مع استعمارِ آسيا في القرنِ الثامن عشر. فالواقعُ السائدُ الذي تركَ بصماتِه على حياةِ الكردِ الاجتماعية، كان مختلفاً عن ذلك. فالنظامُ المتحكمُ بالكردِ قد نظَّمَ نفسَه أولاً بهدفِ عدمِ الاعترافِ بوجودٍ اسمُه الكرديّ، أو بغرضِ إفنائِه أو صهرِه في بوتقتِه في حالِ وجودِه؛ وشَكَّلَ دعائمَه الداخليةَ والخارجيةَ وقام بمَأسَسَتِها بعنايةٍ فائقة. وهو نظامٌ مُبيدٌ ومُفنٍ يُدارُ دوماً بالتكتيكاتِ والاستراتيجياتِ التآمرية. موضوعُ الحديثِ هنا هو كومةُ الإشكالياتِ المُعضلةِ المتثاقلةِ طردياً، والمجازرُ المُرتَكَبةُ على التوالي اعتباراً من القرنِ التاسع عشر، والغزوُ مِراراً وتكراراً، والانفتاحُ على النهبِ والسلبِ الرأسماليِّ بين فكَّي الدولةِ القوميةِ القاسيَين. هذا وكان من المحالِ ألا يَؤولَ نظامٌ كهذا إلى عملياتِ التطهيرِ العرقيّ. والمجرياتُ كانت في هذه الوِجهةِ أصلاً.
سعَت القضيةُ الكرديةُ أيضاً إلى طرحِ نفسِها على الصعيدِ "القوميّ"، على غِرارِ العمومِ الساري في ظلِّ الحداثةِ الرأسمالية. وأنْ تخطرَ القضيةُ الوطنيةُ على البالِ فوراً بمجردِ الحديثِ عن القضيةِ الكردية، قد حصلَ كضرورةٍ من الضروراتِ السائدةِ والمألوفة، أكثر مما هو حصيلةَ بحثٍ شاملٍ ومستفيض. وقد كان هذا تقييماً تَبعدُ ماهيتُه الحقيقيةُ عن الانبساطِ ضمن تكاملٍ تاريخيٍّ – اجتماعيّ. وكأنه كان يعتمدُ على موقفٍ أَشبَهُ بعرضِه كي يراه الأصدقاءُ في السوق. أي أنّ ما كان قائماً هو مواقفٌ بعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن صياغةِ التعاريفِ الواقعيةِ ورسمِ الأُطُرِ النظريةِ اللازمة. لكنّ الحقيقةَ القائمةَ هو أنّ الإشكاليَّ المُعضِلَ لَم يَقتصرْ على الواقعِ الكرديِّ وحسب، بل وكأنّ كلَّ شيءٍ وكلَّ شخصٍ معنيٍّ بالكردايتيةِ كان إشكاليةً قائمةً بذاتِها، بحيث لَم يَبقَ أحدٌ إلا وأحسَّ وفكَّرَ بأنه مشكلةٌ مستعصية. بينما المشكلةُ الأصلُ كانت متعلقةً أساساً بكَنَهِ الواقعِ المُعاش، أي بالمواقفِ المختلفةِ بصددِ كيفيةِ وماهيةِ الطبيعةِ الاجتماعيةِ الكردية. وبطبيعةِ الحال، فعندما نُظِرَ إلى كلِّ شيءٍ وكلِّ شخصٍ على أنه مشكلة، كان مضمونُ القضيةِ أيضاً يغيبُ عن العيون، فلا تبقى ثمة قيمةٌ لعملياتِ البحثِ والتدقيقِ والتمحيص.
وأنا شخصياً، لَطالَما اعتَبَرتُ كسرَ جدارِ هذه الدوامةِ العقيمةِ تحت مسؤوليتي مسألةً أساسية. ذلك أنّ صُلبَ القضيةِ يكمنُ في إضفاءِ الشفافيةِ والوضوحِ على الظاهرةِ الكردية، التي تَكثرُ الديماغوجياتُ بشأنِها، والتي تعاني من وطأةٍ أثقلُ مما تتبدى ظاهراً، وفي كشفِ النقابِ عن أبعادِها الخاصةِ بها. والمواقفُ التي سعيتُ إلى تطويرِها في البدايةِ انطلاقاً من كونيةِ القضيةِ الوطنية، كانت ستنتهي مرةً أخرى وخلال فترةٍ وجيزةٍ إلى تشخيصٍ كونيٍّ مماثلٍ مفادُه "كردستان مستعمَرة". بالتالي، فوصفةُ التحريرِ التي سيجري التفكيرُ بها من أجلِ قضيةِ كردستان المُستعمَرة، هي نظريةُ "التحرير الوطنيّ" التي كانت النظريةَ المفَضَّلةَ حينها، و"حربُ التحريرِ الوطنيّ" التي كانت الممارسةَ العمليةَ المفَضَّلةَ آنذاك. لا ريب في أنّ أغلبَ القضايا الموجودةِ في ثنايا الواقعِ المُعاشِ كانت قد استُشِفَّت ولُمِسَت عبر هذا المصطلحِ وتلك النظريةِ والممارسات. لكن، ومثلما الحالُ في كلِّ تعميم، فالجوانبُ الناقصةُ والخاطئةُ الكائنةُ في هذا التعميمِ أيضاً كانت ستتجلى مع مُضيِّ الوقت. ونخصُّ بالذِّكرِ احتمالُ الحوارِ بين الأطرافِ المعنيةِ بالقضية، والذي كان يُحَتِّمُ التعاطيَ الملموسَ أكثر مع الواقع. كما إنّ تداعياتِ ما وراء الحداثةِ المتناميةَ بدءاً من أعوامِ التسعينياتِ التي شَهِدَت تراجُعَ وانحسارَ الحداثةِ الرأسماليةِ في عمومِ أرجاءِ العالَم، كانت تلعبُ دورَها في ذلك أيضاً. هذا وكان انهيارُ الاشتراكيةِ المشيدةِ يحملُ بين طياتِه في واقعِ الأمرِ معنىً من قبيلِ انهيارِ الهيمنةِ الأيديولوجيةِ الليبرالية. أي أنّ المنهزمَ والمنهارَ لَم يَكُ الاشتراكية، بل مذاهبُها اليساريةُ الليبراليةُ المنحرفةُ والمتسمرةُ في مكانِها. وتناوُلُ الحقيقةِ بنحوٍ أكثر وضوحاً، كان مرتبطاً عن قُربٍ بانهيارِ اليسارِ الليبراليِّ ذاك. وفي المحصلة، فكلما تبدَّت الجوانبُ الدوغمائيةُ – الوضعيةُ الكامنةُ في طوايا وعيِ الواقعِ الماركسيّ، كان يغدو بالإمكانِ تناوُلُ الواقعِ الاجتماعيِّ بإرشاداتٍ تاريخيةٍ وفلسفيةٍ وفنيةٍ وعلميةٍ أكثر. ونخصُّ بالذِّكرِ تحليلُ الرأسماليةِ ارتباطاً بالحداثةِ وتأسيساً على ركائزِها الثلاثيةِ الأولية، أي على نزعةِ الربحِ الأعظميِّ والدولةِ القوميةِ والصناعوية، والتدقيقُ فيها وشرحُها بمنوالٍ أكثر تكامُلاً بناءً على ذلك؛ كان يتسمُ بميزةِ فتحِ آفاقٍ شاسعةٍ في علمِ الاجتماع. وعليه؛ فما حصلَ كان ثورةً في علمِ الاجتماع. لقد كان يتجلى للعَيانِ أنّه حتى الماركسيةُ التي تودُّ تقديمَ ذاتِها كعلمِ اجتماعٍ وكاشتراكيةٍ علميةٍ أكثر من غيرِها، وكذلك الاشتراكيةُ المشيدةُ التي ما هي سوى تطبيقٌ ميدانيٌّ للأولى؛ ظلّتا عاجزتَين في حقيقةِ الأمرِ عن تطهيرِ نفسَيهما من الذهنيةِ الدوغمائيةِ الوضعيةِ الميتافيزيقية.
كان بالوسعِ تفسيرُ كلِّ شيءٍ بمنوالٍ ملموسٍ ومتكاملٍ أكثر، لدى النظر إلى الواقعِ الكرديِّ وإلى البنى الإشكاليةِ التي يحتوي عليها بموجبِ براديغما علمِ الاجتماعِ الجديدةِ تلك. وكيفما أُدرِكَت الماهيةُ الدوغمائيةُ للمواقفِ الحتميةِ المُطلَقة، فقد كان ثمة تيقظٌ لمخاطرِ أنْ تُفضيَ المواقفُ النسبيةُ المُفرطةُ إلى النتائجِ الدوغمائيةِ عينِها. وفي المحصلة، كان من الواردِ سلوكُ مواقف أدنى إلى الحقيقةِ بشأنِ الواقعِ الظواهريِّ الكرديِّ المعقدِ والمشتَّتِ للغاية والمُستَنفَذِ بوتيرةٍ عُليا، وكذلك بصددِ قضاياه الشاملةِ للغاية، والمتكاملةِ والبنيويةِ جداً بقدرِ اتسامِها بجذورِها التاريخيةِ الغائرة. بمعنى آخر، فالتحليلاتُ الأكثر عينيةً وشفافية، كانت تُمَكِّنُ من حلولٍ ملموسةٍ أكثر وذاتِ قيمةٍ تطبيقيةٍ عليا بشأنِ القضايا العالقة.
إنّ العلومَ الاجتماعيةَ والسوسيولوجيا الحديثةَ المُكلَّفةَ بوظيفةِ شرعنةِ عناصرِ الحداثةِ الرأسماليةِ وجعلِها مِعياراً أساسياً، وعلى نقيضِ ما يُزعَم، لَم تستطِعْ أثناء تناوُلِها واقعَ المجتمعِ التاريخيِّ الذهابَ أبعدَ من إعادةِ إنتاجِ قرائنِ العصورِ الوسطى من قبيلِ الأبيض – الأسود والفاضل – الرذيل. فظاهرةُ الدولةِ القوميةِ لوحدِها، كانت كافيةً لتقويضِ واقعِ المجتمعِ التاريخيِّ وتسويتِه بالأرضِ بنسبةٍ كبيرة. بل وبالمقدورِ القولُ أنها كانت تستندُ إلى ميتافيزيقيا هي الأكثر سقماً وسذاجة، ولا تُشَكِّلُ طاقةً كامنةً للأفكارِ والعواطفِ المُثمِرة. ذلك أنه ما كان للدولةِ القوميةِ كطاقةٍ كامنةٍ إلا أنْ تتولَّدَ في آخرِ المطافِ عن نتيجةٍ أخرى عدا إنتاجِ الفاشية. وآلياتُ الربحِ الأعظميِّ لَم تُنَطْ بدورٍ خَلا استهلاكِ المجتمعِ وبيئتِه. كما إنه لا الحياةُ البيولوجيةُ ولا الاجتماعيةُ القادرةُ على الاستنادِ إلى الصناعوية، كان يُمكنُ أنْ تَكُونَ موضوعَ حديث. فالحداثةُ لَم تَكُ في حقيقتِها سوى تلك العناصرُ التي شرعَنَتها علومُها إلى أبعدِ حدٍّ وصَيَّرَتها معاييرَ نموذجية.
ولدى الغوصِ في أغوارِ القضيةِ الكردية، كان يُلاحَظُ أنّ التقييماتِ المطروحةَ على أنها قضيةٌ وحلّ، هي بِحَدِّ ذاتِها إشكاليةٌ عُضال. فما يكمنُ في أساسِ القضيةِ الكردية، كان عناصرَ ومقوماتِ الحداثةِ الرأسماليةِ بعينِها. بالتالي، فالاعتمادُ على تلك المقوماتِ في صياغةِ التحليلاتِ وتطويرِ الحلولِ العملية، ما كان له أنْ يتميزَ بوظيفةٍ أبعدَ من خداعِ الذات. ودياليكتيكُ القضيةِ – الحلِّ المُعاشُ كونياً في هذه الوِجهة، كان يُثبِتُ عُقمَه في نهايةِ المآلِ من خلالِ أزمةِ رأسِ المالِ الماليِّ العالميِّ المتجذرة. ذلك أنّ القضايا المتولدةَ من الدولِ القوميةِ النابعةِ من الحداثةِ المُبتَكَرةِ في الشرقِ الأوسط، كانت قد انتهَت مع التوجهِ صوبَ راهننا بمنطقةٍ تَعمُّها الفوضى العارمةُ وبمجتمعاتٍ متأزمةٍ بكلِّ معنى الكلمة. كما وكانت الأيديولوجياتُ القومويةُ والدولتيةُ والجهودُ المبذولةُ من أجلِ مَأسَسَتِها، قد حوَّلَت الأجواءَ في العديدِ من البلدانِ إلى بُحيرةِ دم، بدءاً من أفغانستان إلى لبنان، ومن الشيشان إلى اليمن. أما الدولةُ القوميةُ العراقيةُ السُّنِّيّةُ التي تحتلُّ مكانَها في قلبِ كِلا الخطَّين، فكانت تَعكسُ حقيقةً عينيةً دمويةً وأليمةً جداً، تُؤَدى كفيلمٍ وثائقيٍّ مأساويٍّ وكأنه يَعرضُ من خلالِها إفلاسَ المدنيةِ التقليديةِ والمدنيةِ الرأسماليةِ على حدٍّ سواء.
كلُّ العناصرِ التي حاولتُ تحليلَها ضمن إطارِ الحقيقةِ الكردية، وَلجَت سياقَ الخروجِ من كونِها أمة، وليس مرحلةَ التحولِ إلى أمةٍ في ظلِّ أجواءِ الحداثة. وعليه، فقضيةُ عدم التحولِ إلى أمةٍ هي التي تطغى بدلاً من القضيةِ الوطنيةِ الكردية. فالوطنُ الأمُّ لَم يُصَيَّرْ وطناً قومياً، بل وعلى النقيض، كان يُشارُ إلى أنه وطنُ الدولِ القوميةِ الحاكمة. أي أنّ المكانَ الأساسيَّ للتحولِ إلى أمة كان يُخرَجُ من كونِه موطناً، ويُنظَرُ إليه مندرجاً في لائحةِ الانتماءِ إلى أممٍ أخرى. كما وكانت تدورُ المساعي لصهرِ الوجودِ الوطنيِّ بذاتِ نفسِه في بوتقةِ الأممِ الحاكمة، قبل تَحَقُّقِ التحولِ الكردايتيِّ أو التحولِ إلى أمةٍ كردية. هكذا ، كان يُصَيَّرُ موضوعاً شيئانياً، ويُستَعمَرُ ويُصهَرُ على يدِ ثقافاتِ الدولِ القوميةِ الحاكمة، العربيةِ منها والتركيةِ والفارسية. وكانت تُسَخَّرُ كافةُ قوى عناصرِ الحداثةِ في سبيلِ ذلك، مما كان يُثقِلُ من وطأةِ القضيةِ في هذه النقطةِ بالتحديد، لتبلغَ مشارفَ الخروجِ من كينونةِ الأمة. أما الطبقاتُ والشرائحُ الاجتماعيةُ البارزةُ إلى الوسطِ على أنها قوةُ الحلِّ للقضيةِ الوطنيةِ في كنفِ الحداثة، فكانت على مفارقةٍ تامةٍ في تعاطيها مع القضيةِ الكردية. فكلما تَبَرجَزَت الشريحةُ الفوقيةُ التقليدية، كانت تتحولُ إلى شتى وسائلِ إنكارِ الكردِ وإبادتِهم بِما يتعدى نطاقَ التواطؤ، وذلك مقابل انتزاعِ حصةٍ لها من السمسرةِ في أروقةِ الدولة. وبسببِ خورِ قوى مستويّاتِ البورجوازيةِ الصغيرةِ وحاجتِها إلى سمسرةِ الدولة، لَم تتعدَّ أداءَ دورِ العناصرِ الديماغوجيةِ للقضية. هكذا، كانت كِلتا القوتَين المعاصرتَين تخرجان من كونِهما عنصراً حَلاّلاً في القضية. وما تَبَقّى من الشرائحِ التي كان سوادُها الأعظمُ عاطلاً عن العملِ وأشباهَ البروليتاريا وغيرِها من الشرائحِ الكادحة، فكان تغدو موضوعياً قوى الحلِّ الأساسيةَ للقضيةِ الكردية. وبهذا المعنى، لَم تَعُدْ القضيةُ الكرديةُ قضيةً بورجوازيةً بالأساس، بل أضحت قضيةَ مجتمعِ الكادحين.
وحتى أبسطُ بوادرِ أو معالِمِ الإرادةِ السياسيةِ اللازمةِ لصيرورةِ الأمة، كانت تُسحَقُ بلا هوادةٍ تحت الذريعةِ التشويشيةِ المتحججةِ بـ"وحدةِ الدولةِ وتكامُلِها". أما الثقافةُ السياسيةُ الديمقراطيةُ التي تُعتَبَرُ شرطاً لا استغناء عنه بالنسبةِ لأيِّ مجتمعٍ كان، فكانت تُطبَعُ بِمُهرِ "الانفصالية" و"التجزيئية"، تَسَتُّراً على الممارساتِ التي تصلُ حدَّ الإباداتِ الجماعيةِ والتطهيرِ العرقيّ. في حين أنّ الساحةَ الاقتصادية، التي تلبي الاحتياجاتِ الماديةَ الأوليةَ التي لا يطيقُ أيُّ مجتمعٍ العيشَ بدونِها، كانت تخضعُ لرقابةٍ وتَحَكُّمٍ تامَّين، ليُستَخدَمَ الاقتصادُ كوسيلةٍ للخروجِ من كينونةِ الأمة. أي، كان الاقتصادُ بذاتِ نفسِه يُصَيَّرُ أهمَّ وسيلةٍ لتكريسِ العجزِ عن تحقيقِ التحولِ القوميّ. هذا وكان لا يُعتَرَفُ بأيةِ وثيقةٍ أو وضعٍ قانونيٍّ فيما يخصُّ الهويةَ الكردية. أي، كانت الهويةُ الكرديةُ تُصَيَّرُ خارجةً على القانونِ والحقوقِ لدى تطلُّعِها إلى التحوُّلِ إلى أمة، ولا يُعتَرَفُ بوجودِها في هذا الإطار. وهكذا، كان يُحكَمُ عليها بأنْ تغدوَ هويةً بلا تعريفٍ أو اسم، ولا علاقةَ لها البتة بأيِّ قانون. هكذا، فالوجودُ الاجتماعيُّ الذي يناهزُ تعدادُ سكانِه الأربعينَ مليون نسمة، كان يُعَدُّ غيرَ موجودٍ في القانونِ الوطنيِّ والدوليّ. وبينما يُعتَبَرُ التعليمُ أهمَّ وسيلةٍ بِيَدِ الحداثةِ لتحقيقِ التحولِ إلى أمة، فقد كان الكردُ يُجتَثّون من هوياتِهم التاريخيةِ والاجتماعيةِ الخاصةِ به مبدءاً من مرحلةِ الحضانة، وذلك ضمن إطارِ النُّظُمِ التعليميةِ الإنكاريّةِ للأممِ الحاكمة. أي أنّ وسيلةَ المجتمعيةِ المُسمّاةَ بالتعليم، كانت تتحولُ على صعيدِ الهويةِ الكرديةِ إلى أداةٍ لفرضِ التخلي عن الهويةِ الذاتيةِ والمجتمعيةِ الذاتيةِ بالنسبةِ للكرد. ومثلما حُظِرَ التعلمُ باللغةِ الأمِّ في أغلبِ أجزاءِ الوطن، فقد كانت لغاتُ الأممِ الحاكمةِ تُقامُ مقامَ اللغةِ الأمّ. وبدلاً من أداءِ اللغةِ الأمِّ وظيفةً أداتيةً لتحقيقِ المجتمعية، كانت تُصَيَّرُ حجةً للهروبِ من المجتمعية. أما الكردايتيةُ بصفتِها ذهنيةً ثقافية، فكانت تُصَيَّرُ مؤشراً للاستسلامِ للثقافاتِ القوميةِ المسيطرة، عوضاً عن تذكيرِها بالوصولِ إلى حالةِ الشعورِ بالذات.
وعلى سبيلِ المثال؛ لدى مقارنتِه بشعوبِ أفريقيا، فسيُلاحَظُ بوضوحٍ ساطعٍ أنّه أُبقِيَ على مستوى صيرورةِ الأمة لدى الشعبِ الكرديِّ في مرتبةٍ جدِّ متخلفةٍ عما عليه الشعوبُ الأفريقية. ولهذا أواصرُه مع الكينوناتِ المختلفةِ للدولِ القوميةِ التي تُطَبِّقُ الحداثةَ الرأسمالية، دون أدنى شك. فالكردُ لا يُطبِّقون عناصرَ الحداثةِ بإرادتِهم الذاتية، بل إنّ الدولَ القوميةَ المسيطرةَ هي التي تُطَبِّقُها. والحالُ هذه، تقومُ تلك الدولُ التي لا تعترفُ بحقِّ الواقعِ الكرديِّ في التحولِ إلى أمةٍ في كنفِ هيمناتِها السائدة، بابتكارِ نظامٍ فاشيٍّ كاملٍ مُكَمَّلٍ بالنسبةِ للكرد، مُفَعِّلةً بذلك مُسَنَّناتِ الإنكارِ والإبادةِ دون انقطاع. هكذا، فالمحصلةُ البارزةُ إلى الوسطِ تَكُونُ قضيةَ خروجِ الكردِ من كونِهم أمة، بل وعجزِهم عن تحقيقِ التحولِ القوميّ.
تَعكسُ القضيةُ الكرديةُ نفسَها بمزاياها المختلفةِ ضمن أبعادٍ وفي ظلِّ ظروفٍ مكانيةٍ وزمانيةٍ مغايرةٍ للغاية. ويحيا الكردُ كافةَ تلك المزايا التي تَربطُ تلك الأبعادَ بالظروفِ الزمانيةِ والمكانية، بقدرِ ما يتحلون بالخصائصِ التي تَجعلهم مختلفين ومنفردين بذاتِهم. فلنَعملْ على تجسيدِ ذلك بنحوٍ ملموسٍ أكثر.
وفي النتيجة، كانت القضيةُ الكرديةُ تتحولُ إلى قضيةِ تجزيءِ وإنكارِ الوطنِ الأمِّ للكرد، وتقسيمِ واقعِهم الاجتماعيِّ من الأعماقِ لإخراجِهم من كينونتِهم، ومنعِهم من امتلاكِ إرادةٍ سياسية، وإرغامِهم على الخنوعِ والهَوانِ تجاه أساليبِ الدولِ في الإنكارِ والإبادة، وتحويلِ تلبيةِ احتياجاتِهم الاقتصاديةِ إلى وسيلةٍ للتخلي عن هويتِهم الذاتية، وعدمِ إتاحةِ المجالِ أمام تحوُّلِهم إلى كيانٍ ثقافيٍّ وأيديولوجيٍّ مرتكزٍ إلى هويتِهم الذاتية، وعدمِ الاعترافِ القانونيِّ بحقِّهم ذاك، وحرمانِهم من وسائلِ التعليمِ العصريِّ وأشكالِ تطبيقِه، والاعتمادِ على كافةِ هذه المجالاتِ متحدةً في سبيلِ عدمِ الاعترافِ بوجودِهم الذاتيِّ وهويتِهم الذاتية، وعدمِ العيشِ بحرية. بمعنى آخر، فالقضيةُ الكرديةُ لَم تَعُدْ قضيةً وطنية، بل كانت تتحولُ إلى قضيةِ الخروجِ من كينونةِ الأمة.
ومع استمرارِ التجزؤِ وتَعَزُّزِ أنظمةِ الإنكارِ والإبادةِ على كلِّ جزءٍ بمرورِ الوقت، كانت القضيةُ تخرجُ من إطارِ التحولِ إلى أمة، لتُختَزَلَ وتُسقَطَ إلى مستوى قضيةِ تأمينِ سيرورةِ الوجود. فالإبادةُ الجماعيةُ ببُعدِها الثقافيِّ باتت واقعاً سائداً على الدوام، بالرغمِ من أنّ الإبادةَ الجسديةَ ليست أسلوباً أساسياً من حيث كونِها تفيدُ بالقضاءِ على الوجودِ من الجذور. وعدمُ تطبيقِ الإبادةِ الجسديةِ على الفورِ مثلما حصلَ في إباداتِ الأرمنِ واليهود، كان يُضفي مزيداً من المخاضاتِ الأليمةِ على السياق. جليٌّ تماماً أنه في حالِ وضعِ كلِّ هذه العواملِ نُصبَ العين، فسيَكُونُ واقعياً أكثر الحديثُ عن العقدةِ الكرديةِ الكأداء بدلاً من التكلمِ عن القضيةِ الكردية. فكيفما أنّ قيامَ الإسكندرِ بفكِّ عقدةِ غورديون ولو بِحَدِّ السيفِ مُمَكِّناً بذلك من فتحِ آسيا بأكملِها، فحلُّ العقدةِ الكرديةِ الكأداء أيضاً سيُمَكِّنُ من الفتحِ الديمقراطيِّ وإتاحةِ فرصةِ الحياةِ الحرةِ أمام جميعِ المجتمعاتِ تتصدرُها مجتمعاتُ الشرقِ الأوسط.