الهدفُ الأوليُّ للسياسة الديمقراطية هو إنشاءُ المجتمعِ الديمقراطي

السياسةُ الديمقراطية ليست مجردَ نمط، بل وتُعَبِّرُ عن تَكامُلٍ مؤسساتيٍّ أيضاً...

القائد عبد الله أوجلان

يؤدي عنصرا السياسةِ والأمن للحضارة الديمقراطية دوراً أساسياً في نشوءِ المجتمعِ الأخلاقي والسياسي. تصنيفُ السياسةِ الديمقراطية في مفهومِ المجتمعِ الذي هو سياسيٌّ مِن ذاته بالأصل، قد يَكُونُ أمراً زائداً عن اللزوم. ولكن، ثمة فرقٌ بينهما. فقد لا تُمارَسُ السياسةُ الديمقراطية في كلِّ وقتٍ ضمن المجتمعِ السياسي. علماً أنَّ هيمنةَ المَلَكِيّة الاستبدادية غالباً ما فُرِضَت على المجتمع السياسي طيلةَ تاريخِ المدنيةِ الرسمية. لا يَفنى المجتمعُ السياسيُّ كلياً تحت ظلِّ الهيمنة. ولكنه لا يستطيع دمقرطةَ ذاتِه آنذاك. فكيفما أنّ امتلاكَ الأُذُنِ لا يعني السماعَ في كلِّ الأوقات، بل يقتضي أنْ تَكُونَ الأُذُنُ سليمةً أيضاً؛ كذلك وعلى نحوٍ مشابه، فوجودُ النسيجِ السياسي أيضاً لا يعني أنه فعالٌ بحرية في كلِّ الأوقات. حيث أنَّ عَمَلَ النسيجِ بمنوالٍ سليمٍ مشروطٌ بوجود أجواءٍ ديمقراطية.

بشكلٍ عام، بالمقدور إطلاق تسميةِ السياسةِ الديمقراطية على وجودِ المناخ الديمقراطي والبنية السياسيةِ للمجتمع السياسي. فالسياسةُ الديمقراطية ليست مجردَ نمط، بل وتُعَبِّرُ عن تَكامُلٍ مؤسساتيٍّ أيضاً. إذ لا يُمكن تطوير ممارسةِ السياسةِ الديمقراطية، دون وجودِ التمأسُساتِ العديدةِ من قَبِيل الأحزاب، المجموعات، المجالس، الإعلام، والمحافل وغيرها. الدورُ الأُساسيُّ للمؤسسات هو النقاشُ والتداولُ وصياغةُ القرارات. إذ لا يمكن للحياة أنْ تَسيرَ في جميعِ الأعمالِ المشتركة للمجتمع، دون وجودِ المداولات واتخاذ القرارات. فإما أنْ تنتهي حينها إلى الفوضى العمياء، أو إلى الديكتاتورية. هكذا هو مصيرُ المجتمع اللاديمقراطي دائماً، حيث يبقى مترنحاً بين طَرَفَي الفوضى والديكتاتورية. ولا يمكن التفكير بنماءِ المجتمع الأخلاقي والسياسيِّ في هكذا أجواء. إذن، والحالُ هذه، فالهدفُ الأوليُّ للكفاح السياسي، أي للسياسة الديمقراطية؛ هو إنشاءُ المجتمعِ الديمقراطي، والوصولُ به إلى أفضلِ الأحوال بإجراءِ المداولات وصياغةِ القرارات المعنية بالأعمال المشتركة ضمن هذا الإطار.

الوصولُ إلى السلطة هو الهدفُ الأوليُّ للسياسةِ المُبعَدَة عن وظيفتها الحقيقية، والمتنامية في أجواءِ ومؤسساتِ ما يُسمى بالديمقراطيةِ البورجوازية. والسلطةُ بدورها تعني انتزاعَ الحصةِ من الاحتكار. جليٌّ تماماً استحالة وجودِ هكذا أهدافٍ للسياسةِ الديمقراطية. ولو أنها احتَلَّت مكانَها في مؤسساتِ السلطة (الحكومة مثلاً)، فالعملُ الأساسيُّ هو عينُه أيضاً حينذاك. وهذا العملُ هو اتخاذُ القراراتِ السليمة ومتابعةُ تنفيذها في سبيلِ المصالحِ الحياتية المشتركة للمجتمع، لا لأجلِ انتزاعِ الحصة من الاحتكار. أما القول باستحالةِ احتلالِ المكانِ ضمن الديمقراطيات البورجوازيةِ كقاعدة، فليس بموقفٍ ذي معنى. في حين ينبغي معرفة كيفيةِ اتخاذِ المكان فيها بشروط. ذلك أنّ اللامبدئية لا تنفعُ سوى في ممارسةِ السياسةِ المزيفة للطبقة الحاكمة باستمرار.

مِن غيرِ الممكن بتاتاً التغاضي عن حاجةِ السياسةِ الديمقراطيةِ للتنظيماتِ الكادرية والإعلامية والحزبية الكفوءة، ولمنظماتِ المجتمع المدني، وللنشاطاتِ الدائمة في الدعاية وتعليمِ المجتمع وتدريبه. أما الخصائصُ الضرورية اللازمةُ لممارسةِ السياسةِ الديمقراطية بشكلٍ مثمرٍ وناجح، فيُمكن ترتيبها كالتالي: الموقفُ الذي يَحتَرمُ جميعَ فوارقِ المجتمع، ضرورةُ المساواةِ والوفاقِ على أساسِ الاختلاف والتباين، الاعتناءُ بمضمونِ النقاش بقدرِ أسلوبه، الجرأةُ السياسية، الأولويةُ الأخلاقية، و"الحاكميةُ" على المواضيع، الوعيُ بالتاريخِ والمجرياتِ الراهنة، والموقفُ العلميُّ المتكامل.

الدفاعُ الذاتيُّ هو سياسةُ الأمنِ والحمايةِ للمجتمعِ الأخلاقيِّ والسياسي. أو بالأحرى، فالمجتمعُ العاجزُ عن حمايةِ نفسه، يَخسَر معانيَ صِفاتِه الأخلاقيةَ والسياسية. وفي هكذا وضع، إما أنْ يَكُونَ المجتمعُ قد استُعمِر، فيَنصَهِرُ ويتفسَّخ، أو أنه يُقاوِمُ سعياً لاستردادِ صفاته الأخلاقيةِ والسياسية وتفعيلِ وظائفها. والدفاعُ الذاتيُّ هو اسمُ هذه المرحلة. فالمجتمعُ المُصِرُّ على كينونته، والرافضُ للاستعمار وشتى أنواعِ التبعية المفروضةِ من طرفٍ واحد، لا يُمكِنُه تَبَنِّي موقفه هذا إلا بإمكانياته ومؤسساتِه المعنيةِ بالدفاع الذاتي. لا يتكون الدفاعُ الذاتيُّ حيالَ المخاطرِ والضغوطِ الخارجية وحسب. فالتناقضاتُ والتوتراتُ محتَمَلةٌ في كلِّ وقت ضمن البنى الداخليةِ للمجتمع أيضاً. ينبغي عدم النسيانِ أنه ما دامت المجتمعاتُ التاريخيةُ طبقيةً وسلطويةً مدةً طويلةً من الزمن، فستبقى القوى الساعيةُ للحفاظ على خاصياتها تلك مدةً أطول. وستُقاوِم تلك القوى بكلِّ طاقاتها من أجلِ صَونِ وجودها وكياناتها. بالتالي، فسيحتَلُّ الدفاعُ الذاتيُّ مكاناً هاماً في أجندةِ المجتمعِ ردحاً طويلاً من الزمن كطلبٍ اجتماعيٍّ شائع. إذ ليس من اليسير على قوةِ القرار أنْ تَدخُلَ حيزَ التنفيذ، دون تعزيزها بقوةِ الدفاع الذاتي.

علماً أننا في راهننا وجهاً لوجه أمامَ حقيقةِ سلطةٍ متغلغلةٍ حتى مساماتِ المجتمعِ كافةً، ليس من خارجه وحسب، بل ومن داخله أيضاً. لذا، فتكوينُ مجموعاتِ الدفاع الذاتيِّ المتشابهة داخلَ جميعِ مساماتِ المجتمع المناسِبةِ أمرٌ مصيريّ. فالمجتمعاتُ المفتقِدةُ للدفاعِ الذاتيّ مجتمعاتٌ مستعمَرةٌ ومفروضٌ عليها الاستسلامُ مِن قِبَلِ احتكاراتِ رأسِ المال والسلطة. لكلِّ مُكَوِّنٍ في المجتمع قضيتُه في الدفاعِ الذاتيِّ دائماً وعلى مرِّ السياقِ التاريخي، بدءاً مِن الكلانات إلى القبائلِ والعشائر، ومن الأقوامِ إلى الأمم والجماعات الدينية، ومن القرى إلى المدن. فاحتكارُ رأسِ المالِ والسلطة أَشبَهُ بانقضاضِ الذئب على فريستِه التي يُطارِدُها. وكلُّ مَن افتقَرَ للدفاع الذاتي، قامَ بتشتيته كما قطيع المواشي، مستولياً عليه قدرَ ما شاء.

إنّ تشكيلَ كيانِ الدفاعِ الذاتيِّ وممارسته، والحفاظَ عليه جاهزاً وفعالاً دائماً، شرطٌ لا بُدَّ منه في كينونةِ المجتمعِ الديمقراطيِّ والاستمرارِ بوجوده، ولو بِما يَكفي للحَدِّ مِن اعتداءاتِ واستغلالاتِ احتكاراتِ رأسِ المال والسلطة كحدٍّ أدنى. ونظراً لأنه سيتم العيش مع أجهزةِ رأسِ المالِ والسلطة بشكلٍ متداخلٍ لأَمَدٍ طويل، فمن المهمِّ بمكان عدم الانزلاق في خطأَين اثنَين. الخطأ الأول؛ تسليمُ المجتمعِ أمنَه الذاتيَّ للنظامِ الاحتكاري، كأنْ تَأتَمِن القِطَّة على الكَبِد. وقد ظَهَرَت للعيان النتائجُ التدميريةُ لذلك مِن خلال آلافِ الأمثلة. الخطأ الثاني؛ العمل على التحول الفوريِّ إلى جهازِ سلطةٍ تجاه الدولة، بكلمةِ سرٍّ فحواها أنْ تَكُون كالدولة. وتجاربُ الاشتراكيةِ المشيدةِ تنويريةٌ في هذا المضمار بما فيه الكفاية. من هنا، فالدفاعُ الذاتي القَيِّمُ والفعال سوف يَبقى عنصراً لا يمكن الاستغناء أو التغاضي عنه في الحضارةِ الديمقراطية، تاريخياً أم راهناً أم مستقبَلاً.