الطاقةُ بذاتِ نفسِها لغزٌ غامض، لكننا على علمٍ أنّها بتحوُّلاتِها تُوَلِّدُ الحركة، أو بالأحرى تُؤَمِّنُ النشوء...
عبد الله أوجلان
الحركاتُ الاجتماعيةُ أحداثٌ متعلقةٌ بالوعي. فحتى الحركاتُ التلقائيةُ والفطريةُ يستحيلُ عيشُها من دونِ وعيٍّ بدائيّ. ويتَّخِذُ الوعيُ والموضوعانيةُ الشيئانيةُ حالةً أكثر خصوصية، عندما يَكُونُ المجتمعُ موضوعَ الحديث. وما يُمَكِّنُ من الحركةِ بمعناها الكونيّ، هو تَحَوُّلُ الكائنُ الذي نُطلقُ تسميةَ الطاقةِ عليه إلى حالاتٍ مختلفةٍ دياليكتيكياً. الطاقةُ بذاتِ نفسِها لغزٌ غامض، لكننا على علمٍ أنّها بتحوُّلاتِها تُوَلِّدُ الحركة، أو بالأحرى تُؤَمِّنُ النشوء. كما إننا نعلَمُ باستحالةِ تَحَقُّقِ الحركةِ من دونِ وجودٍ وزمان. وقيامُ اللغزِ المُبهَمِ المسمّى بالطاقةِ باكتسابِ السرعةِ في الزمانِ وقطعِ المسافةِ في المكان، إنما يفيدُ بالحركة. وهذا ما يعني بدورِه النشوءَ والتواجد. ولدى تفسيرِنا وتقييمِنا للتطورِ الحاصلِ منذ الانفجارِ العظيمِ الأولِ المُزعَم حصولُه (بيغ بانغ) إلى حين تكَوُّنِ المجتمعِ البشريّ، فسنلاحظُ أنّ المجرياتِ الحاصلةَ ليست سوى حالاتٍ مختلفة من الطاقة. إننا نتحدثُ عن تكوينِ الكونِ لنفسِه بنفسِه على مسارِ الطاقة. وبدءاً من العلومِ الفيزيائيةِ إلى البيولوجية، فقد صاغَت بعضَ التعاريفِ الهامةِ في هذا المضمار. ولجميعِها أواصرُها مع تَحَوُّلِ الطاقةِ إلى مادة. وكي يَكُونَ العلمُ أمراً ممكناً على صعيدِ الذهنيةِ والأساليبِ الغربيةِ بأقلِّ تقدير، يتوجبُ تحقيقُ الفصلِ بين الذاتِ والموضوع. من هنا، فنظامُ المدنيةِ الغربيةِ من حيث المضمونِ على علاقةٍ كثيبةٍ مع التقدمِ العلميِّ المستندِ إلى التمييزِ بين الذاتِ والموضوع. وتاريخُ الحداثةِ الرأسماليةِ يعتمدُ على تحوُّلِ الأسلوبِ الذهنيِّ والعلميِّ المرتكزِ إلى التمييزِ بين الذاتِ والموضوعِ إلى قوةٍ مهيمنةٍ باعتبارِها سبيلَ الحقيقةِ المطلقَ والحتميّ. إذ إنّ تصييرَ الحداثةِ الرأسماليةِ هيمنةً سائدةً أمرٌ محال، ما لَم يُرَسَّخْ الفصلُ بين الذاتِ والموضوعِ بجذرية، وعياً وممارسةً على حدٍّ سواء. والحالُ هذه، من عظيمِ الأهميةِ البحثُ والتدقيقُ في الحركاتِ المستندةِ إلى التمييزِ بين الذاتِ والموضوع.
لَم تَشهدْ المجتمعاتُ النيوليتيةُ والأسبق منها قضيةً اسمُها الفصلُ بين الذاتِ والموضوع. لقد رُصِفَت أرضيةُ هذا التمييزِ مع صعودِ الحضارةِ المدينيةِ والطبقيةِ والدولتية. كلنا يَعلمُ أنّ الكَهنةَ في المدنيةِ السومريةِ التي هي أولُ مدنية، قاموا بتطويرِ أولِ تمييزٍ بين الذاتِ والموضوعِ بناءً على الفصلِ بين الآلهةِ وعِبادِهم. ومصطلحا الإلهِ والعبدِ يرتكزان إلى تَحَكُّمِ المدينةِ بالريف، والطبقةِ العليا بالطبقةِ السفلى، والدولةِ بالمجتمع، وإلى تأسيسِهم الاحتكارَ للاستيلاءِ والاستحواذِ على فائضِ القيمة. إنه الشكلُ البدائيُّ والميثولوجيُّ للتمييزِ بين الذاتِ والموضوع. وفي هذه الحال، تصبحُ الميثولوجيا أولَ علمٍ أو شكلِ وعيٍ يعتمدُ على التمييزِ بين الذاتِ والموضوع. أما مصطلحُ الإله – العبدِ في شكلِ الوعيِ الذي وُلِدَ كرَدَّةِ فعلٍ على الميثولوجيا السومريةِ والمصرية، والذي سُمِّيَ بتقاليدِ النُّبُوّةِ في ثقافةِ الشرقِ الأوسط؛ فيعملُ على زيادةِ توطيدِ الفصلِ بين الذاتِ والموضوعِ نوعاً ما. الإلهُ هنا بمثابةِ الذات، بينما العبدُ بمثابةِ الموضوع. لكنّ ما يختلفُ هنا عن الميثولوجيا هو أنّ صفةَ العبدِ طُوِّعَت ومُرِّنَت أكثر قليلاً، بحيث جرى الاعترافُ للإنسانِ العبدِ بإمكانيةِ الحِراك، ولو بنبذةٍ جدِّ بسيطة.
أما في التقاليدِ الزرادشتية، فيتمُّ التمردُ على وضعِ العبد، ويُعمَلُ من خلالِ مساءلةِ مصطلحِ الإلهِ على سدِّ الطريقِ أمام الفصلِ الصارمِ بين الذاتِ والموضوع، فتَدنو بذلك من مصطلحِ الإنسانِ الحر، ولو بحدود. الإنسانُ هنا لا يشعرُ بالحاجةِ إلى الإله، بل هو قادرٌ على الحراكِ بموجبِ أخلاقِ الحرية. كما يجري تأمينُ استقلالِ الثقافةِ الفلسفية، مع تطويرِ التقاليدِ الزرادشتيةِ أكثر فأكثر ضمن الثقافةِ الإيونية. فبينما يُصَيَّرُ الإنسانُ بذاتِ نفسِه ذاتاً فاعلة، فإنّ الموضوعانيةَ الشيئانيةَ تُعكَسُ بدورِها على الطبيعة. أي، تُقامُ قرينةُ الإنسان الذات – الطبيعة الشيء محلَّ قرينةِ الإلهِ الذاتِ – العبدِ الشيء. لكن، تُعادُ الكَرَّةُ بالرجوعِ في العصورِ الوسطى إلى ثنائيةِ الذاتِ – الموضوعِ متجسدةً في الإلهِ – العبد، وتُصاغُ الفلسفةُ اللازمةُ لذلك. أما في المسيحيةِ والإسلام، فتُطرَحُ ثنائيةُ الإلهِ – العبدِ في هيئةِ دينٍ فلسفيّ.
جرى الانتقالُ بالتمييزِ الجاري عن طريقِ أوروبا الغربيةِ بين الذاتِ والموضوع (ديكارت، سبينوزا) من حالتِه المنتصِفةِ القائمةِ في العصورِ الأولى والوسطى إلى حالتِه الأكثر كفاءةً ومهارة. فبينما شُيِّئَت الطبيعةُ بحالاتِها الثلاث، أي الفيزيائية والبيولوجية والمجتمعية، فقد عُرِضَ الإنسانُ في هيئةِ ذاتٍ فاعلةٍ تامة، بعدَما أُجلِسَ مكانَ الإله. هذه الثورةُ الذهنية، هي التي أَعَدَّت الأجواءَ الملائمةَ للحداثةِ الرأسمالية، وأَضفَت عليها صبغةَ الشرعية. ذلك أنّ الذاتانيةَ المطلقةَ للإنسان والشيئانيةَ المطلقةَ للطبيعة، تتيحان الفرصةَ للنظامِ الرأسماليِّ كي يغدوَ مهيمناً. وهذه الفرصةُ التي لَم تُفسَحْ أمام الرأسماليةِ في أيِّ عصرٍ من عصورِ المدنية، لا تُؤَمَّنُ إلا على خلفيةِ المعادلةِ القائمةِ بين ذاتانيةِ الإنسانِ المطلقةِ وشيئانيةِ الطبيعةِ المطلقة. ويُناطُ الإنسانُ بدورِ الإلهِ كلياً في هذه القرينة. في حين إنّ الطبيعةَ بحالاتِها الثلاثِ بمثابةِ موضوعٍ شيئيٍّ مُسَخَّرٍ كلياً لخدمةِ الإنسانِ – الإله. وبالطبع، فالذاتُ المطلقةُ تُعلنُ إفلاسَها في نهايةِ المآلِ مع الدولةِ القوميةِ التي تُؤَمِّنُ الاتحادَ الأقصى بين مكوناتِ الحداثةِ الرأسمالية الثلاثةِ الأولية. ذلك أنّ الإنسانَ الذاتَ الذي بلغَ ذروتَه مع فلسفةِ هيغل، لَم يُكمِلْ مسيرتَه إلا بعدَ إحلالِه محلَّ الإلهِ مع الدولةِ القومية. ومغامرةُ الوعي المطلقِ تُعَرَّفُ على أنها الألوهيةُ الجديدةُ متمثلةً في الإنسانِ الحرِّ المتميزِ بالوعيِ الأقصى في كنفِ الدولةِ القومية. ولدى تحليلِ الدولةِ القوميةِ بكافةِ أبعادِها التاريخيةِ والاجتماعية، فسيُرى أنّها تُشَكِّلُ أرقى مراتبِ الألوهية، وأنّ المواطَنةَ فيها تجسدُ أرقى مراتبِ العبوديةِ والخنوع. أو بالأصح، تُعَبِّرُ مراتبُ الذاتانيةِ في أيديولوجياتِ الألوهيةِ لتاريخِ المدنيةِ عن نفسِها ضمن الدولةِ القوميةِ متجسدةً في أكفأِ أشكالِ الألوهية، بينما تُعَبِّرُ أيديولوجيةُ العبوديةِ الشيئانيةِ عن نفسِها في هيئةِ المواطِن – العبد.
ألوهيةُ الدولةِ القوميةِ التي وجَدَت تمثيلَها الألوهيَّ في شخصِ هتلر أثناء الحربِ العالميةِ الثانية، اعتُبِرَت بعد الحربِ مسؤولةً عن موتِ ما يناهزُ الخمسين مليون شخصاً، وبُوشِرَ بمساءلتِها. في واقعِ الأمر، كانت قد وُجِدَت خطراً محيقاً وانتُقِدَت من قِبَلِ بعضِ الفلاسفة (نيتشه مثلاً) حتى عندما كانت في أوجِها. بينما أُسقِطَ القناعُ عنها في النصفِ الثاني من القرنِ العشرين، فتَبَدّى للمَلأِ جلياً أنها أشدُّ الآلهةِ قتلاً وفتكاً. وسرى تحليلُها مع انحلالِها جنباً إلى جنب. فالدولةُ القوميةُ التي شرعَت في الاضمحلالِ والانهيارِ عندما كانت في أَوجِها في السبعينيات، إنما تشيرُ إلى هذه الحقيقة. وعليه، فلدى انهيارِ أمتَنِ دعائمِ الحداثةِ الرأسمالية، كان لا ملاذ من انهيارِ النظامِ أيضاً. كما وعندما سَقَطَ قناعُها باعتبارِها إلهَ الحرب، اتَّضحَ بسطوعٍ مدى كونِ تلك الألوهيةِ طبيعةً مُقرِفةً وشنيعةً ومعاديةً للإنسانِ بوصفِها إلهَ المال. هذا وبُرهِنَ كفايةً أنها بأساليبِها الافتراضيةِ الخياليةِ نهبٌ وسلبٌ لا ندَّ له في التاريخ، وأنها قوةٌ حقيقيةٌ تُحَقِّقُ تقويضَ المجتمعِ وتدميرَ البيئةِ الطبيعية. أما تحوُّلُها إلى قوةٍ افتراضية، فيجب تقييمُه على أنه الخُلاصةُ الشفافةُ لتاريخِ المدنية. إنّ هذا الوضعَ يعني إسدالَ الستارِ عن جميعِ الألوهياتِ المُقَنَّعة، وتَجَلّي طبائعَها الحقيقةَ أمام الملأ.
كانت قممُ وحوافُّ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس المناطقَ التي تَخَمَّرَت فيها ألوهيةُ المدنيةِ تلك. كانت تحظى بوجودِها في أحشاءِ المجتمعِ النيوليتيِّ كالدودِ الذي ينخرُ في جذعِ الشجرة. هذا وكان تنظيمُ المدينةِ والطبقةِ والدولةِ في سهولِ ميزوبوتاميا العصرَ الحقيقيَّ لشبابِها ونضوجِها. أما مدنيةُ أوروبا الغربية، فأمسَت عصرَ شيخوختِها وموتِها.
تجترُّ كردستان كوطن والكردُ كمجتمع الآلامَ الأليمةَ والقهّارةَ لهذه الألوهيةِ المولودةِ والمترعرعةِ في أحضانِ أراضيها ومجتمعِهم وهي في عصرِ حتفِها. وسيبدو الواقعُ ملموساً وعينياً أكثر، في حالِ رؤيتِنا لعناصرِ الحداثةِ الرأسماليةِ على أنها حالاتُ إلهِ المدنيةِ في عصرِ شيخوختِه وموتِه. فالحداثةُ الرأسماليةُ بوصفِها ذاتانيةً مثالية، وواقعُ الكردِ وكردستان بوصفِه موضوعانيةً شيئانية، يتعاركان ويتصارعان بِما لا مثيل له في أيةِ بقعةٍ من بقاعِ العالم. ومثلما الحالُ في العديدِ من الثوراتِ الكبرى، فكأنّ التاريخَ برمتِه قد انبعَثَ ثانيةً ليحارِبَ بكلِّ ما لديه من فنون. والذي يتفككُ وينهارُ في معمعانِ هذه الحربِ ليس دعاماتِ الدولةِ القوميةِ وقانونِ الربحِ الأعظميِّ والصناعويةِ و"عذاب جهنم" فحسب، بل وينهارُ أيضاً التمييزُ بين الذاتِ والموضوع. هذا وتكمنُ زبدةُ خُلاصةِ الثورةِ في زوالِ انقسامِ هذا المصطلحِ من الميدان. إذ تحققَ صعودُ أيديولوجيةِ الذاتِ – الموضوع وتَصَلُّبُها (تحوُّلُها الدوغمائيّ) وانهيارُها مُكَلِّفاً نظاماً استعمارياً ودموياً إلى أقصاه، عَمَّرَ خمسَ آلافِ سنة بأقلِّ تقدير. وقد أدى هذا النظامُ دورَ كابوسٍ مُسَلَّطٍ على البشريةِ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. وها هي البشريةُ تصحو لِتَوِّها من هذا الكابوسِ المُرعِب. إذ ثمة أملٌ معقودٌ على حركةِ النهوضِ هذه التي يحققُها الكردُ كأناسٍ أحرار وكردستان كوطنٍ حر.
لَم تَكُ الثورةُ النيوليتيةُ التي أنجَزَها الكردُ الأوائلُ على ذرى وحوافِّ سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس تَعرفُ التمييزَ بين الذاتِ والموضوع، ولَم تَكُ تشتملُ على الفصلِ بين الإنسانِ الذاتِ والطبيعةِ الشيء. بل كانت الحياةُ تنضحُ بالمعاني الخارقةِ الخلاّبةِ والمفعمةِ بالعنفوانِ والحماس. والحياةُ بعينِها كانت مسيرةً مليئةً بالمعجزات. وعليه، فالحركةُ الحرةُ كانت تمثلُ كلَّ شيءٍ في البشريةِ التي حقَّقَت مجتمعيتَها في تلك الحقبةِ على شكلِ قبائل. كان ثمة الحركةُ وحسب، والتي كانت بدورِها حرةً وسالبةً للعقول. كانت الحياةُ تُنسَجُ وتُنَظَّمُ حولَ المرأةِ الأم. بالتالي، كانت المعجزاتُ تُنسَبُ إلى المرأة، فسادَ الاعتقادُ بألوهيةِ المرأةِ ضمن هذا الإطار. أي إنّ ألوهيةَ المرأةِ لَم تَكُنْ صعوداً مُكتَسَباً بالقوةِ الفظة، بل كانت رقياً ذهنياً معنياً بتحقيقِ الحياةِ وتَبَنّيها. لقد كان المجتمعُ النيوليتيُّ يُنجَزُ على يَدَي المرأةِ الأم، وفي قلبِها، وداخلَ ذهنِها. وكلُّ الاكتشافاتُ والاختراعاتُ المتعلقةُ بالزراعةِ وعالمِ الحيوان، كانت تَحمِلُ خِتمَها. وتتجلى هذه الحقيقةُ في أولِ ملحمةٍ نَصَّت – ولو متأخراً –على الصراعِ الذي شنَّته إينانا إلهةُ أوروك، أول مدينةٍ مُشادة، ضد الإلهِ أنكي، أول رجلٍ نَهّابٍ وماكر؛ مُقارِعةً إياه من أجلِ القيمِ التي سَمَّتها بـ"اكتشافاتي واختراعاتي المائة والأربع". فكونُ حامي أولِ مدينةٍ في وجهِ أولِ حالةِ تمدنٍ لا يزالُ إلهةً أنثى، ومصارَعَةُ تلك الإلهةِ الأنثى حيال ألوهيةِ الرجل؛ إنما يتضمن معاني غائرة. إذ يتطرقُ إلى قوةِ الثقافةِ الاجتماعيةِ للمرأةِ الأم، وإلى حركتِها وتصدّيها للمدنية. من العصيبِ تفسيرُ ثقافةِ المرأةِ الأمِّ بعقليةِ المدنيةِ الراهنةِ للرجلِ الحاكم. فهذه الثقافةُ واقعٌ ممتدٌّ على مدى آلافِ السنين. وتصاعُدُ نظامُ المدنيةِ المركزيةِ المُعَمِّرةِ أكثر من خمسةِ آلاف عام بوصفِه نظاماً ذكورياً مسيطراً على الدوام، إنما يبرهنُ هذه الحقيقةَ القائمة. وبما أنّ كلَّ شيءٍ يتطورُ في المجتمعِ مع نقيضِه، مثلما الحالُ في الطبيعة؛ فتصاعُدُ الرجولةِ المسيطرةِ لنظامِ المدنيةِ لا يُمكنُ أنْ تجدَ معناها، إلا بوجودِ نظامِ المرأةِ الأمِّ المقتدرة.
كنا نَوَّهنا إلى أنّ ثنائيةَ الذاتِ – الموضوع قد تَبَدَّت أولاً في المجتمعِ السومريّ. وهذا الواقعُ ظلَّ بالنسبةِ إلى الكردِ الأوائلِ يعني على طولِ مدةٍ طويلةٍ الاشتباكَ مع المجتمعِ القَبَلِيِّ ذي سيادةِ الأم. وبالفعل، ما فتئَت المجموعاتُ النيوليتيةُ القَبَلِيّةُ المرتكزةُ إلى سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس تَجِدُ نفسَها في حالةِ حِراكٍ دائمٍ ضد هذه المدنيةِ على مدى سياقِ المدنيةِ السومرية. أي إنّ القبيلةَ ليست اتحاداً معتمداً على علاقاتِ القُربى وأواصرِ الدمِ المحضة مثلما تَدّعي السوسيولوجيا الغربية، بل هي وحدةٌ Birim للإنتاجِ والتوالدِ والدفاعِ عن الذاتِ ضد المدنية. هذه المرحلةُ التي بدأَت فيما بين أعوامِ 5000 – 4000 ق.م، قد تواصلَت إلى يومِنا الحاليّ. ورغم نموِّ القوى الهرميةِ والمتواطئةِ مع المدنيةِ بين طواياها، إلا إنّ المجموعاتِ القَبَلِيّةَ صانت طبائعَها ومزياتِها الأساسية. أي إنّ القبائلَ هي وحداتُ المجتمعِ الأكثر إثماراً وإحرازاً للمكاسب، والتي يتحققُ فيها الدفاعُ الذاتيُّ والإنتاجُ والتوالد. أما الجانبُ الطاغي على وعيِ القبيلةِ وحركتِها، هو الوعيُ والحِراكُ المشاعيُّ التقليديُّ الذي لا يتركُ حيزاً للتمييزِ بين الذاتِ والموضوع. من هنا، ورغم حملاتِ التحضرِ والمدنيةِ الجاريةِ في جوارِها، إلا إنّ القبائلَ صانت وعيَها وحِراكَها الجماعيَّ هذا، ونَمَّته.
وكلما ازدادَت الهرميةُ والتواطؤُ مع المدنية، أضحى لا مهرب من تنامي التمييزِ بين الذاتِ والموضوعِ في أحشاءِ الوعيِ والحِراكِ القَبَلِيّ. ومقابل حراكِ الوعيِ هذا الذي يعكسُ الهيمنةَ الأيديولوجيةَ السومرية، فقد تصاعدَت حركةُ مَزدا Mazda العقائديةُ الاستحداثيةُ جنباً إلى جنبٍ مع ثقافةِ الإلهةِ الأمِّ التقليدية (ثقافة الإلهة ستار Star). ويستندُ النظامُ المزدائيُّ العقائديُّ إلى ثنائيةِ قوى النورِ – الظلام. ويصلُ مضمونُه مستوى الثنائيةِ الجدلية. إذ يعكسُ بلوغَه وعيَ حركةِ الأطروحةِ – الأطروحةِ المضادةِ الدياليكتيكيةِ اللازمةِ من أجلِ النشوءِ والتكوُّن. وهو بجانبِه هذا حركةٌ متقدمةٌ بمسافاتٍ شاسعةٍ على ثنائيةِ الإلهِ الخالقِ – العبدِ المخلوقِ الفظةِ التي ابتَدعَتها الميثولوجيا السومرية. تتَّخذُ العقيدةُ المزدائيةُ في فحواها من الدياليكتيكِ الكونيِّ أساساً. ومثلما أنّ أيديولوجيةَ الإلهِ الخالقِ والعبدِ الشيءِ المخلوقِ لا تُعَبِّرُ عن الواقعِ الكونيّ، فقد مهَّدَت السبيلَ ولأولِ مرةٍ أمام تحريفٍ في الوعيِ البشريِّ يستعصي تلافيه أو إصلاحُه. حركةُ الوعيِ هذه، والتي تركَت بصماتِها على كافةِ الأديان، وبالأخصِّ على الأديانِ التوحيدية؛ تُشَكِّلُ أرضيةَ الحركاتِ الذهنيةِ المرتكزةِ إلى الفصلِ بين الذاتِ والموضوع، والذي بلغَ يومَنا الحاضر. هذا وإلى جانبِ الطاويةِ في الصين وبعضِ أشكالِ الوعيِ المختلفةِ في الهند، يُمَثِّلُ الوعيُ المَزدائيُّ ذهنيةً مختلفةً يجري البحثُ فيها دوماً عن تطويرِ دياليكتيكِ خلقِ الذاتِ بالذات، عوضاً عن ثنائيةِ الخالقِ – المخلوق.
أما الوعيُ والحركةُ الزرادشتيةُ التي هي امتدادٌ لشكلِ العقيدةِ والوعيِ المزدائيّ، فقد مَكَّنَت من نشوءِ أخلاقِ الإنسانِ الحر. فالعقيدةُ الزرادشتيةُ هي أولُ شكلٍ للوعيِ والحركةِ يُسائِلُ الربَّ الخالق. فمقولةُ "قُلْ مَن أنت؟" المتأتيةُ إلى يومِنا من التقاليدِ الزرادشتية، تُشَكِّلُ صُلبَ الفلسفةِ التي تُسائِلُ الربَّ الخالق. وقد قامت المدنيةُ الإيونيةُ التي انتَهلَت هذه الفلسفةَ من الميديين بتطويرِها أكثر، راصفةً بذلك أرضيةَ الفكرِ الذي تركَ بصماتِه على عصرِنا. إذ أُفسِحَ المجالُ أمام الإنسانِ الناضحِ بالحرية، مع تصاعدِ شكلِ الفكرِ الدياليكتيكيِّ المنقطعِ عن الآلهةِ والمعتمدِ على قوةِ الإنسانِ الذاتية. وتغَلُّبُ الميديين على المدنيةِ الآشوريةِ الجائرةِ المنحدرةِ في أصولِها إلى المدنيةِ السومرية، إنما يُعَدُّ خطوةً تاريخيةً كبرى. وحركةُ الوعيِ الأخلاقيِّ والسياسيِّ تلك التي عمَّرَت ثلاثةَ قرونٍ على وجهِ التقريب، كانت مؤثراً أولياً في إلحاقِهم الهزيمةَ النكراءَ بالآشوريين. وهذا التطورُ التاريخيُّ هو الذي فتحَ الطريقَ أيضاً أمام المدنيةِ الإيونية. وقيامُ كِلتا الحركتَين بتركِ بصماتِهما على مسارِ التاريخِ في أعوامِ 600 ق.م لَم يَكُ محضَ صدفة، ومن غيرِ الممكنِ استيعابُهما بمنوالٍ صحيح، إلا في حالِ تناوُلِهما ودراستِهما معاً. ومع تَدَنّي منزلةِ عناصرِ الكردِ الميديين إلى المرتبةِ الثانيةِ تحت ظلِّ سيطرةِ الحركتَين الإمبراطوريتَين البرسيةِ والساسانية، تَكَبَّدَت حركاتُ الوعيِ الحرِّ أيضاً ضرباتٍ قوية. فسادَ الانغلاقُ على صياغاتِ الوعيِ القبائليِّ والعشائريِّ البدائيةِ الأكثر تخلفاً. وكلما تحوَّلَ الوعيُ والعقيدةُ الزرادشتيّةُ إلى وسيلةِ دفاعٍ عن الإمبراطورية، فقدَت مضمونَها المناديَ بالحريةِ وتفسَّخَت. وقد عكسَ هذا الوضعُ ذاتَه في انتصارِ الإسكندر (330 ق.م). والفلسفةُ الإيونيةُ التي وجدَت أقوى أشكالِ تجسيدِها لدى أرسطو، لعبَت دوراً مُحَدِّداً ومصيرياً في إحرازِ هذا النصر. أما سياقُ المدنيةِ الهيلينيةِ المتنامي لاحقاً (300 ق.م – 250 م)، فعلى علاقةٍ قريبةٍ بشكلِ الوعيِ المتفوقِ للفلسفةِ الإيونية. وقد استطاعَ وعيُ هذا السياقِ الذي تحقَّقَت فيه تركيبةُ الشرقِ – الغربِ الجديدةُ لأولِ مرة، أنْ يتركَ بصماتِه على كافةِ الأشكالِ العقائديةِ والفكريةِ البارزةِ فيما بعد. ومما لا شائبةَ فيه أنّ صعودَ روما حصلَ وثقافةَ الإمبراطوريةِ فيها اكتسبَت معناها بالحذوِ حذوَ تلك العقائدِ والأفكار.
أما مدنياتُ كوماغانه Komagene (مركزُها أعلى نهرِ الفرات) والأبغار Abgar (مركزُها أورفا – أواسط نهرِ الفرات)، وتدمر (ومركزُها تدمر– أسفل نهر الفرات) التي هي على علاقةٍ وثيقةٍ مع مقوماتِ الحضارةِ الكرديةِ في تلك الحقبة؛ فتدلُّ على أُبَّهةٍ وفخامةٍ محدودة. إذ تتصدى سويةً لروما، وتثابرُ على نهوضِها بحركاتِ الوعيِ من خلالِ وفاقاتٍ موفَّقةٍ في آنٍ معاً. لكنّ حركةَ الوعيِ المسيحيِّ تضعُ نهايةً لهذه الفترة.
لَم تتطورْ المسيحيةُ إلا على خلفيةِ إنكارِ فلسفةِ التنويرِ الأولى (الفلسفة الإيونية) ورفضِها والتشاؤمِ بحقِّها. أي إنها حركةُ وعيٍ متشائمٍ وسلبانيّ، حيث تعبِّرُ عن وعيِ التشاؤمِ واليأسِ من الجورِ والمخاضاتِ التي تسببَت بها السيطرةُ الرومانية. وبالرغمِ من إشارتِها إلى جزْرٍ وانحسارٍ كبيرٍ على صعيدِ الفلسفةِ التنويرية، إلا أنها باتت تعني إحرازَ تقدمٍ باهرٍ من ناحيةِ حركةِ المقهورين الجماعية. لذا، فهي تمثِّلُ الشكلَ البدائيِّ المتكونَ باكراً جداً للوعيِ الطبقيّ. في حين إنّ تحوُّلَها إلى أيديولوجيةِ الإمبراطورياتِ والممالك (300 م)، قد أتاحَ الفرصةَ لإضاعتِها ماهيتَها هذه.
أما المانويةُ التي هي حركةٌ ووعيٌ تنويريٌّ هو الأرقى منزلةً بعد الزرادشتية، والتي تنامَت كرَدّةِ فعلٍ ضد نظامِ المدنيةِ المهيمنة (خلال أعوام 250 م)؛ فبَسَطَت نفوذَها إلى حدٍّ كبير. ولَربما كانت ستفسحُ السبيلَ أمام ثاني حركةٍ تنويريةٍ عظمى في الشرقِ الأوسطِ قبل أوروبا، لو أنه لَم يُقضَ على ماني من قِبَلِ الأباطرةِ الساسانيين. وماني بذاتِ نفسِه قد جمعَ الفلسفةَ الإيونيةَ والعقيدةَ المسيحيةَ والتقاليدَ الزرادشتيةَ في تركيبةٍ جديدة، ليُنجزَ بذلك أعظمَ إصلاحٍ فكريٍّ وعقائديٍّ في عهدِه. وهذه الحركةُ التي انطلقَت من ضفافِ نهرِ دجلة، قد انتشرَت في غضونِ فترةٍ وجيزةٍ من روما حتى وادي الهندوس. لكن، ونظراً لعدمِ سماحِ تقاليدِ الإمبراطوريةِ الساسانيةِ الرثةِ والمتضعضعةِ لها بالتطور (إذ سُلِخَ جِلدُ ماني ثم أُعدِمَ في 276 م)، فقد ذهبَت هذه الفرصةُ التاريخيةُ أدراجَ الرياح. أو بالأصحّ، إنها عجزَت عن احتلالِ مكانتِها التي تستحقُّها، وعن طبعِ الزمانِ بطابعِها.
الرهبانُ السريانُ (الرهبان المسيحيون ذوو المشاربِ الآشورية) كانوا مُوَفَّقين أكثر مقارنةً بالمانويةِ والزرادشتية. فحركةُ ووعيُ الرهبانِ السريان قد خَتَمَت المنطقةَ بمُهرِها، إلى حينِ ظهورِ الحركةِ والوعيِ الإسلاميّ. حيث طوَّرَوا حركةَ وعيٍ وطيدةً فيما بين 300 – 600 م، بدءاً من البحرِ الأبيضِ المتوسطِ وصولاً إلى أعماقِ الهندِ والصين، وشَكَّلوا المجموعاتِ المسيحية. أما الوعيُ الكرديّ، فلَم ينقطعْ في هذه الفترةِ تماماً عن الزرادشتية، ولَم يتَبَنَّ المانوية، ولَم يَقبَلْ الروادَ السريانيين أيضاً. بل حافظَ الكردُ على أشكالِ وعيِهم البدائيةِ المتفسخةِ والمنحلة. فالأيديولوجيا القَبَلِيّةُ التقليديةُ المتخلفةُ عن عصرِها بمسافاتٍ لا يُستَهانُ بها، كانت بالكادِ قادرةً على صونِ الوجودِ القَبَلِيّ، لا غير. بالتالي، تخلَّفَ الكردُ في تلك الفترةِ عن مواكبةِ التطورِ الذي أحرَزَه المجتمعان الأرمنيُّ والآشوريُّ اللذان يتشاركان معهم العيشَ بالتداخل. فبينما طَوَّرَ الوعيُ المسيحيُّ المجموعاتِ ذاتَ الأصولِ الأرمنيةِ والآشوريةِ على شكلِ شعوبٍ أكثر رُقياً وتكاملاً، فإنّ أشكالَ الوعيِ البدائيِّ زادَت من انغلاقِ المجموعاتِ الكرديةِ على داخلِها أكثر فأكثر، وأَبقَت عليها في مرتبةٍ تتمكنُ فيها من الحفاظِ على وجودِها بشقِّ الأنفس. أي إنّ الانحلالَ والتخلخلَ الأيديولوجيَّ قد سدَّ الطريقَ أمام التطورِ الاجتماعيّ، وآلَ إلى الأزمة.
حصلَ النفاذُ من أزمةِ الوعيِ في العصورِ الأولى عن طريقِ الإسلام، الذي يُعَدُّ آخِرَ حركةِ وعيٍ ومجتمعيةٍ كونيةٍ ذاتِ بُعدٍ دينيٍّ في الشرقِ الأوسطِ بعدَ اليهوديةِ والمسيحية. وربما يُعبِّرُ شكلُ الوعيِ الإسلاميِّ عن أكثرِ أشكالِ الوعيِ الشرقِ الأوسطيِّ اختلاطاً وتوفيقية، بالرغمِ من تقديمِه نفسَه كوحيٍ إلهيٍّ حداثويٍّ جداً. وتتسترُ في جذورِه تداعياتُ كافةِ أشكالِ الوعيِ القديمةِ التي تَعرضُ نسقاً خليطاً، بدءاً من الأرواحيةِ إلى الخالقِ الواحدِ الأحد. ونخصُّ بالذّكرِ الصياغاتُ الميثولوجيةُ السومريةُ والمصرية، والتي تتسمُ بتأثيرٍ نافذٍ وراسخٍ من خلالِ الأديانِ الإبراهيمية. أي إنه النسخةُ الثالثةُ للصياغاتِ الميثولوجيةِ من بعدِ اليهوديةِ والمسيحية. لكنه لا يحملُ بين ثناياه آثارَ تلك الصياغاتِ والنُّسَخِ فحسب، بل ويشتملُ بنسبةٍ هامةٍ أيضاً على تداعياتِ فلسفتَي زرادشت وأفلاطون – أرسطو. هذا ويتوجبُ إضافة تأثيرِ الأديانِ التوثينيةِ التقليديةِ أيضاً إلى ذلك. هذا ويُعزى أحدُ أهمِّ أسبابِ توسعِ الإسلامِ كدينٍ بسرعةٍ عالية، إلى طرحِه نفسَه بصياغةِ الوعيِ الخليطةِ للغاية هذه. وبذلك، بمقدورِ كلِّ مجموعةٍ أنْ تطرحَ تفسيراً متوافقاً معها فتتبنّاه. وهذا ما كان سيحصلُ فعلاً. وكأنه دواءٌ لكلِّ داء.
وضعُ المعارَضةِ هذا في الوعيِ الإسلاميّ، يُشَكِّلُ في الوقتِ عينِه نقطةَ الضعفِ الأساسيةَ فيه، حيث يجردُه من خصوصيتِه. فكونيتُه السافرةُ أضعَفَت مزاياه الانفرادية، ومهَّدَت الطريقَ أمام مخاطرِ تحولِه إلى مجردِ طقوسٍ بسيطة. وقد غدا بجانبِه هذا أقلَّ عطاءً من اليهوديةِ والمسيحيةِ على حدٍّ سواء. إذ صارَ كيساً من الوعيِ أَشبَهُ بقصصٍ وحكاياتٍ متبعثرةٍ وغيرِ نظامية، أكثرَ منه صياغةً لتطويرِ المعنى وتحقيقِ نماءٍ فكريٍّ دياليكتيكيٍّ في هذا المنحى. ولكيسِ الوعيِ هذا نصيبُه الكبيرُ في بقاءِ المجتمعاتِ المُسَمّاةِ بالإسلاميةِ متخلفة. بينما الوضعُ مغايرٌ في وعيِ اليهوديةِ والمسيحية. فاليهوديةُ تحافظُ دائماً على تفوقِها الأيديولوجيّ، بإنتاجِها المستمرِّ للمصطلحاتِ من أحشاءِ ألوهيتِها. وتُكَوِّنُ المسيحيةُ مجموعاتٍ أكثرَ عينيةً مع تنظيمِ الكنيسةِ الصارم. فانغلاقُها السافرُ على العلمانية، يستجلبُ العلمانيةَ والدنيويةَ ويؤدي إليهما. وبطبيعةِ الدياليكتيك، فإنّ أوروبا العصورِ الوسطى، وبتأثيرٍ من كِلا الدينَين، لا تلاقي الصعوبةَ في تطويرِ صياغاتِ الوعيِ والفكرِ الدنيويِّ والعلمانيِّ في آنٍ معاً. أما ما أفضى إلى حركةِ الحداثةِ الأوروبية، فهو الدوغمائيةُ الصلبةُ الموجودةُ في كِلا الدينَين. فالوعيُ الدوغمائيُّ يصبحُ بلا جدوى ولا فائدة، لدرجةِ أنّ ولادةَ صياغاتٍ جديدةٍ على خلفيةٍ مضادةٍ يغدو أمراً لا مفرَّ منه. لكن، ومع ذلك ينبغي الإدراك على أتمِّ صورةٍ أنّ شكلَي الوعيِ الدينيَّين قد أدَّيا دوراً مُعَيِّناً في حركةِ المدنيةِ الأوروبية. وإلا، فلن نستطيعَ تعريفَ أو فهمَ أشكالِ الوعيِ المعاصرِ والحركاتِ الاجتماعيةِ في أوروبا بنحوٍ سليم.
خطَّ الإسلامُ مساراً مختلفاً، إذ حملَ في بنيتِه العديدَ من عناصرِ الدنيويةِ والعلمانية، إلى جانبِ الأفكارِ والعقائدِ الخليطة. وتقديمُ نفسِه على أنه دينٌ دنيويٌّ وأُخرويٌّ في آنٍ معاً، قد أتاحَ المجالَ أمام وقوعِه في المفارقةِ ومعاناتِه العقمَ والانسدادَ من الداخل. فالجدلُ الفلسفيُّ المحتدمُ فيما بين القرنَين التاسعِ والثاني عشر، والذي بمقدورِنا تسميتُه بالنهضةِ الإسلامية، قد انتهى على حسابِ الفلسفة، وليس لصالحِها مثلما حصلَ في النهضةِ الأوروبية. لذا، ما تَبَقّى كصياغةٍ أيديولوجيةٍ هو "ظِلُّ" رمزِ الإلهِ – المَلِكِ القائمِ منذ عهدِ السومريين. أما أنظمةُ السلطنةِ والإمارةِ الاستبداديةُ التي تحصّنَت بهذه الرموز، فلَم تتعدَّ في أدوارِها تقديمَ أمثلةٍ لا حصرَ لها من الدوغمائيةِ المتزمتةِ والسلطةِ المزاجيةِ منذ القرنِ الثاني عشر وحتى يومِنا. وبينما شَهدَت أوروبا، بل وحتى الصينُ أيضاً تطوراتٍ هامةً خلال تلك القرون، فقد تَخَبَّطَت المنطقةُ الأمُّ للتطوراتِ التاريخيةِ في معمعانِ أكثرِ المراحلِ جَزْراً وتراجُعاً، لتُبديَ عجزَها عن الخلاصِ من التبعثرِ والتناثرِ في وجهِ الحداثةِ الرأسماليةِ مع حلولِ القرنِ التاسعِ عشر.
وبالرغمِ من المساعي الدائرةِ لإعادةِ تفسيرِ وبناءِ الوعيِ الإسلاميِّ في فترةِ التناثرِ تلك، إلا إنها كانت بعيدةً عن التحلي بماهيةِ الإصلاحِ الحقيقيّ. بل ولَم تَشهدْ إصلاحاً حتى بقدرِ المسيحية. ولدى عدمِ تعرُّفِها على الثوراتِ الفلسفيةِ والعلمية، بات لا مفرّ من التشتتِ والانهيار. في حقيقةِ الأمر، فبحوثُ الإسلامِ الجديدِ التي لا تتخطى التحديثَ في معناها، تعملُ على إلحاقِ نفسِها بالرأسمالية. وهي بعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن الإبداعِ والخصوصية.
مهما بقيَت المجموعاتُ الكرديةُ في حالةِ مقاومةٍ طويلةِ المدى إزاء الإسلام، إلا إنّ شريحتَها العليا جَلَبَت معها تحوّلاتٍ جذريةً بانتزاعِها فرصةَ اعتلاءِ السلطةِ مع الإسلامِ وصياغتِه السُّنِّيّة. وهكذا سادَت مجتمعيةٌ ثنائيةُ الاتجاه. ففي الحين الذي كَوَّنَت فيه الشريحةُ العليا مجتمعاتِها الإماراتية، وأكثَرَت منها كالتيهورِ وكأنها تنجِزُ ثورةً إقطاعية؛ أمسى لا مهرب للشريحةِ السفلى والأصنافِ الجبليةِ من انكبابِها على الطرائقِ والمذاهبِ كضربٍ من ضروبِ تنظيمِ الدفاعِ الذاتيِّ في وجهِ ظُلمِ السلطةِ واستغلالِها، ومن إنجازِ تطورٍ اجتماعيٍّ في هذا الاتجاه. أي إنّ صياغاتِ الوعيِ الإسلاميِّ المختلفةَ والمُجَذِّرةَ للانقسامِ الطبقيّ، كانت تعكسُ ذاتَها في هيئةِ المذاهبِ والطرائقِ الدينية. بمعنى آخر، فصياغاتُ الوعيِ التي جرى ولوجُها لدى تجاوُزِ أشكالِ الوعيِ القَبَلِيِّ والعشائريّ، كانت على صعيدِ الشريحةِ الهرميةِ الفوقيةِ تتجسدُ في الإسلامِ السُّنِّيِّ على اختلافِ مذاهبِه، بينما تَجسدَت في مختلفِ الطرائقِ الصوفيةِ تتصدرُها الطريقةُ العَلَوِيّةُ على صعيدِ الشرائحِ التحتية. وبينما طَوَّرَت كردايتيةُ الإمارةِ السُّنِّيّةِ نفسَها على حسابِ الشرائحِ التحتية، فقد كانت من الجانبِ الآخرِ على صراعٍ مُرَكَّزٍ ومتوالٍ مع صياغاتِ وعيِ تلك الشرائح. هذا وكان الصراعُ الطبقيُّ يستمرُّ تحت غطاءٍ دينيّ. بالمقابل، كانت العَلَويّةُ والكردايتيةُ الصوفيةُ تُصَيِّرُ نفسَها تنظيماتٍ سياسيةً وعسكريةً مِراراً وتكراراً، منتقلةً بذلك إلى وضعِ الدفاع. لكنّ وحدةَ المجتمعَ وتراصَّ صفوفِه كانت تتكبدُ أضراراً جسيمةً وتجترُّ آلاماً أليمةً جراءَ تلك الاشتباكاتِ والانقسامات. أما إنهاءُ هذا الوضع، فإما كان يُعَلَّقُ على آمالِ الدنيا الآخِرة، أو كانت الآمالُ تُعقَدُ على قيامِ نظامٍ مَلَكيٍّ وطيدٍ وموَحَّد. وكانت البحوثُ والصياغاتُ الأيديولوجيةُ في هذه الوِجهةِ ستتعززُ أكثر فأكثر ضمن كردايتيةِ العصورِ الوسطى.
سَعَت بحوثُ وصياغاتُ الوعيِ لدى إدريس البدليسيّ (في القرن السادس عشر) وأحمدي خاني (في القرن السابع عشر) إلى تلبيةِ حسراتِ وآمالِ المجتمعِ الكرديِّ في هذا المضمار. مقابل ذلك، وبينما انشغلَ الشخصُ المسمى "صفيّ الدين" والمنسوبُ إلى سلالةِ شيخٍ كرديٍّ مع مرورِ الزمن بريادةِ حركةِ "قزل باش" الشيعية، كانت هذه الحركةُ ستنتهي في آخرِ المطافِ إلى الإمبراطوريةِ الصفويةِ التي هي سلالةٌ سلطويةٌ جديدة. وفي الحين عملَ فيه مؤلَّفُ "شرف نامه" لشرف خان البدليسيّ على سردِ تفسيرِ الإمارةِ والمَلَكيةِ للكردايتية (في نهاياتِ القرنِ السادس عشر)، انعكَفَت الطرائقُ الدينيةُ كالقادريةِ والنقشبنديةِ على الدفاعِ عن المجتمعِ الباقي خارجَ إطارِ السلطة. وبينما بحثَت الشريحةُ الكرديةُ الفوقيةُ عن الحامي الأنسبِ لها من بين الصفويّين والعثمانيّين، فقد وجدَ أحمدي خاني الحلَّ الجذريَّ في "مملكةِ كردستان الكبرى".
للمدارسِ الدينيةِ أيضاً حيزُها الواسعُ في الوعيِ الإسلاميِّ لدى الكرد. حيث لَطالما تشَكَّلَت شريحةٌ راسخةٌ من الكردِ المثقفين في كلِّ زمان. وأغلبُهم استحوذوا على أماكن لهم داخل القصورِ العربيةِ والفارسيةِ والتركية. وبالإضافةِ إلى اهتمامِهم بالكردايتية، إلا إنّ هذا الاهتمامَ والعنايةَ ظلَّ محصوراً بطابعِ السلطةِ التي تَبِعوا لها. بينما ما فتئَ الوعيُ القبائليُّ والعشائريُّ مثابراً على وجودِه طيلةَ سياقِ العصرِ الوسيطِ أيضاً. وقد كانت القبائلُ والعشائرُ المتعاظمةُ والمتزايدةُ بمثابةِ النبعِ العينِ الذي تقتاتُ عليه كردايتيةُ الإمارةِ والطرائقِ الدينية.
لَم يُسعِدْ الوعيُ الإسلاميُّ المجموعاتِ الكردية، بل وظلَّ قاصراً في تصييرِها مجتمعاً نمطياً أيضاً. لكنه حوَّلَها إلى عددٍ جمٍّ من المجموعاتِ الطرائقيةِ التي تُعَلِّقُ آمالَها على الدنيا الآخرة، بنفسِ الدرجةِ التي يزدادُ فيها اغترابُها عن نفسِها. ومن غيرِ الواردِ عقدُ الأملِ على مجتمعٍ معطاء، أو إنشاءُ هكذا مجتمعٍ من أشتاتِ أجزاءٍ متناثرةٍ وغريبةٍ عن ذاتِها. ومع وصولِنا مطلعَ القرنِ التاسعِ عشر، فإنّ صعودَ البيروقراطيةِ المركزيةِ تحت ظلِّ الحداثةِ الرأسمالية، ورواجَ الضرائب، والخدمةَ العسكريةَ كان سيُفسِدُ ويخربُ وضعَ الكردِ الذي سادَ في العصورِ الوسطى. وكلما جهدَت الإماراتُ الكرديةُ والطرائقُ الصوفيةُ على الدفاعِ عن مكانتِها ووضعِها إزاء هذا الوضع، ستغدو الاشتباكاتُ والصِّداماتُ أمراً لا ملاذ منه، وسيَلِجُ المجتمعُ التقليديُّ بذلك أزمةً غائرةً وفوضى عارمة.