عملية إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ تتميزُ بحريةِ خلقِها لنفسِها مجدداً كلَّ لحظة...
القائد عبد الله أوجلان
تتحقَّقَ الحريةُ ومستجداتُ المساواةِ والديمقراطيةِ المَبنيةِ على أساسِ التباينِ والفوارقِ بأفضلِ وأَسلَمِ السبلِ في المجتمعاتِ الأخلاقيةِ والسياسيةِ التي تَسُودُها السياسةُ الديمقراطية. ذلك أنّ الحريةَ والمساواةَ والديمقراطيةَ غيرُ ممكنةٌ إلا بقوةِ النقاشِ والقرارِ والممارسةِ التي يُنَفِّذُها المجتمعُ عبرَ قوتِه الوجدانيةِ والذهنيةِ الذاتيةِ الجوهرية. ولا يُمكِنُ تحقيقَ ذلك بأيةِ قوةٍ من الهندسةِ الاجتماعية.
مِن غيرِ الممكن بتاتاً التغاضي عن حاجةِ السياسةِ الديمقراطيةِ للتنظيماتِ الكادرية والإعلامية والحزبية الكفوءة، ولمنظماتِ المجتمع المدني، وللنشاطاتِ الدائمة في الدعاية وتعليمِ المجتمع وتدريبه. أما الخصائصُ الضرورية اللازمةُ لممارسةِ السياسةِ الديمقراطية بشكلٍ مثمرٍ وناجح، فيُمكن ترتيبها كالتالي: الموقفُ الذي يَحتَرمُ جميعَ فوارقِ المجتمع، ضرورةُ المساواةِ والوفاقِ على أساسِ الاختلاف والتباين، الاعتناءُ بمضمونِ النقاش بقدرِ أسلوبه، الجرأةُ السياسية، الأولويةُ الأخلاقية، و"الحاكميةُ" على المواضيع، الوعيُ بالتاريخِ والمجرياتِ الراهنة، والموقفُ العلميُّ المتكامل.
عمليةُ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ في كردستان، هي التعبيرُ التاريخيُّ والاجتماعيُّ الجديدُ عن الوجودِ الكرديِّ وحياتِه الحرة، والذي يستلزمُ الإمعانَ في التركيزِ والتمحيصِ فيه نظرياً وعملياً على حدٍّ سواء، ويقتضي إطراءَ التحولِ عليه. إنه يشيرُ إلى حقيقةٍ تستوجبُ وهبَ الذاتِ لها بدرجةِ العشقِ الحقيقيّ. فكيفما لا مكان لأيِّ عشقٍ زائفٍ في هذه الدرب، فإنه لا مكان فيه للسائرين المُرائين أيضاً. لقد أُغدِقَ السائرون على هذه الدربِ بكلِّ ما يلزمُهم من إيجابياتٍ ومحاسن بمنزلةِ العسلِ المُقَطَّرِ والمنحدرِ من أغوارِ التاريخِ البشريِّ السحيقة. أما التساؤلُ في هذا المنحى عن توقيتِ انتهاءِ عمليةِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطية، فهو سذاجةٌ لا داعي لها. فموضوعُ الحديثِ هنا هو إنشاءٌ لن يكتملَ ما دامت البشريةُ قائمة. ذلك إنّ عمليةَ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ أيضاً تتميزُ بحريةِ خلقِها لنفسِها مجدداً كلَّ لحظة، تماماً مثلما يَكُونُ الإنسانُ موجوداً يخلقُ نفسَه بنفسِه لحظياً من خلالِ تحصنِه بالوعيِ الحرّ، وعلى غرارِ الكائناتِ الحيةِ التي تخلقُ نفسَها كلَّ لحظةٍ ضمن أصقاعِ الكونِ المترامية. وما مِن يوتوبيا أو واقعٍ أكثر مثاليةً من ذلك من الناحيةِ المجتمعية. لذا، فقد انكبَّ الكردُ على إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ بقوةٍ عنفوانيةٍ لا تتزعزع، وبما يتماشى مع واقعِهم التاريخيِّ والاجتماعيّ. كما إنهم لَم يخسروا شيئاً لدى انعتاقِهم ذهنياً من براثنِ إلهِ الدولةِ القومية، الذي لَم يؤمنوا به أصلاً، بل خضعوا لنفوذِه عنوةً وإكراهاً. وعلى النقيض، فقد أزاحوا من على كاهلِهم عبئاً ثقيلاً، بل وتخلصوا من عبءٍ آلَ بهم إلى حافةِ الإبادة. ومقابل ذلك، فقد حظوا بإمكانيةِ كينونةِ الأمةِ الديمقراطية. إنه مكسبٌ ثمينٌ بقدرِ تثمينِ قيمتِه وتقديرِ مضمونِه.
بناءً عليه، يتعينُ على الكردِ أفراداً ومجتمعاً، النظرُ إلى عميلةِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطيةِ على أنها تركيبةٌ جديدةٌ وزبدةٌ مُرَكَّزةٌ مُستَخلَصةٌ من جميعِ الحقائقِ والمقاومات، ومن كافةِ الصياغاتِ الكامنةِ في الأغوارِ الغائرةِ لتاريخِهم ومجتمعيتِهم، بدءاً من العقائدِ الإلهيةِ الأنثويةِ الأعرق قِدَماً، مروراً بالزرادشتيةِ ووصولاً إلى الإسلام. كما يتوجبُ عليهم إدراكُها وتَبَنّيها وتطبيقُها على أرضِ الواقع. حيث إنّ جميعَ التعاليمِ الميثولوجيةِ والدينيةِ والفلسفيةِ القديمة، وكافةَ الحقائقِ التي يسعى علمُ الاجتماعِ المعاصرِ إلى تعليمِها، إضافةً إلى كلِّ ما تسعى حروبُ المقاومةِ والتمرداتِ إلى ذكرِه من حقائق فُرادى وجَمعاً؛ كلُّ ذلك يَجِدُ تمثيلَه في ذهنِ وبدنِ عمليةِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطية.
وقد انطلقتُ في حراكي من هذا الواقع، ومن الحقيقةِ التي تُعَبِّرُ عنه؛ ليس أثناء انهماكي بخلقِ نفسي بين الحينِ والآخرِ فحسب، بل يكادُ يَكُونُ ذلك في كلِّ لحظةٍ أُعيدُ خلقَ نفسي فيها، وصولاً إلى يومِنا الحاليّ. وهكذا، فقد حققتُ مجتمعيةَ ذاتي بحرية. وجَسَّدتُها بصورةٍ ملموسةٍ بتصييرِها أمةً (كردية) ديمقراطية. وعرضتُها عصرانيةً ديمقراطيةً منبسطةً أمام البشريةِ جمعاء عموماً، وأمام شعوبِ وأفرادِ الشرقِ الأوسطِ المظلومين والمقهورين على وجهِ الخصوص.
هل لي أنْ أملِكَ يوتوبيا شخصيةً بشأنِ المستقبل؟ فالعملُ على العيشِ بالتراوحِ ضمن حدودِ العُمرِ البشريِّ بين الحنينِ إلى العصورِ الذهبيةِ المنصرمةِ وعقدِ الآمالِ على اليوتوبياتِ المستقبلية، قد يُفرِغُ الحياةَ بنفسِها من فحواها، في حالِ عدمِ توخي الدقة. المهمُّ هو إيلاءُ اللحظةِ حقَّها ومستحقَّها. والأفضلُ هو عدمُ عيشِ اللحظةِ مجردةً من الماضي والمستقبل. أي أنّ الحياةَ الحكيمةَ هي تجسيدُ الماضي والمستقبلِ في "اللحظة"، وعيشُهما بحرية. فما يكمنُ وراء الحداثةِ الرأسماليةِ وثقافتِها الاستعبادية، هو تجريدُ الإنسانِ من الماضي والمستقبل، وتصييرُه مستهلكاً حيوانياً للّحظةِ الحاضرة. لكن، ومقابل نزعةِ الفرديةِ الرأسماليةِ وثقافةِ حياتِها المشحونةِ بالطابعِ الحيوانيّ، يتعينُ على العصرانيةِ الديمقراطيةِ النجاحُ في توحيدِ الفردِ وحنينِه إلى الماضي الذهبيِّ وأملِه في مستقبلٍ مثاليٍّ مع الجماعاتِ المشاعيةِ الديمقراطيةِ التي تحيا اللحظةَ الراهنة، وفي اعتبارِ العملِ حريةً، والتحولِ بالتالي إلى بديلٍ موفق.
لو خيُّرتُ أو كنت أنا....
وعلى خلفيةِ الحاجةِ التاريخيةِ والاجتماعيةِ الماسةِ والعميقة، فقد ركَّزتُ جهودي حتى الآن على هويةِ الأمةِ الديمقراطيةِ بصفتِها هويةً جماعيةً وحرةً بالنسبةِ للكرد. ولَم أَجِدْ الفرصةَ لأعيشَ حياةً فردية، ولو لحظةً واحدةً فقط. ولا أدري إنْ كنتُ سأَجِدُ فرصةَ ذلك من الآن فصاعداً. ولكني أرى الملايين من أبناءِ شعبِنا وأصدقائِنا يتسكعون، وكأنه ما من عملٍ يجب القيامُ به. ويعتريني غيظٌ كبيرٌ إزاء هذا النمطِ من الحياة، والذي لن أنعتَه بأشدِّ أنماطِ الحياةِ سفالةً وبَلادةً ولا مبالاة، بل سأصفُه بإنكارِ الحياة. بالتالي، ينبغي – وبكلِّ تأكيدٍ – تجاوُزُ هذا النمطِ المضادِّ للحياةِ على مستوى كلِّ فردٍ ومجموعة.
كنتُ بيَّنتُ سابقاً أنّ نمطاً كهذا من الحياةِ ظلَّ يُعاشُ بكثرةٍ بين صفوفِ الكريلا أيضاً، وأنّ هذا الوضعَ كان يثيرُ حنقتي بشدة. على المناضلِ المسلَّحِ أنْ يتجهَ إلى الجبال، ما دام يطمحُ في أنْ يَكُونَ خالقاً لحياةٍ حرةٍ لامتناهية، وما دام مُولَعاً بها لدرجةِ العشق، ومُحَصَّناً بالعزمِ والعقلِ والمعرفةِ التي تُخَوِّلُه لتدوينِ الملاحمِ على شبرٍ من الأرضِ أو ضمن رقعةٍ جبليةٍ ضيقة. فمَن يفتقرُ إلى الحماسِ والعزمِ الذي يتحلى به متسلقو الجبالِ والسواحُ الاعتياديون، فمِن الواضحِ وضوحَ النهارِ استحالةُ أنْ يَكُونَ كريلا يَجُولُ الجبالَ والوديانَ والغاباتِ والبراري. ولَطالما كنتُ أتساءلُ متعجباً: كيف يُبَذِّرُ ويُهمِلُ هؤلاء الناسُ العاطلون عن العملِ والمتسكعون الأشقياء هكذا حياة. وكنتُ أقولُ أنّ أيَّ إنسانٍ يُسقِطُ نفسَه إلى مستوى البطالةِ والتسكع، يَكُونُ قد ارتكبَ أشنعَ ذلٍّ وهوانٍ بحقِّ ذاتِه، ووقعَ في الدناءةِ والانحطاط. كما وكنتُ قلتُ: هل ثمة نملةٌ أو نحلةٌ عاطلةٌ عن العمل؟ فالنملُ أو النحلُ يَموتُ فورَ تجردِه من العمل. أي أنه يَعتَبِرُ البطالةَ ذلاً وهواناً، ويردُّ عليها بالموت. بناءً عليه، فالعملُ موجودٌ وممكنٌ بالنسبةِ إلى جميعِ أناسِنا في كنفِ إنشاءِ الأمةِ الديمقراطية، بدءاً من طفلِ السابعةِ وحتى عجوزِ السابعةِ والسبعين، ومن المرأةِ إلى الرجل، وأياً كان تحصيلُه الدراسيّ. أي، ثمة عملٌ أو عدةٌ أعمالٍ يَنشغلُ بها الجميعُ لدرجةِ العبادة، بحيث يحمي نفسَه بها، ويقتاتُ منها، ويتكاثرُ عليها، وينهمكُ بتنفيذِها، ويتحررُ بها ومعها. ويكفي لأجلِ ذلك أنْ يَكُونَ قد نالَ نصيبَه ولو بنذرٍ يسيرٍ من وعيِ الأمةِ الديمقراطيةِ وعزمِها وإرادتِها!
ولو خُيِّرتُ أنا مثلاً، لكنتُ انكبَبتُ على أعمالي في أيِّ مكانٍ أطأه، في قريتي، على سفوحِ جودي، على حوافِّ جبالِ جيلو، في محيطِ بحيرةِ وان، في أحضانِ جبالِ آغري ومنذر وبينغول، على شواطئِ أنهرِ الفرات ودجلة والزاب، وصولاً إلى سهولِ أورفا وموش وإغدر Iğdır؛ وكأني بالكادِ أنزلُ من سفينةِ نوح الناجيةِ لتوِّها من الطوفانِ المريع؛ أو أهربُ من الحداثةِ الرأسماليةِ كهروبِ إبراهيم من النماردة، أو موسى من الفراعنة، أو عيسى من أباطرةِ روما، أو محمد من الجهالة؛ مُتَّكِئاً إلى ولعِ زرادشت بالزراعة (أول امرؤٍ نباتيّ)، ورأفتِه بالحيوان؛ ومستوحياً إلهامي من تلك الشخصياتِ التاريخيةِ ومن حقائقِ المجتمع. ولَكانت أعمالي كثيرةً لدرجةٍ تستعصي على العد. ولَكان بإمكاني مباشرةُ عملي ابتداءً من بناءِ مشاعةِ القريةِ فوراً. ولَكَم كان تشكيلُ كومونةِ قريةٍ أو عدةِ قرى سيَغدو عملاً باعثاً على الحماسِ والحريةِ والصحةِ والسلامة! ولَكَم كان تكوينُ أو تفعيلُ كومونةِ حيٍّ أو مجلسِ مدينةٍ عملاً خلاّقاً ومُحَرِّراً! وما الذي لن يثمرَ عنه بناءُ كومونةِ أكاديميةٍ أو تعاونيةٍ أو مصنعٍ في المدينة! لَكَم هو منبعُ فخرٍ وإباءٍ وغبطةٍ عقدُ مؤتمراتِ الديمقراطيةِ العامةِ لأجلِ الشعب، أو تشكيل مجالسِها، أو التحدثُ في تلك المؤسساتِ والمنظمات، أو القيامُ بعملٍ ضمنها! ومثلما يُلاحَظ، لا حدود للحنين والأمل، مثلما ما من عائقٍ جادٍّ أمام تحقيقِ ذلك سوى الفردُ بذاتِ نفسِه. ويكفي لتحقيقِه التمتعُ بنبذةٍ من الشرفِ الاجتماعيّ، ونبذةٍ من العشقِ والعقل!