حلُّ العصرانية الديمقراطية حاجة مصيرية وحياتية ضد واقع الإبادة العرقية -١-

تَهدفُ الإبادةُ العرقية، إلى تصفيةِ الشعوب وكافة الأقليات والفوارق فيزيائياً وثقافياً...

عبد الله أوجلان

إنّ قيامَ الهيمنةِ الرأسماليةِ المتصاعدةِ في أوروبا الغربيةِ بانتزاعِ زمامِ قيادةِ نظامِ المدنيةِ المركزيةِ ذاتِ الأصولِ الشرقِ أوسطية، وسعيَها إلى إعادةِ إنشاءِ ذاتِها تأسيساً على ثقافةِ الشرقِ الأوسط؛ قد كَلَّفَ كوارثاً مُفجِعة. فمن خلالِ تأسيسِ الهيمنةِ التي سَلَّطَتها على الثقافتَين الماديةِ والذهنية، قد آلَت الهيمنةُ الرأسماليةُ بالثقافاتِ الاجتماعيةِ المُعَمِّرةِ آلافَ السنين إلى مشارِفِ التصفيةِ عن طريقِ المجازرِ والاستعمارِ وعملياتِ الصهرِ والإبادةِ والدَّمجِ أو التوحيدِ الإرغاميِّ المُطَبَّقِ مِراراً وتكراراً، في أجواءٍ من الحروبِ الدائمة، وتحت ظلِّ هيمنةِ الدويلاتِ القوميةِ التي تتصدرُ لائحةَ مؤسساتِها العملية. ولَكَم هو مؤسِفٌ أنّه لا يتم حتى التفكير باستيعابِ كَنَهِ ومضمونِ تلك المؤسساتِ العميلةِ المهيمنةِ المُشادةِ باستثمارِ التناقضاتِ البنيويةِ البارزةِ في غضونِ القرنَين الأخيرَين من تاريخِ الشرقِ الأوسط. فبسطُ نفوذِ الحداثةِ الرأسمالية، ليس على الفكرِ الاستشراقيِّ وحسب، بل وعلى كافةِ مجالاتِ الحياة؛ لا يُمكنُ إيضاحُه إلا بتحليلاتٍ شاملةٍ للغاية، وبالكينونةِ داخلَ "القفصِ الحديديِّ" على سبيلِ المَجازِ والاستعارة.

محالٌ الحديثُ عن معنى مجتمعٍ ما أو عن ثقافتِه الضيقة، بَعدَ بَعثرتِه مؤسساتياً. بهذا المعنى، فالمؤسسةُ كالكأسِ المليئةِ بالماء. ساطعٌ جلياً أنه لا يُمكنُ الحديثُ عن وجودِ الماءِ بَعدَ تَحَطُّمِ الكأس. وحتى لو أَمكَن، فهو لَم يَعُدْ ماءً بالنسبةِ لِمالِكِ الكأس، بل هو عنصرُ حياةٍ متدفقةٍ في أراضي أو أوعيةِ أناسٍ آخرين. في حين أنّ النتائجَ المتمخضةَ من خُسرانِ المعنى والذهنيةِ والجماليةِ الاجتماعيةِ أفجعُ وأفظعُ من ذلك بكثير. ففي هكذا حالةٍ لا يُمكنُ الحديثُ سوى عن تألُّمِ واصطفاقِ كيانٍ أَقرَبُ إلى الكائنِ الحيِّ المقطوعِ الرأس. بمعنى آخر، فمجتمعٌ خاسرٌ لعالَمِه الذهنيِّ والجماليّ، أَشبَهُ بِجِيفةٍ متروكةٍ للتفسخِ والتمزُّقِ والانقضاضِ عليها بوحشية.

تَهدفُ الإبادةُ، إلى تصفيةِ الشعوب وكافة الأقليات والفوارق فيزيائياً وثقافياً

يُعَبِّرُ الصَّهرُ عن العلاقةِ أو الممارسةِ الأحاديةِ الجانب، والتي تلجأُ إليها احتكاراتُ السلطةِ ورأسِ المالِ في مجتمعاتِ المدنية، وتُطَبِّقُها على المجموعاتِ الاجتماعيةِ التي أَخضَعَتها لنيرِ العبوديةِ بغرضِ إسقاطِها إلى مستوى امتدادٍ أو مُلحَقٍ بها.إنّ الأمرَ الأساسيَّ في الصهرِ هو تكوينُ عبيدٍ بأقلِّ التكاليفِ من أجلِ آليةِ السلطةِ والاستغلال. حيث يُعمَلُ على تجزيءِ الهويةِ الذاتيةِ وكسرِ شوكةِ المقاومةِ لدى المجموعةِ المَصهورة، بُغيةَ الحطِّ منها إلى مستوى حشدٍ من العبيدِ الأنسب لخدمةِ النخبةِ الحاكمة. الوظيفةُ الأساسيةُ التي تَقعُ على كاهلِ العبدِ المصهور، هي التشبُّهُ المطلقُ بسيدِه ومُحاكاتُه، وإثباتُ الذاتِ ببذلِ شتى أنواعِ الجهودِ في سبيلِ التحولِ إلى مُلحَقٍ وامتدادٍ له، وتأمينُ مكانٍ لذاته داخل النظامِ القائمِ بناءً على ذلك. ولا خَيار آخر أمامه إطلاقاً. الخَيارُ الوحيدُ المعروضُ أمامه للتمكنِ من العيش، هو التخلي لحظةً قبلَ أخرى عن هويتِه الاجتماعيةِ القديمة، وتكييفُ ذاتِه بأفضلِ الأشكالِ مع ثقافةِ أسيادِه. لذا، فالمجتمعُ المارُّ من الصهر، يتألفُ من مسوداتِ أناسٍ عديمي الضميرِ والأخلاقِ والذهنية، ويتبارَون ليكونوا الأكثر طاعةً وخنوعاً وعملاً وخدمة. وما مِن قرارٍ يتخذه أو ممارسةٍ يفعلُها بحرية. بل فُرِضَت عليه خيانةُ كافةِ قِيَمِ هويتِه الاجتماعية، واختُزِلَ إلى حيوانٍ بهيئةِ إنسانٍ لا يهرعُ سوى وراء إشباعِ بطنه. هذا وتستخدمُ النخبةُ الحاكمةُ سلاحَين أساسيَّين لفرضِ اللاهويةِ هذه على المجتمعِ المصهور: أولُهما؛ العنفُ الجسديُّ المحض. أي، التلويحُ بسيفِ الإبادةِ والهَلاكِ لدى أبسطِ تمردٍ أو انتفاض. ثانيهما؛ تركُه وجهاً لوجهٍ أمام المجاعةِ والبطالة. حيث يُعمَلُ على تنفيذِ هذا القانونِ الفولاذيّ: إذا أصَرَّيتَ على هويتِكَ الثقافية، وإذا لَم تصبحْ خادماً كما يشاؤُه سيدُك؛ فإما أنْ يَذهبَ رأسُك، أو تبقى جائعاً!

تَهدفُ الإبادةُ، التي هي بمثابةِ امتدادٍ لظاهرةِ الصهر، إلى التصفيةِ التامةِ فيزيائياً وثقافياً للشعوبِ والأقلياتِ وجميعِ أنواعِ الجماعاتِ والمجموعاتِ الدينيةِ والمذهبيةِ والأثنيةِ التي صَعُبَ تذليلُها بأسلوبِ الصهر. حيث يُفَضَّلُ أحدُ هذَين الأسلوبَين حسبما يتوافقُ معه الوضع. حيث يُطَبَّقُ أسلوبُ الإبادةِ الجسديةِ عموماً على المجموعاتِ الثقافيةِ التي هي في منزلةٍ أعلى حسب ثقافةِ النخبةِ الحاكمة، أي حسبَ ثقافةِ الدولةِ القومية. والمثالُ النموذجيُّ على ذلك هو الإباداتُ الجماعيةُ وعملياتُ الجينوسيد المُطَبَّقةُ على الثقافةِ والشعبِ اليهوديّ. فنظراً لكونِ اليهودِ يشكِّلون على مدى التاريخِ الشرائحَ الأمنعَ والأقوى في ميدانِ الثقافتَين الماديةِ والمعنويةِ على السواء، فقد تعرَّضوا دوماً لضرباتِ وإباداتِ الثقافاتِ المهيمنةِ المضادة، وطالَتهم مِراراً عملياتُ التطهيرِ المسماةُ بالمذابحِ المنظَّمة.

أما اختباراتُ الإبادةِ الثقافيةِ التي هي ثاني أسلوبٍ في الإبادة، فغالباً ما تُطَبَّقُ على الشعوبِ والجماعاتِ الأثنيةِ والمجموعاتِ العقائديةِ التي هي في وضعٍ واهنٍ ومتخلفٍ نسبةً إلى ثقافةِ الدولةِ القوميةِ والنخبةِ الحاكمة. وبالإبادةِ الثقافيةِ كآليةٍ أساسية، يُرامُ إلى تحقيقِ التصفيةِ التامةِ لتلك الشعوبِ والمجموعاتِ الأثنيةِ والدينيةِ ضمن بوتقةِ ثقافةِ ولغةِ النخبةِ الحاكمةِ والدولةِ القومية، ويُسعى إلى القضاءِ على وجودِها بإقحامِها في مِكبَسِ كافةِ أنواعِ المؤسساتِ الاجتماعية، وعلى رأسِها المؤسساتُ التعليمية. الإبادةُ الثقافيةُ شكلٌ من التطهيرِ العِرقيِّ أكثر مخاضاً نسبةً إلى الإبادةِ الجسدية، وتمتدُّ على سياقٍ طويلِ الأَمَد. والنتائجُ التي تُفرِزُها أفظَعُ مما عليه الإبادةُ الجسدية، وتُكافِئُ أكبرَ أنواعِ الفواجعِ مما قد يَشهدُه شعبٌ –أو جماعةٌ ما–في الحياة. ذلك أنّ الإرغامَ على التخلي عن وجودِه وهويتِه وعن جميعِ المُقَوِّماتِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ الكائنةِ في طبيعةِ مجتمعِه، إنما يُعادِلُ الصَّلبَ الجماهيريَّ الممتدَّ على مرحلةٍ طويلةِ المدى. يستحيلُ الحديثُ هنا عن العيشِ في سبيلِ القيمِ الثقافيةِ المُعَرَّضةِ للإبادة، بل لا يُمكنُ الحديثُ سوى عن التأوُّهِ والأنين. فالألمُ الأصليُّ الذي تتسببُ به الحداثةُ الرأسماليةُ لكلِّ الشعوبِ والطبقاتِ المسحوقةِ والمتروكةِ عاطلةً عن العملِ بُغيةَ تحقيقِها ربحَها الأعظميّ، لا ينبعُ من استغلالها إياها مادياً وحسب؛ بل هو ألمٌ يُجتَرُّ بسببِ صَلبِ جميعِ قِيَمِها الثقافيةِ الأخرى. ذلك أنّ الاحتضارَ على الصليبِ هو الحقيقةُ التي تَشهدُها كافةُ القيمِ الثقافيةِ الماديةِ والمعنويةِ الخارجةِ عن الثقافةِ الرسميةِ للدولةِ القومية. وبالأصل، يستحيلُ تحويلُ البشريةِ والبيئةِ الأيكولوجيةِ إلى مصدرٍ للاستهلاك، ويستحيلُ تعريضُها للنَّفاذ فيما خَلا ذلك من أساليب.

المدنية الدولتية هي نظام إبادة

المجتمعُ النمطيُّ مجتمعٌ مارٌّ من الإبادةِ الجماعية. فبالتنميطِ يُبتَرُ المجتمعُ من تاريخِه الحقيقيّ، ويُقضى على جميعِ الثقافاتِ المختلفةِ فيه عبر تصوراتٍ أيديولوجيةٍ وهميةٍ جوفاء (دين تصوريٌّ أجوف). هكذا، وفي الحينِ الذي يُطَبَّقُ فيه قانونُ الربحِ الأعظميِّ على ميدانِ الاقتصاد، يَكُونُ احتكارُ الدولةِ القوميةِ قد طُبِّقَ على السلطةِ أيضاً. وبينما تحيا الشعوبُ أفظعَ مراحلِها سوءاً، يُقامُ بصهرِ البقايا المتبقيةِ من الثقافةِ الاجتماعيةِ ضمن عجلةِ الدولةِ القومية. إننا نوَدِّعُ آخرَ نَتَفاتِ كرامةِ الفردِ وعِزّته، في عصرٍ يُقالُ أنه عصرُ الحقوقِ والحرياتِ الفردية. بمقدورِنا النجاحُ في ذلك بتحليلِنا لمصطلحِ الإبادةِ الجماعيةِ بالوصولِ إلى جوهرٍ أكثرَ انتظاماً وأعمَّ نطاقاً. تُولى العنايةُ الفائقةُ لِلَفظِ "الفريد" إشارةً إلى الإبادةِ الجماعيةِ بحقِّ اليهود. بينما الحقيقةُ عكسُ ذلك. أي، ما من إبادٍ جماعيةٍ "فريدة". بل ثمة إباداتٌ جماعيةٌ بين صفوفِ كلِّ مجتمعٍ أو شعبٍ أو دولةٍ قومية، قليلةً كانت أم كثيرة. حيث تُنَفَّذُ في بعضِها جسدياً، بينما تتحققُ بالأغلبِ ثقافياً وبنحوٍ مستور. أما فرضُ التجرُّدِ من التاريخِ والاقتصادِ والإدارةِ والذهنية، فهو مؤثرٌ وتعسفيٌّ جائرٌ بقدرِ الإباداتِ الجسديةِ والثقافيةِ بأقلِّ تقدير.

تشرح الوثائق الآشورية بكل فخر تجربتها في أولى المجازر التي نفذت لتطهير البنى الأثنية. سياسة الآشوريين التي اعتمدت على السلب والاحتلال والمجازر وإجبار المتبقين على الهجرة بل وحتى لم تعط فرصة لتحقيق ذلك، وعلى العكس مما فعله الرومان فلم يعط الآشوريون فرصة الحياة للشعوب التي ارضخوها لهيمنتهم، بل اعتمدوا سلطة بلا حدود ولا قوانين لها ومزاجية. حقيقة إن نهايتها غير المنتظرة مرتبطة بهذه السياسة، كما إن نهاية كافة الأنظمة السياسية التي تعتمد على العنف المجرد تؤدي إلى نهاية مماثلة، فهذه السياسة الإمبريالية التي أخذت إرثها من سارغون وتكاملت مع حمورابي البابلي والتي نفذت من قبل الآشوريين بلا رحمة كانت تعني جهنماً بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط وأنظمة إمارات العبيد.

ما مِن مثالٍ بمقدورِه الإشارةُ بنحوٍ مفيدٍ وواعظٍ إلى كَونِ الدولتيةِ القوميةِ نظامَ إبادةٍ وتطهيرٍ عِرقيّ (ونظامَ رفضٍ وتفنيدٍ للتاريخ، وقضاءٍ على الثقافةِ المحليةِ والاقتدارِ الديمقراطيِّ بوجهٍ عامّ)، مثلما هو عليه صراعُ الدولةِ القوميةِ التركياتيةِ مع الأرمن. تنبعُ مأساةُ الشعبِ الأرمنيِّ من احتضانِه بورجوازيةً مُتَرَسمِلَةً بشكلٍ باكر، وامتلاكِه مستوىً من الرقيِّ الثقافيِّ المتفوقِ على جيرانِه؛ ومن الألاعيبِ التعسفيةِ للهيمنةِ الرأسمالية (تضحيتها بثقافةٍ مُعَمِّرةٍ آلافَ السنين، مقابل منفعيةٍ يوميةٍ صغيرة). ذلك أنّ عَزوَ إبادةِ الأرمنِ إلى الفاشيةِ التركيةِ البيضاء وحسب (أي إلى جمعية الاتحاد والترقي والأيديولوجيا الرسمية لـCHP، وحركته السياسية الممنهجة)، يُعَدُّ تناوُلاً ضيقاً. ففي جذورِ هذه الإبادةِيتخفى تاريخٌ ضاربٌ في القِدَمِوعواملٌ اجتماعيةٌ أكثر تعقيداً. حيث تحتلُّ الشريحةُ العليا من القبائلِ الأرمنيةِ أيضاً مكانةً متميزةً وهامةً في تكوينِ رأسِ المالِ في الثقافةِ الشرقِ الأوسطية، حتى ولو ليس بالقدرِ الذي هو عليه رأسُ المالِ اليهوديّ. فاتخاذُ الأرمنِ من المدنِ مركزاً لهم بنحوٍ مبكر، مهارتُهم في المِهَنِ الحرة، ومزاياهم التجاريةُ المتفوقة؛ كلُّ ذلك جعلَ منهم مستثمِرين وأصحابَ رأسِ مالٍ منذ أيامِ الدولةِ الحثية. ونخصُّ بالذِّكرِ أنهم كانوا بمنزلةِ العنصرِ الأوليِّ في بروزِ النزعةِ المدينيةِ في الأناضولِ وميزوبوتاميا. ومع مجيء المسيحية (في أعوامِ 300 م)، اختلفَ دورُهم هذا بشكلٍ أكبر، وبرزَ حضورُهم في الميدانِ أكثر، مُحَقِّقين بذلك نوعاً من الولادةِ الباكرةِ للرأسماليةِ في الشرقِ الأوسط. مقصدُنا من الباكرةِ هنا هو الولادةُ الممنهجة. وإلا، فالتراكمُ الرأسماليُّ كان يتحققُ منذ عهدِ السومريين على يدِ العناصرِ الهامشيةِ في كلِّ ثقافة. لكنّ البورجوازيةَ الأرمنيةَ صَيَّرَت هذا التراكمَ مؤثراً ونظامياً لأولِ مرةٍ مع المسيحية. حيث إنّ نفوذَهم في الحِرَفِ الحرةِ والتجارةِ كان يُمَكِّنُهم من ذلك. لَطالما أثارَ تكديسُ رأسِ المالِ حفيظةَ ومقتَ المجتمعاتِ العشائريةِ والقبائليةِ ذاتِ النظامِ المشاعيّ، وأدى إلى مناهضتِها إياه في كلِّ الأزمان؛ نظراً للتخريباتِ التي يتسببُ بها دوماً في ثقافاتِهم المفعمةِ بروحِ المساواة، ولأنه يؤولُ إلى التناقضاتِ المؤسساتيةِ تزامُناً مع تطويرِ كياناتِ المدينةِ والطبقةِ والدولة. من هنا، ينبغي وضعُ وجودِ هكذا تناقضٍ في الحُسبانِ دوماً في جذورِ إبادةِ الأرمن. كانت القومويةُ الأرمنيةَ عاملاً تاريخياً هامّاً آخر متستراً وراء المأساةِ المُعاشة، إذ تأثرَت بالمسيحيةِ أيضاً، ونَمَّت عن تداعياتٍ مضادة. هذا وعندما باشرَ هتلر بتجربةِ إبادةِ اليهودِ وتطهيرِهم، فقد اعترَفَ بذاتِ نفسِه أنه تأثرَ بتجربةِ حكومةِ الاتحاد والترقي في تطبيقِ إبادةِ الأرمن.

كانت إبادةُ السريان – الكلدان أيضاً ستُطَبَّقُ من قِبَلِ الآليةِ عينِها، ولكنْ في قلبِ جنوبي كردستان هذه المرة. كما إنّ حكايةَ زوالِ هذه الثقافاتِ المسيحيةِ الثلاثِ المتبقيةِ من الآشوريين والبابليين والأكاديين (مع الوضعِ في الحسبان أنّ المحلميين في ماردين يُرجِعون أصولَهم إلى الأكاديين)، وكذلك قصةُ فناءِ مشتقاتِها الأخرى أيضاً مأساويةٌ إلى أبعدِ درجة. فهذه الشعوبُ التي عاشت في يومٍ من الأيامِ ثقافةَ ثلاثِ إمبراطورياتٍ ماردة (الأكادية، البابلية، الآشورية)، لَربما كانت أولى الأقوامِ التجاريةِ والحِرَفِيةِ في التاريخ. فقد كانت نَشَأَت مع المدينة، وتَرعرَعَت معها. وكانت عايشَت سحرَ وجاذبيةَ الميثولوجيا والدينِ والفنِّ من الأعماق، ونقَلَت الثقافةَ السومريةَ إلى أصقاعِ المعمورة. إنها الأقوامُ التي كانت نَقَلَت الحضارةَ والمدنيةَ إلى أرجاءِ العالم. وكأنه لَم يَبقَ من هذا التاريخِ البهيِّ الممتدِّ خمسَ آلاف سنة سوى إرثٌ متحفيّ: قليلٌ من أطلالِ كنائسٍ حزينة، بضعةٌ من المِهَنِ الحرة، قليلٌ من المنجزاتِ المعمارية، ولمساتٌ من فنِّ الموضة. حكايتُهم تشبهُ حكايةَ الأرمن. إذ كانت مزاياهم العريقةُ تتجسدُ في كونِهم أولَ مستثمِرين لرأسِ المالِ المبتدئِ منذ أعوامِ 2000 ق.م، وأصحابَ أولى القوافلِ التجارية، وأولَ من افتتحَ ورشاتِ العمل Kârhane (العمل Kâr = القاروم Kârum، أي الوكالة في العصورِ الأولى).إنهم كانوا أولَ مؤسِّسي المستوطناتِ التجارية، والقائمين على تجارةِ المنسوجاتِ البهية. كما كانوا روادَ مِهنةَ الصياغةِ التخريمية ، وأَروعَ صائغي ومُزَركِشي الفضةَ والذهب. وكانوا مُدَوِّني المحاسباتِ التجاريةِ والرسائلِ على الآلافِ من لوحاتِ وأقراصِ الآجُرّ. إذن، فإنّ وجهَ التاريخِ الآخرَ الباعثَ على الحزنِ والأسى قد تماشى دوماً وبالتداخلِ مع وجهِه الباعثِ على الفخرِ والتباهي.

يتبع ...