حلُّ العصرانية الديمقراطية حاجة مصيرية وحياتية ضد واقع الإبادة العرقية -٢-

حلُّ العصرانية الديمقراطية حاجة مصيرية وحياتية ضد واقع الإبادة العرقية -٢-

 

عبد الله أوجلان

وضعُ الكردِ يمثِّلُ أكثرَ أمثلةِ الإبادةِ الثقافيةِ مأساويةً ولفتاً للأنظار

وضعُ الكردِ يمثِّلُ أكثرَ أمثلةِ الإبادةِ الثقافيةِ مأساويةً ولفتاً للأنظار. فبينما يُفرَضُ اجترارُ الألمِ على الشعبِ الكرديِّ ضمن آليةِ الصَّلبِ الذي تَنصبُه الدولُ القوميةُ المسيطرةُ وتُسَلِّطُه على جميعِ قيمِه الثقافيةِ الماديةِ والمعنوية، فإنّ مواردَ الغِنى التحتيةَ والفوقيةَ والزخمَ الاجتماعيَّ بأكملِه –تَتَقَدَّمُه قِيَمُ الكدح – يُعَرَّضُ للسلبِ والنهبِ المكشوف، ويُترَكُ الباقي يواجهُ الانمحاءَ والبطالةَ والتفسخ، ويُجعَلُ قبيحاً، ويُقحَمُ في وضعٍ لا يُطاقُ العيشُ به،ولا يَستحقُّ النظرَ إليه.وكأنه لَم يَبقَ سوى طريقٌ واحدٌ أمام الإنسانِ الكرديّ: الانصهارُ في بوتقةِ الدولةِ القوميةِ المهيمنة، والتخلي كلياً عن قيمِه الأساسية! ولا سبيل للحياةِ فيما عدا ذلك. ويبدو فيما يبدو، أنّ إبادةَ الكردِ ثقافياً، والتي قد تَصِلُ بين الحينِ والآخرِ حدَّ الإبادةِ الجسدية، تتصدرُ لائحةَ الأمثلةِ الأكثر مأساويةً ولفتاً للنظرِ في الإشارةِ إلى حقيقةِ الحداثةِ الرأسماليةِ بكلِّ سطوعٍ وجلاء.

أما قيامُ الغالبيةِ الساحقةِ من المتواطئين الكردِ بإنكارِ الوجودِ الثقافيِّ الكرديّ، وازدراءُها له، وإعاقتُها إياه من التطورِ بدءاً من إماراتِ العصورِ الوسطى وحتى أنقاضِها المتبقيةِ راهناً من أفرادٍ وعوائل؛ فهو على علاقةٍ وثيقةٍ مع طابعِها الطبقيِّ وبُنيتِها الأيديولوجيةِ والسلطوية. وطرازُ نشوءِ وجودٍ طبقيٍّ ما أيديولوجياً وبنيوياً، إنما يتركُ آثارَه الغائرةَ على الوجودِ الثقافيِّ المتكاملِ في المجتمع. فنمطُ الإسلامِ في نشوءِ الطبقاتِ العربيةِ والفارسيةِ والتركيةِ الحاكمة، قد حَدَّدَ كَنَهَ علاقاتِ هذه الشرائحِ مع مجتمعاتِها أيضاً. وبقدرِ ما وُضِعَ حدٌّ للمتواطئين بينها، وبقدرِ ما شَكَّلَت هي القوةَ المُمسِكةَ بزمامِ المبادرةِ في السلطة؛ فإنها تَمَكَّنَت من التأثيرِ في ثقافاتِها الاجتماعيةِ إيجاباً كان أم سلباً. ومَقابلَ كونِها أقلَّ صَهراً للحَول، فقد مارست قمعاً واستغلالاً أكثر تأثيراً إزاء طبقاتِها وشرائحِها التحتية. أما الطبقاتُ الكرديةُ الحاكمةُ الأكثر تواطؤاً، وبينما كانت أكثر انفتاحاً على الانصهار، فقد أَسَّسَت حاكميةً أضعف وأوهن على الوجودِ الاجتماعيِّ الكرديّ. كما أنّ مزاياها في تخلخُلِ النفوذِ والقابليةِ للانصهارِ قد أدت إلى اتِّباعِها الإنكارَ إزاءَ اللغةِ والثقافةِ الاجتماعية، وعدمِ جدواها بشأنِها. ومع التوجهِ صوب يومِنا الحاليّ، فقد تَعَدَّت نطاقَ الانصهارِ والصَّهر، مرتقيةً مرتبةَ التواطؤِ والعَمالةِ البالغةِ حدَّ الإبادةِ الثقافية. لقد تَحَوَّلَت إلى مخلوقاتٍ طفيليةٍ تقتاتُ من نَخرِ مجتمعاتِها هي بالذات.

وسوف تَغدو هذه المصطلحاتُ الثلاثةُ تنويريةً للغاية، عندما يَكُونُ الكردُ موضوعَ الحديث. فالعملُ على تعريفِ الكردِ وهم في حالةِ الوجودِ والنشوءِ والوعي، يُشَكِّلُ أرضيةَ الفهمِ الجذريِّ للموضوع. كان وجودُ الكردِ مثارَ جدلٍ وسجال، ربما بالنسبةِ إلى أغلبيةِ المجتمعاتِ والدولِ حتى أَجَلٍ قريب. هذا وقُوبِلَت مساعي إثباتِ وجودِ الكردِ بحوادثِ قمعٍ وإنكارٍ وإبادة،وَصَلَت في القرنَين الأخيرَين مستوىً، يَلُوحُ أنّه ما مِن كيانٍ اجتماعيٍّ شَهِدَ مثيلاً له تحت ظلِّ الحداثةِ الرأسمالية، شكلاً كان أم مضموناً أم عُنفاً تعسفياً.كما ومُورِسَت إباداتٌ ثقافيةٌ وجسدية. وأُقحِمَت شتى أنواعُ العنفِ والوسائلِ الأيديولوجيةِ في الأجندة، بغيةَ الإنكارِ والتشتيتِ جسدياً وثقافياً (ذهنياً) على السواءِ في موطنِهم الأُمّ (كردستان). وبالإمكانِ القولُ أنه لَم تَبقَ آليةُ قمعٍ ونهبٍ وسلبٍ إلا ومارسَتها الحداثةُ الرأسمالية، وصولاً إلى منزلةِ التطهيرِ العرقيِّ والإبادة. من هنا، فالكردايتيةُ ظاهرةٌ لا نظيرَ لها على هذا الصعيد. يُحافظُ اليهودُ بعنايةٍ فائقةٍ على مصطلحِ "الفريد" أو "الذي لا مثيل له" إشارةً إلى الإبادةِ الجماعيةِ التي شَهِدوها. لكنه سيَكُونُ في محلِّه استخدامُ تعبيرِ "الشعب الفريد" أو "الكيان الاجتماعيّ الفريد" بالنسبةِ للكرد؛ ليس على صعيدِ الإباداتِ التي تعرَّضوا لها وحسب، بل وبسببِ جميعِ الممارساتِ التي ترمي إلى إخراجِه من كونِه وجوداً.

المجازرَ التي بُوشِرَ بها مع مصطفى صبحي، قد دامت بِحَقِّ الاشتراكيين حتى راهنِنا. أما إبادةُ الأرمن، فكانت مجردَ بداية، لا غير. في حين لا تزالُ الإبادةُ الثقافيةُ المُسَلَّطةُ على الكردِ مستمرةً إلى الآن. أما السريان والتركمانُ والأقلياتُ والثقافاتُ الأخرى، فأُجبِرَت على التخلي عن عفويتِها وذاتانيتِها من خلالِ الإباداتِ الصغيرةِ المُرَوِّعةِ منها والمعقَّدةِ من قِبَلِ النزعةِ التركياتية. سياقُ القرنَين الأخيرَين من تاريخِ تركيا، ليس مستقلاً عن القوى المهيمنةِ الخارجية؛ بل إنها بمنزلةِ "ولايةٍ خاصةٍ" مُنشَأةٍ بعنايةٍ فائقةٍ ضمن أواصرِ تَبَعيةٍ وثيقة. أي أنّ مكانةَ تركيا في نقطةِ التقاطعِ الحرجة، تَجعلُ من الانعكاسِ الخاصِّ لتوازنِ الهيمنةِ الدوليةِ أمراً ضرورياً. فبالرغمِ من مزاعمِها في الاستقلالِ القاطع، إلا إنها البلدُ والوطنُ والدولةُ القوميةُ التابعةُ للنظامِ المهيمنِ الذي يتحكمُبها بالأكثر، ويتوخى الدقةَ العليا كي لا تتزعزع. من هنا، محالٌ صياغةُ تحليلٍ صائبٍ بصددِ تركيا، ما لَم يُحَلَّلْ نظامُ الهيمنةِ الرأسماليةِ بمنوالٍ صحيح. والعكسُ صحيح. أي أنّ الحلَّ الكونيَّ للنظامِ القائم، هو حلٌّ لتركيا. وهكذا يَغدو ممكناً التحليلُ السليمُ لحقائقِ الإبادةِ أيضاً.

وعندما يَكُونُ الكردُ موضوعَ الحديث، فإنّ لوياثانَ الحداثةِ الرأسماليةِ المُستَحدَثَ ذاك يتقمصُ أقنعةً هي الأكثرُ خِفيةً عن الأنظار، ويُنشئُ شتى أنواعِ القرائن، ويَفرضُ الإبادةَ الثقافيةَ المتركزةَ باضطرادٍ تحت اسمِ "التقدم". لا ريب في أنّه لإبادةِ الكردِ ثقافياً دوافعُها الجذريةُ في نظامِ المدنيةِ المركزيةِ ذاتِ الأصولِ الشرقِ أوسطية، ولا يُمكنُ عزوُها إلى الحداثةِ الرأسماليةِ فقط. إلا أنه، ومن دونِ تسليطِ الضوءِ على الهيمنةِ الرأسماليةِ العصريةِ المنحدرةِ إلى أوروبا الغربيةِ ودورِها في المنطقةِ خلالَ القرنَين الأخيرَين؛ فلن يَكُونَ بمقدورِنا صياغةَ المصطلحاتِ أو النظرياتِ اللازمةِ بصددِ الواقعِ الكرديِّ أو القضيةِ الكرديةِ التي باتت حالةً سرطانية. لقد أُنشِئَت النُخبةُ "التركيةُ البيضاء" الفاشيةُ من مجموعِ شتى أنواعِ اللاقوميةِ المُصابةِ بمَرَضِ السلطةِ أكثر من التركيِّ نفسِه، بحيث لا يُمكنُ عقد علاقةٍ بينها وبين الواقعِ التركيِّ البارزِ للوجودِ على أنقاضِ تقاليدِ الإمبراطوريةِ العثمانية، إلا بناءً على النزعةِ السلطويةِ الضيقة. ومسؤوليةَ إنكلترا أولاً، ومن ثم ألمانيا وفرنسا وغيرها من قوى الهيمنةِ الأوروبيةِ المشهورةِ مُعَيِّنٌ في توظيفِ تلك النخبةِ كآلةِ إبادةٍ مُسَلَّطةٍ على كافةِ ثقافاتِ شعوبِ الشرقِ الأوسط، بما فيها الشعبُ التركيُّ أيضاً. وبينما بالمستطاعِ بكلِّ سهولةٍ إيضاحُ كيف أنّ هذه الفاشيةَ "التركيةَ البيضاءَ" أدت دورَهاكآلةٍ فحسب في مجزرةِ الأرمنِ التي باتت حديثَ الساعة، فإنّ تَمَلُّصَ قوى الهيمنةِ تلك من كشفِ النقابِ عن مسؤولياتِها، وإلقاءَها كاملَ المسؤوليةِ على عاتقِ الأتراك، لا يُمكنُ تفسيره إلا بالتحريفِ عن وعي.

من المستحيلِ إنكارُ وجودِ كردستان، حتى لو كانت واقعَ وطنٍ يعاني من نيرِ الاستعمارِ والإبادة. وسيستمرُّ وجودُها حتى آخرِ فردٍ صامدٍ يطمحُ في العيشِ بحريةٍ وبما يليقُ بواقعِ تاريخِه ومجتمعِه،وملتزماً به. وفي هذه الحالةِ لن تقتصرَ على كونِها موطنَ الكردِ فحسب، بل وستَغدو وطناً مشتركاً يتشاطرُه أيضاً الأرمنُ والسريانُ والتركمانُ والعربُضمن أجواءٍ مفعمةٍ بالديمقراطيةِ والحريةِ والمساواة، وكذلك كلُّ فردٍ أو ثقافةٍ تطمحُ في العيشِ على ثَراهبحريةٍ. هكذا، فانعدامُ الدولةِ القوميةِ على أراضيها، لن يَكُونَ سوءَ طالعٍ لها، بل حظاً سعيداً. أي إنها هذه المرةَ لن تصبحَ وطناًلتمدنٍ طبقيٍّ جديدٍ مُعادٍ للأيكولوجيا، أو لمدنيةٍ دولتيةٍ قوميةٍ جديدة؛ بل ستُمسي وطناً يبزغُ فيه فجرُ العصرانيةِ الديمقراطيةِ على الشرقِ الوسط، ويترعرعُ بين أحضانِه.

يُعتَبَرُ المجتمعُ المديني أكداساً من البنيويات التي يلاقي علمُ المعنى صعوباتٍ عويصةٍ جداً بشأنها.

التطهيرُ العرقي من أفدحِ الجرائم الإنسانية. هذه وقائعُ إنسانيةٌ واجتماعيةٌ لا تقبل الجدل. فضلاً عن استحالةِ استصغارِ منزلةِ المتنورين اليهود في الكفاحِ الأصيل للمجتمع في سبيلِ الحرية والمساواة والديمقراطية. لِنَدَع أنبياءَهم جانباً، ولكنّ وضعَ عددٍ جَمٍّ من المفكرين والثوريين اليهود في العصر الحديث واضحٌ وضوحَ الشمس، بدءاً من سبينوزا، وصولاً إلى ماركس، فرويد ، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي ، أدورنو، حنه آرندت ، وآينشتاين. إني واعٍ تماماً لمتانةِ ورسوخِ الأبعادِ الديمقراطية الاشتراكية لدى المفكرِ اليهودي. لن أكررَ حُكمَ أدورنو مجدداً، ولكن، متى سيُقَدَّم النقدُ والنقدُ الذاتي اللازم للانتقال باليهودية من مكانتها الموضوعية في التطهيرِ العرقي (في الميدانَين الثقافيَّين المادي والمعنوي) إلى مكانةٍ باعثةٍ على الحل ومحرزةٍ للنتائج السياسية المرتقبةِ وممارِسةٍ لمتطلباتها؟ من هنا، فمن المحال تقييم التطهيرِ العرقي لليهود بما هو خليقٌ به، ومن المحال أيضاً إعاقةَ حدوثِ إباداتٍ عرقيةٍ جديدةٍ بحقهم؛ دون التحليلِ السليم للقوموية اليهودية باعتبارها قوةً أيديولوجيةً من جهة، ونظراً لمنزلتها الرياديةِ من جهةٍ أخرى. فالقومويةُ اليهودية ليست قومويةَ أمةٍ صغيرة، بل هي قومويةُ العالَمِ أجمع. هي أبُ جميعِ النزعات القوموية والدولتية القومية. لكن، كَم هو مؤلمٌ أنْ يَكُون اليهودُ أنفسهم أكبرَ ضحايا القوموية، وبما يندر وجودُ شبيهٍ له في التاريخ.

لَطالما أفكر بهذا الموضوع لاهتمامي الزائد به، تماماً مثلما اهتمامي بالمواضيع المشابهة. منذُ أمدٍ بعيدٍ والحكماءُ كانوا قالوا باستحالةِ إطفاءِ النار بالنار. أي، من المحال تحقيق الخلاصِ من نارِ المدنية الكبرى بإضرامِ نيرانِ المدنيات الصغيرة (الدول القومية، والاحتكارات عموماً). فقياديو وزعماءُ جميعِ القبائل والأقوام الفقيرةِ والمسحوقة والمستَعبَدةِ المحاربةِ ضد قوى المدنيةِ على مرِّ التاريخ، إما قُتِلوا أو انتصروا. ولا يمكن البتة نسيان ذكرى الأموات منهم. لكنّ أولَ عملٍ قام به المنتصرون كان أنْ جعلوا من أنفسهم أيضاً مدنية، لأنهم لم يعرفوا شكلاً آخر. فحتى زعماءُ الاشتراكيةِ العلمية الظافرون، عجزوا عن إنقاذِ أنفسهم من التحول إلى مثالِ القفصِ الحديدي للحداثة الرأسمالية. كما أنّ المعرَّضين للإبادةِ العرقية لم يكونوا قد فَكّروا إطلاقاً بأنّ هذا ما سَيَحُلُّ عليهم أيضاً. ولكنه حصل.

ما أسعى لعمله هنا، هو تحويلُ منابعِ هذه "الجرأة" وأشكالِ تجاوزها المحتمَلَةِ إلى قضيةٍ إشكالية، وإبداءُ كفاءاتنا ومهاراتنا في الرد عليها وإيصالِها إلى المعاني والممارسةِ. ذلك أنه لا مجالَ أمامنا لِغَضِّ النظر عن الحداثة المستمرة في وجودها، والمؤديةِ إلى بروزِ بؤرِ الإبادة والتطهير العرقي المتمأسسةِ طردياً مع الزمن. فحقيقةُ عراقِ اليوم الباديةُ للعيان، وماهيةُ كافةِ أنظمةِ الشرق الأوسط في الإبادة العرقية – سواءً علناً أو استتاراً – ومشاركتُها جميعاً في الجرائم والآثام؛ واضحةٌ جلياً ورهيبة بِهَولِها، بحيث أنَّ راصديها يشعرون بها، فما بالك بالمحترقين بألسنةِ لهيبها والمنصهرين في بوتقتها. ورغم ذلك، ثمة بالمقابل نزوعٌ وميولٌ عظمى متطلعةٌ للحياة الحرة. ولكن، مِن المحالِ البتةَ العيشُ بشكلٍ مشترك ومتداخلٍ في نطاقِ ثنائيةِ: إما الحياةُ الحرة أو الإبادةُ الجماعية. إذ لا يمكننا العيشُ هكذا والمشاركةُ في جريمةٍ كهذه. فكيف حصلَ ووصلَت هذه الأراضي بتاريخها إلى هذه الحالة، بعدما كانت منبعَ أسمى معاني الحياة؟ ففي الطرفِ الأولِ تنشبُ حروبُ الأثنيات التي كانت مَهَّدَت الطريقَ لبروزِ أُولى معاني الحياة، وفي الطرفِ المقابل ثمةَ الحروب التي يقودها الإله الأخِير للحداثةُ! ما دام كذلك، فلا خيارَ لنا من التحامل على الموضوع تكراراً ومِراراً، والرَّدِّ على قضاياه، وإنجازِ العمليات اللازمة.

يُعتَبَرُ المجتمعُ المديني أكداساً من البنيويات التي يلاقي علمُ المعنى صعوباتٍ عويصةٍ جداً بشأنها. ووجودُ هذه الأكداسِ بِحَدِّ ذاته على علاقةٍ وثيقةٍ بتحريفِ علمِ المعنى بذاته، وإخراجِهِ من كونهِ علمَ معنى. إنه كائنٌ غريب، بل هو لوياثانٌ مُتَنَكِّبٌ كلَّ أسلحته وقابضٌ عليها بِيَدَيهِ، لِيُرغِمَ ضحيتَهُ – إنْ وُجِدَت – على الاعترافِ بـ"الكذب" ككلمةٍ أخيرةٍ وهي تَحتَضِر، وإلا، فسيقومُ بـ"الإبادة" بشتى الأساليب. إنّ تشبيهَ هذا الكائنِ، أي المدنية، بأيِّ ضربٍ من ضروبِ الوحوش مَوقِفٌ في محله، ولكنْ متخلفٌ للغاية، خاصة إذا كنا نتميز بهويةِ رجلِ العلم، فإنّ مِثلَ هذا الموقفِ لن يذهبَ بنا أبعدَ من خيالِ الطفولة (الخيالات الوحشية). كما أنّ التشخيصَ المقتدرَ للوحش لا يكفي، بل يتطلبُ المداواةَ كمهمةٍ عاجلة. واضحٌ للعيان أنّ كافةَ محاولاتِ العلاج ذهبَت سدى. أما الدماءُ المتدفقةُ والمراقةُ كالسيولِ الجارفة، وأنماطُ الحياة المؤلمةِ والمريرة والمعرَّضَةِ للإبادات الجماعية المروعة، والمجاعةُ والبطالةُ التي هي أنكى من السوءِ ذاته، واستشراءُ مختلفِ أنواعِ الأمراض، ودمارُ البيئة الأيكولوجية (بيئةِ الحياة التي لا غنى عنها للعيش)؛ كلُّ هذه الظواهرِ البارزة في المرحلةِ الأخيرة، والتي يمكنني حشرها في تقريرٍ مقتَضَبٍ ضمنَ جملةٍ تشيرُ للوضعِ الأخير القائم. لذا، وباعتبارِ أنّ الآلافَ يَزعَمون أنهم معنيون بعلمِ الاجتماع كميدانٍ لسوسيولوجيا الحرية والبنيوية، فعليهم إثبات جدارتهم في التشخيص والمعالجة، ما داموا يتطلعون للخلاصِ من أكوامِ الأوساخ التي يَحيَونَها. وفي حالِ العكس، فمثلما قال أدورنو "لن تبقى لجميعِ الآلهة السماوية – لرجالِ العلم الناطقين باسمها – أيةُ كلمةٍ تُقالُ بعدَ تشييدِ معسكراتِ الإبادة الجماعية".

يجب تطوير مشاريع الحياة المشتركة المؤلفة من تركيبة الثقافات الأخرى

الظاهرةُ الأساسيةُ المُلاحَظةُ في سياقِ تصاعُدِ مجتمعِ المدنية، هي ابتلاعُه طردياً للمجتمعِ الذي تنامى بين طواياه، وصَهرُه إياه داخلَ بوتقةِ أجهزةِ العنفِ والاستغلال، وقيامُه تأسيساً على هذه الظاهرةِ بتفكيكِ وتدميرِ العلاقةِ الأيكولوجيةِ التكافليةِ القائمةِ مع الطبيعةِ الأولى، مُحَوِّلاً بالتالي ذاك المجتمعَ إلى مَصدرٍ للموارد، واستثمارِه إلى حينِ نفاذِه باضطراد. والتساؤلُ في هذه الحالةِ "هل سيتبعثرُ المجتمعُ بالتناقضاتِ الداخليةِ أم بالتناقضاتِ الأيكولوجية؟"، باتَ سؤالاً مرحليّاً قائماً. والصحيحُ هو استحالةُ خلاصِ الطبيعتَين الأولى والثانيةِ من معاناةِ الكوارثِ الكبرى تحت نيرِ سيادةِ التناقضَين معاً، في حالِ عدمِ حصولِ تحوُّلٍ إيجابيٍّ جذريٍّ في المدنية. أما التقييماتُ التي تَذهبُ إلى القولِ باستحالةِ عيشِ المجتمعاتِ من دونِ مدنية، وتَنظرُ إلى المجتمعاتِ المتحضرةِ على أنها مجتمعاتٌ ثريةٌ ومنيعة؛ فهي تقييماتٌ أيديولوجيةٌ غالباً ما تَعكسُ براديغما النخبةِ الاحتكاريةِ التَّحَكُّميةِ الاستعمارية. والمستوى الذي بَلَغَه التمايُزُ الطبقيُّ والتمدنُ والتدول، تُقَيِّمُه كافةُ الأوساطُ العلميةُ ذاتُ السيادةِ بكونِه سرطاناً اجتماعياً (والسرطانُ الجسديُّ متعلقٌ بهذه الواقعة). وثمة مؤشراتٌ على ذلك تَزيدُ عن الحدِّ في هذا المضمار. وما التسلحُ النووي، دمارُ البيئة، البطالةُ البنيوية، المجتمعُ الاستهلاكيّ، التضخمُ السكانيُّ المفرط، السرطانُ البيولوجيّ، الأمراضُ الجنسية، والإباداتُ المتزايدةُ سوى بضعةٌ أوليةٌ من تلك المؤشرات. بناءً عليه، فالحضارةُ – العصرانيةُ الديمقراطيةُ تُصبحُ مع الزمنِ بديلاً كسبيلٍ للنفاذ، نظراً لإفراغِها المدنيةَ المتناقضةَ والسرطانيةَ القائمةَ من طابعِها التحكميِّ والاستعماريّ، ولإطرائِها التحولَ عليها. الأمرُ الصحيحُ هو النظرُ إلى انهيارِ المدنيةِ القديمةِ بأنه تصاعُدُ الحضارةِ الديمقراطيةِ واحتلالُها المنزلةَ الرئيسية، عوضاً عن تقييمِه كانهيارٍ للبشريةِ قاطبة. هذا ومن الأهميةِ بمكانٍ الإدراكُ في هذه الحالةِ بأنّ الثقافاتِ الاجتماعيةَ أكثرُ رسوخاً وديمومة، وأنّ الثقافاتِ تملكُ القدرةَ على تحويلِ المدنياتِ وإحداثِ التبايُنِ والتطورِ فيها من جهة، ولديها القابليةُ لإطراءِ التحولاتِ الجذريةِ عليها من الجهةِ الثانية.من هنا، دعكَ جانباً من تقييمِ انهيارِ المدنيةِ في مجتمعٍ ما كخسارةٍ جذرية، بل ينبغي الحكم عليه كتطورٍ إيجابيٍّ إلى آخرِ حدّ، فيما إذا كان فتحَ المجالَ أمام تطوُّرِ الثقافةِ بنيةً ومعنىً في آنٍ معاً. ولَئِنْ مَهَّدَ الطريقَ أمام تحوُّلِ المدنية، فبإمكاننا تفسيرُ هذا التطورِ على أنه تحررٌ جذريٌّ وبلوغٌ إلى الحياةِ الحرة.

اللغةُ بذاتِها تعني الزخمَ الاجتماعيَّ للذهنيةِ والأخلاقِ والجمالياتِ والمشاعرِ والأفكارِ التي اكتسَبَها مجتمعٌ ما. وهي الوجودُ الهوياتيُّ واللحظيُّ المُدرَكُ والمُعَبَّرُ عنه بالنسبةِ للمعنى والعاطفة. والمجتمعُ المُعَبِّرُ عن ذاتِه يدلُّ على امتلاكِه الحجةَ القويةَ للحياة. ذلك أنّ مستوى رُقِيِّ اللغةِ هو مستوى تقدُّمِ الحياة. أي أنّه بقدرِ ما يَرقى مجتمعٌ ما بلغتِه الأمّ، يَكُونُ قد ارتَفعَ بمستوى الحياةِ أيضاً بالمِثل. وبقدرِ ما يتعرضُ مجتمعٌ ما لخُسرانِ لغتِه ولحاكميةِ ونفوذِ لغاتٍ أخرى، يَكُونُ مُستَعمَراً ومتعرضاً للصهرِ والإبادةِ بالمِثل. واضحٌ بسطوعٍ أنّ المجتمعاتِ التي تحيا هذا الواقعَ لن تتمتعَ بحياةٍ مفعمةٍ بالمعاني ذهنياً وأخلاقياً وجمالياً، بل سيُحكَمُ عليها بحياةٍ مأساويةٍ إلى أن تُمحى وتَفنى بوصفِها مجتمعاتٍ مَريضة. هذا ولا مَهربَ من توظيفِ القيمِ المؤسساتيةِ للمجتمعاتِ التي تعاني من فُقدانِ المعنى والجمالياتِ والأخلاقِ كمادةٍ خامّةٍ لقِيمِ المستعمِرين.

والوضعُ الراقي لطبيعةِ المعنى ذاتِ الذكاءِ المرنِ في المجتمع، إنما يقتضي بدورِه رقيَّ القدرةِ على الإدارة. بالمقدورِ تسميةُ العقلِ الاجتماعيِّ بالإدارة. وفي هذه الحالة، من المهمِّ تحليلُ مصطلحَي الإدارةِ الذاتيةِ özyönetim والإدارةِ الغريبةِ الأجنبية. فبينما تَقومُ الإدارةُ الذاتيةُ بتنظيمِ ومراقبةِ القُدُراتِ الكائنةِ في طبيعتِها الاجتماعية، وبالتالي تُؤَمِّنُ سيرورةَ المجتمعِ وتَضمَنُ مَأكلَه ومَأمَنَه؛ فإنّ الإدارةَ الغريبةَ "تُشَرعِنُ" نفسَها كسلطة، لتتمكنَ من إغواءِ المجتمعِ المعنيِّ وسَلبِ عقلِه (بعثرة دماغه)، ولِتَقدِرَ بالتالي على حُكمِه بعدَ تحويلِه إلى مستعمَرةٍ لديها. من هنا، فالإدارةُ الذاتيةُ تتمتعُ بأهميةٍ مصيريةٍ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما. وكيفما يستحيلُ على مجتمعٍ مفتقرٍ للإدارةِ الذاتيةِ الخلاصُ من التحولِ إلى مستعمَرة، فلا مفرَّ من فنائِه وزوالِه ضمن سياقِ الصهرِ والإبادةِ كمَآلٍ طبيعيٍّ لذلك.

تُمَثِّلُ الإداراتُ الغريبةُ عن الذاتِ أكثرَ أشكالِ السلطةِ طغياناً واستعماراً. بناءً عليه، فالمَهَمَةُّ المصيريةُ والحياتيةُ والأخلاقيةُ والعلميةُ والجماليةُ الأهمُّ على الإطلاقِ بالنسبةِ لمجتمعٍ ما، هي بلوغُه قوةَ الإدارةِ الذاتية. ومثلما لا يُمكنُ لمجتمعٍ قاصرٍ عن النجاحِ في هذه المَهَمَّةِ أنْ يتطورَ أخلاقياً وعلمياً وجمالياً، فإنّ تطورَه وتمأسُسَه السياسيَّ والاقتصاديَّ أيضاً يفنى ويَزول. المهمُّ هنا هو منعُ كفاءةِ الإدارةِ من حَملِ ذاتِها نحو شكلِ السلطةِ من جانب، وتَصَدّيها حتى آخرِ رمقٍ تجاه اللاإدارةِ من الجانبِ الآخر. وبقدرِ أهميةِ تحويلِ الإدارةِ إلى سلطة، فعدمُ سلبِ السلطةِ للامتيازاتِ من قبضةِ الإدارةِ أيضاً يتحلى بأهميةٍ كبيرة. فبقدرِ ما تَكُونُ السلطةُ مناهِضةً للمجتمعية، فإنّ كفاءةَ الإدارةِ مجتمعيةٌ بالمِثل. ولا تطورٌ أخلاقيٌّ أو جماليٌّ أو علميٌّ من دونِ كفاءةٍ اجتماعية. هكذا، ومن دونِ الثقافةِ والتثقفِ بالمعنى الضيق، لن يحصلَ التطورُ الاقتصاديُّ والسياسيُّ أيضاً بالمعنى الواسع. وما سيُعاشُ في وضعٍ كهذا، إنما هو الفناءُ تحت ظلِّ الاستعمارِ والصهرِ والإبادة. لن يَكُونَ تخطي الأزمةِ القائمةِ في الحقلِ العلميّ، وبالتالي الأزمةِ الاجتماعيةِ أمراً ممكناً بوصفِها كينونةً بنيويةً وكينونةَ معنى؛ ما لَم يَقُمْ العلمُ السوسيولوجيُّ بتحليلِ مصطلحَي السلطةِ والإدارةِ الديمقراطيةِ بعدَ وضعِهما في مِحورِ اهتماماتِه، وما لَم يَقُمْ ارتباطاً بذلك بتعميمِ الحلَّ على التاريخِ والعلومِ الأخرى.

أما جميعُ الثقافاتِ التي تحيا خارجَ نطاقِ الهويةِ الثقافيةِ الرسمية، فيُفرَضُ عليها في نهايةِ المطافِ أنْ تصبحَ هامشيةً وتُواجِهَ حقيقةَ التصفيةِ والاضحملالِ تلقائياً أو الزوالِ بالإبادةِ والتطهيرِ بنحوٍ غيرِ مباشر، من خلالِ أساليبِ القمعِ والاستغلالِ الرأسماليّ، أو عبرَ سياساتِ الدولةِ القوميةِ في خلقِ مجتمعٍ متجانسٍ رسميّ. والسبيلُ الأصحُّ للوقوفِ في وجهِ ذلك، ولصَونِ وجودِها الثقافيِّ وجعلِه حراً طَليقاً؛ هو تَبَنّي مفهومِ الهويةِ الثقافيةِ المنفتحةِ الأطراف، وتوحيدُها مع الثقافاتِ الأخرى في تركيبةٍ جديدة، وصياغةُ مشاريعِ حياةٍ مشتركةٍ ذاتِ مستوى أرقى وأرفع. وتُعَدُّ الأمةُ الديمقراطية، المواطَنةُ الدستورية، الجمهوريةُ الديمقراطية، ومفهومُ الثقافةِ التعدديةِ والوطنِ التعدُّدِيِّ بِضعةٌ أساسيةٌ من هكذا مشاريع. أما أساليبُ السياسةِ الديمقراطيةِ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيِّ وشبهِ الاستقلالِ الديمقراطيّ، فهي وسائلُ التطبيقِ الأساسيةُ لتلك المشاريع. من هنا، فحلُّ العصرانيةِ الديمقراطيةِ حاجةٌ ماسّةٌ ومصيرية، سواءً للحفاظِ على الثقافاتِ التقليديةِ وتأمينِ حريتِها، أم في سبيلِ عيشِها على شكلِ تركيبةٍ جديدةٍ مع الثقافاتِ العصرية.