النظريةُ الرئيسيةُ القادرةُ على تنويرِ كيفيةِ استدراجِ شعبٍ إلى حافةِ الإبادةِ العِرقية، هي نظريةُ السلطةِ المهيمنةِ المركزية
عبد الله أوجلان
ينبغي وجود تعريفٍ نظريٍّ للسلطةِ المهيمنةِ المركزية، كونَها مصيريّةً بالنسبةِ لموضوعِنا المِحوريّ. فالنظريةُ الرئيسيةُ القادرةُ على تنويرِ كيفيةِ استدراجِ شعبٍ إلى حافةِ الإبادةِ العِرقية، هي نظريةُ السلطةِ المهيمنةِ المركزية. ونظراً لتعريفِ مصطلحِ السلطةِ كفايةً، فمن الأهميةِ بمكان تبيانُ كيفيةِ قيامِ السلطةِ بإقحامِ المجتمعِ بين فكَّيها ضمن مسارِ التطورِ التاريخيّ. يجب أولاً تبيان الطابعِ المهيمنِ للسلطةِ بشكلٍ جيد. فبُؤَرُ السلطةِ مُرغَمةٌ بالضرورةِ منذ ولادتِها على الدخولِ في تنافسٍ عتيدٍ فيما بينها، ليتحولَ ذلك مع الزمنِ إلى حروبٍ ضارية. في البدايةِ ترمي السلطاتُ من شنِّ الحروبِ إلى إفناءِ بعضِها بعضاً للتحولِ إلى مَنْليثيةٍ عملاقة. ولدى الإدراكِ بعد فترةٍ ما أنّ هذا محالٌ ولا فائدة تُرجى منه، تُجمِعُ مراكزُ السلطاتِ الأخرى على أنّ الانضواءَ تحت سيادةِ مركزِ السلطةِ الأمنع والأقوى هو أهونُ الشرَّين. فضلاً عن أنّ الحركاتِ المناهِضةَ للسلطة، والتي تنبثقُ دوماً من القاعِ والخارج، تَجعلُ التحالُفَ أمراً لا مفرَّ منه بين أصحابِ السلطةِ الشركاء فيما بينهم في ظلِّ سلطةٍ مهيمنةٍ واحدة (متحكم، قائد رئيسيّ). السلطاتُ المحضةُ استثنائيةٌ في التاريخ. أما القاعدة، فهي الطابعُ المهيمنُ للسلطة. والسلطةُ المركزيةُ يجب تعريفُها بالمركزِ الاقتصاديِّ بكلِّ تأكيد. ذلك أنّ تكاثُفَ السلطةِ المركزيةِ على عُرىً وثيقةٍ مع المركزِ الذي يَسُودُه التكاثفُ الاقتصاديُّ الرئيسيّ. ولدى قيامِ الاقتصادِ المركزيِّ بترسيخِ نظامِه عبر التوسعِ نحو الأطرافِ على موجاتٍ متتالية، فمن الضروريِّ أنْ يَنقلَ ذلك بالتداخُلِ مع توسعِ السلطةِ المركزية. وبِحُكمِ كونِ السلطةِ المركزيةِ بذاتِ نفسِها بنيةً اقتصاديةً مُرَكَّزةً وطاقةً اقتصاديةً كامنةً هي الأقوى على الإطلاق، فهي تَقومُ بتنشيطِ الاقتصادِ مرحلياً، ناشرةً إياه من المركزِ صوب المحيط. ويُبَدِّلُ المركزُ والأطرافُ مكانَيهما ببعضِهما بعضاً على الدوام، حسبَ التكونِ الأعظميِّ للمَكسَبِ ولتراكُمِ رأسِ المال. وهذا الوضعُ بدورِه يجعلُ من المراحلِ المسماةِ بالأزماتِ أمراً لا مهرب منه.
إذن، والحالُ هذه، فالأطرافُ والأزمةُ بمثابةِ السماتِ الأوليةِ التي لا غنى للسلطةِ والاقتصادِ المركزيَّين عنها. إذ لا داعي لتغييرِ المركز، ما دام النظامُ مُثمِرٌ في عملِه.لكن، ومثلما شوهِدَ في التاريخِ بالأغلب، فإنّ محيطاً مُنتِجاً يَقومُ بانطلاقتِه بالاستفادةِ من تداعياتِ الأزمةِ الناجمةِ عن تَطَفُّلِ المركزِ مع مُضِيِّ الزمن. ويُحقِّقُ المحيطُ وثبتَه هذه بإنجاحِ الاقتصادِ أكثر من خلالِ تطبيقاتٍ تكنولوجيةٍ حديثة. والتكنولوجيا الحديثةُ تعني تقنيةً عسكريةً جديدة. وتَبَدُّلُ أماكنِ السلطةِ في هكذا فتراتٍ تاريخيةٍ حاسمة، ينتهي بتكوُّنِ مراكز وأطرافٍ جديدة. وتتأسسُ هيمنةُ السلطةِ مُجدَّداً. ولَطالما يُصادَفُ تَكَوُّناتٌ سلطويةٌ مهيمنةٌ كهذه في التاريخ، تتصاعدُ بطليعةِ قومٍ جديدٍ أو سلالةٍ جديدة. والفصلُ هنا بين مدى التأثيرِ الحاسمِ للاقتصادِ أوالسلطة، أمرٌ ليس ذا معنى. ذلك أنه، وكيفما يستحيلُ على أيةِ سلطةٍ مهيمنةٍ كانت العملُ من دون مركزٍ اقتصاديّ، كذا يستحيلُ على أيِّ مركزٍ اقتصاديٍّ كان أنْ يُعَزِّزَ نفسَه على المدى الطويل، دون التوجهِ صوب إنشاءِ سلطةٍ مهيمنةٍ مركزية.
الظاهرةُ الأخرى الجدُّ هامةٍ تاريخياً ارتباطاً بالسلطةِ المهيمنةِ المركزية، هي أنّ هذا النظامَ يتمتعُ بخاصيةِ الترابُطِ التسلسليِّ بِما لا يَقبلُ الفراغَ أبداً، وجريانُه زماناً ومكاناً كحلقاتِ السلسلة، لا كمجموعاتٍ متراكمة. أي أنّ طبيعةَ السلطةِ المهيمنةِ لا تَقبَلُ أيِّ فراغٍ زماناً ومكاناً. بل ما هو قائمٌ هو الامتلاءُ الأعظم. أي أنّ الحلقاتِ متداخلةٌ ومتماسكةٌ بمتانة. ولَئنْ ما حصلَ فراغٌ أو انقطاع، تتبدى في الأفقِ احتمالاتُ انهيارِ المركز. وإذا لم تُعَمَّرْ أو تُملأْ مدةً طويلة، يغدو لا ملاذ من الانهيارِ والتبديل. هذا ويجب عدم التفكيرِ في السلطةِ المهيمنةِ المركزيةِ على أنها وضعٌ خاصٌّ بالإمبراطورياتِ الكبرى وحسب. حيث تدورُ المساعي لربطِ كلِّ المجتمعِ ببعضِه بعضاً عبر علاقاتِ السلطةِ المهيمنة. وبدءاً من مركزِ أكبرِ الإمبراطوريات، وصولاً إلى وحدةِ الأسرةِ التي يَتبعُ لها؛ فالقواعدُ المهيمنةُ المماثلةُ تَسري عليها جميعاً. فما يَكُونُه الإمبراطورُ في روما، هو نفسُه ما يَكُونُه الآغا في القريةِ والزوجُ في الأسرة. من هنا، محالٌ استيعابُ وفهمُ المجتمعِ التاريخيّ، في حالِ غضِّ الطَّرْفِ عن أنه منسوجٌ بهكذا عُرىً وروابط مهيمنة. قد يتواجدُ كمٌّ معرفيٌّ لدينا حينذاك، ولكن، لن يتحققَ الإدراكُ الدياليكتيكيُّ قطعياً.
لا تَقتصرُ السلطةُ المهيمنةُ المركزيةُ على الاقتصادِ فحسب، بل هي مُرغَمةٌ أيضاً على إكمالِ ذاتِها بالهيمنةِ الأيديولوجيةِ التي هي تُعادِلُ الاقتصادَ في الأهميةِ بأقلِّ تقدير. إذ لا سيادة لسلطةٍ تفتقرُ إلى الهيمنةِ الأيديولوجية. ونخصُّ بالذِّكرِ في هذا المضمارِ الانطلاقاتِ الميثولوجيةَ والدينيةَ الأساسيةَ البارزةَ في سياقِ المدنية. فإما أنها مناهِضةٌ للهيمنة، أو أنْ يندمجَ جناحٌ منها على الأقلِّ مع السلطة، متحولاً بسرعةٍإلى هيمنةٍ في غضونِ فترةٍ وجيزة. وتصاعُدُ الأديانِ التوحيديةِ خصيصاً بالتداخُلِ مع الهيمنةِ المركزية، أمرٌ مفيدٌ وتعليميٌّ إلى حدٍّ بعيد. فانطلاقاتُها على صِلةٍ مع بالهيمنةِ المطلقة. فإما أنْ يَكُونَ مصطلحُ الربِّ أو اللهِ مصطلحاً بديلاً للهيمنةِ الرئيسية، أو تقديساً وتأليهاً للهيمنةِ عينِها. ويَكُونُ الدينُ في الحالةِ الأولى مناهِضاً ومقاوِماً، في حين يَكُونُ في الحالةِ الثانيةِ انعكاساً للنظامِ المهيمنِ المركزيّ. هذا ويَسُودُ وضعٌ كثيفٌ جداً من الحياةِ والحربِ فيما بينهما، من حيث العلاقاتِ والتناقضات. لن نستطيعَ فهمَ تاريخِ الأديانِ التوحيدية، إلا بالنبشِ والتدقيقِ فيه إلى جانبِ السلطةِ المهيمنةِ المركزية. ولا يُمكنُ فهمُ تاريخِ الأديانِ بشكلٍ آخر. ذلك أنّ تاريخَ الأديانِ المنفصلَ عن السلطةِ والبنيةِ الاقتصادية، ليس إلا سفسطةً كبيرة. والعلاقةُ الكامنةُ بين الدين، الإله، الهيمنة، السلطة، والاقتصاد؛ أكثرُ كثافةً مما يُظَنّ. فكما أنّ التاريخَ الحقَّ هو قيامُ السلطةِ المهيمنةِ بالإحاطةِ التسلسليةِ للسياقِ زماناً ومكاناً، فهو مُحاطٌ أيضاً بالدينِ والإلهِ والهيمنةِ والسلطةِ والاقتصادِ بمنوالٍ متداخل. والمجتمعُ التاريخيُّ يَصِلُ يومَنا الراهنَ متبدياً في هيئةِ هكذا إحاطاتٍ وحلقات.
بشكلٍ ملموس، وكما هو معروف، فهذا السياقُ الذي يبدأُ بالمَلِكِ الأكاديِّ سارغون كأولِ مهيمن، والذي يمتدُّ على شكلِ حلقاتٍ متسلسلة، ويستمرُّ في راهننا مع الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ التي هي مهيمنٌ مشابِهٌ لإمبراطوريةِ سارغون؛ هذا السياقُ إنما هو أَشبَهُ بتدفُّقِ نهرٍ أُمٍّ على صعيدِ نظامِ المدنيةِ المركزية. يتكونُ النهرُ الأُمُّ من هيمناتِ سومر، أكاد، بابل، آشور، الحثيين، الميتانيين، أورارتو، ميديا، البَرسيين، الإسكندر، روما، الساسانيين، البيزنطيين، الإسلام العربيّ، المغول الأتراك، العثمانيين، بريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية. في حين أنّ إمبراطورياتِ مصر، عيلام، هارابا، الصين، الهند، الروسيين، الفرنجة، والجرمان هي بمثابةِ الفروعِ الجانبيةِ للنهرِ الأُمّ. من هنا، سوف يُستَوعَبُ المجتمعُ التاريخيُّ بنحوٍ واقعيٍّ أكثر، فيما إذا رُمِّزَ عينياً بفروعِه الأساسيةِ والجانبيةِ الممتدةِ على طولِ مسارِ تاريخِ المدنيةِ المركزية. لا ريب أنه لهذا النهرِ ولفروعِه الجانبيةِ أنهارٌ أصغر تُشَكِّلُ فروعاً سفليةً وتفيدُ كلٌّ منها بثقافةٍ وحضارةٍ ما. المهمُّ هو إدراكُ أنّ التطورَ التاريخيَّ ليس متقطعاً، وأنّ الهيمنةَ المركزيةَ كَوَّنَت عالَمنا الراهنَ بتعزيزِ وجودِها على الدوام، فيما عدا فتراتِ الانتقالاتِ البَينية. ما من شكٍّ في أنّ هذا التَّكوينَ ليس أحاديَّ الجانب. ففي الجانبِ الآخرِ أَنشَأت القوى المناهِضةُ للهيمنةِ أيضاً وجودَها المستمرَّ منذ بدءِ انطلاقتِها ضد نظامِ المدنيةِ المركزيةِ وقواه المهيمنة، حاملةً القطبَ الآخرَ من العالَم، أي ناقلةً عالَمَ الحضارةِ الديمقراطيةِ إلى يومِنا الراهن. لذا، ما لا يَقبلُ الجدلَ أو النقاش، هو أنّ الجوهرَ الأساسيَّ للعالَمِ هو جوهرٌ ديمقراطيٌّ وأخلاقيٌّ وسياسيٌّ يُعَزِّزُ ويَستَحدثُ نفسَه باستمرار عن طريقِ الكونفدرالياتِ التي لا تنضب، وأنّ القوى المناهِضةَ للهيمنةِ تُنشِئُ عوالِمَها الأيديولوجيةَ في طوايا مذاهبِ الأديانِ عموماً والأديانِ التوحيديةِ خصوصاً، وأنها هي الصاحبُ الحقيقيُّ المنتِجُ للاقتصاد.
تاريخُ الدولِ القوميةِ الانفراديُّ، الذي تَدأَبُ الحداثةُ الرأسماليةُ على بسطِه، عاجزٌ عن تغييرِ الحقيقةِ الكونيةِ للتطورِ العالميِّ التاريخيِّ المهيمنِ المركزيّ، مهما عمِلَت على قمعِه وطمسِه. ذلك أنه من دونِ التاريخِ الكونيِّ لا وجود للتاريخِ الانفراديّ. أو بالأحرى، يتطورُ التاريخُ بتغذيةِ الانفراديِّ والكونيِّ بعضَهما بعضاً. ومن غيرِ المُستَطاعِ فهمُ تواريخِ الأممِ أو الطبقاتِ أو السلالاتِ الانفرادية،أو فهمُ التواريخِ الشخصية، دون مَوضَعَتِها ضمن روابطِها العالمية. أما الحداثةُ الرأسمالية، فبإعلانِها تاريخَها الليبراليَّ على أنه "نهايةُ التاريخ"، تَجهدُ لتكرارِ حيلةٍ لاذَ إليها كلُّ عصرٍ مهيمنٍ كلاسيكيّ. إذ يُعلنُ كلُّ عصرٍ مهيمنٍ عن نفسِه بأنه الأخير. لكنّ التاريخَ يستمر. لذا، لَربما أنّ المنتهيَ هو الحداثةُ الرأسماليةُ بذاتِها. حيث أنّ هذا النظامَ بات من حيث المضمونِ بلا معنى، نظراً لعدمِ بقاءِ أيِّ رابطٍ عينيٍّ له مع التاريخِ والمجتمعِ تزامثناً مع عصرِ رأسِ المالِ الماليِّ العالميّ. كما ويتحققُ تشرذُمُه من حيث الشكلِ أيضاً يوماً بعد يوم. وربما هي المرةُ الأولى في التاريخِ يَستهلكُ فيها النظامُ المهيمنُ المركزيُّ كلَّ قواه الاحتياطية، ليُصابَ بالتصدُّعِ البطيء، ويَدنوَ من نهايتِه وهو يتخبطُ في الأزماتِ دون انقطاع. لقد تمّ تخطيه جوهرياً في العديدِ من مناحيه. ويَسُودُ الفضولُ بشأنِ مدى صونِه نفسَه بالتحصنِ بقوالب مُدَرَّعة. أما الموضوعُ الخَليقُ بالبحثِ والتمحيص، والجديرُ باكتشافِ حقيقتِه؛ فهو التساؤل: هل يُخَلِّدُ هذا النظامُ وجودَه شكلياً بعدمِ الاعترافِ بالزمانِ والمكان، أم أنه يعيشُ مرحلةَ نفاذِه واضمحلالِه؟