النساء

العصر الرأسمالي والمرأة

العصر الرأسمالي هو العصر الأكثر استبداداً واستعماراً للمرأة...

بقلم الأنصاريات

في غضون تشكل الهوية الأيديولوجية الرأسمالية وبنيتها المعنوية، وإلى جانب استثمارها  للجانب العلمي الغالب في عصرها، وامتلاكها أرضية تتخذ الفرد أساساً لها وترتقي بالإنسانية بشكل ظاهر للعيان؛ إلا أن خاصية احتوائها على شتى أنواع المخاطر بين طياتها أيضاً تظهر منذ نشأتها الأولى وبكل جلاء. إن ما ميز الرأسمالية عن الإقطاعية هي التطورات العلمية-التقنية الحاصلة. ومن المعروف أيضاً أن التمأسسات السياسية والاجتماعية العديدة وفي مقدمتها "الدولة القومية"، "الجمهورية"، "العلمانية" كانت نتيجة منبثقة منها. هذا إلى جانب تمهيدها السبيل للأنشطة الطبقية والقومية.

يعد الفرد الرأسمالي حركة انتقام من ظاهرة "المجتمع"، فالهوس الفردي في مرحلة الولادة بالأخص لا يعترف بأية حدود، بل يؤمن بأن انقطاعه عن كل ما يوثق رباطه بالماضي يعني تحرره، ويقرن قوة المال بقوة الرب على السواء. بمعنى آخر، فإن معادلة "الرب=المال" تليق بالمجتمع الرأسمالي أكثر من غيره، فالمال هو التعبير الملموس لروح النظام، والقوة السحرية التي تصوغ كافة القيم بالتأكيد. وبينما تجسدت رموز المجتمع في الكيانات السابقة في الطوطم، الإله، الملك-الإله، فإن المال في الكيان الرأسمالي هو القوة الأكثر تأثيراً، والتي تعكس المجتمع وتعبر عن مضمونه بأقوى الأشكال، وتجذب الروح الفردية إليها، وتُفدى في سبيلها كل الأمور والقيم، وإن دعت الحاجة فيمكن شن حروب ضارية تراق فيها دماء البشرية ويُباد فيها كل البشر في سبيلها. والهوية الروحية المتكونة حول المال تكون سارية المفعول هنا. فالفردية هي الخاصية الروحية الأساسية للنظام المولّد للمجتمع الرأسمالي. ومثلما يعبر العلم عن الذهنية الأساسية لهذا المجتمع، فإن الفردية أيضاً تشكل خاصيته الروحية الأساسية. الفردية هي زئير وزعيق الفرد الذي لا توثقه أية روابط أو مقدسات، ووصل لدرجة الطيش والجنون، والذي لا يقدس سوى منفعته هو منذ ولادة الرأسمالية؛ وهي صراخ الفرد الذي يستمد قوته من "أنا"ه (أنانيته) قبل كل شيء آخر.

تحولت الظروف الرأسمالية المتمحورة حول الربح إلى حروب استفزازية بين الدول مع مضي الزمن. وكلما حظي مفهوم "المزيد من الأرض" بمعنى "المزيد من الربح"، تحولت مشاعر "حب الوطن"، التي كانت تحظى بمعاني مقدسة وتقدمية بادئ ذي بدء، إلى مشاعر شوفينية اعتدائية وانتحت مساراً رجعياً، فمهدت السبيل لاندلاع حروب غير عادلة ومجحفة. بالتالي، وبتشبث الرأسمالية بمصطلح "الوطن" بشكل متطرف إلى جانب المشاعر "القومية" المتطرفة، فتح المجال لاندلاع أكثر الحروب دموية وضراوة في التاريخ الحضاري. وفي يومنا الراهن تُبْذَل جهود حثيثة لتلافي الأنانية المنفعية للرأسمالية بحدث مناقض لها، أي بظاهرة "العولمة". وإلى جانب ذلك لم تجد المجتمعات، التي عاشت مجتمعةً حول ثقافة مشتركة طيلة التاريخ البشري، الفرصة المواتية للبلوغ التام لمصطلح "الوطن الحر"، وذلك بسبب دوغمائية العصور الوسطى وشوفينية الرأسمالية وسماتها الاحتلالية سواءً المباشرة أو غير المباشرة.

أرست الشوفينية القومية قاعدة العداوات الجديدة حيال الحقائق والشعوب الأخرى، وذلك من خلال مفهوم "التفوق" والتعجرف البعيد عن الواقعية. كما حلت الحروب القومية محل المعارك الدينية والمذهبية القديمة، ولجأت الطبقة الرأسمالية إلى لعبة تحريف الهوية الأيديولوجية مثلما فعلت كافة الطبقات المستغِلة المهيمنة في سبيل التستر على مصالحها وإخفائها وتوجيه الأنظار إلى نواحي أخرى مختلفة. أي أن اللعبة ما برحت مستمرة بإزالة القناع الديني والإلهي وإسدال الستار القومي وبطولاته عوضاً عنه. أما الشعوب التي لم تحظَ بهويتها القومية بعد، فستسير قُدُماً وبشكل أفضل نحو الحرية من خلال الوعي القومي والتعاضد فيما بينها. وعلى العموم فالتطرف القومي يقوم بملء الثغرات التي يتركها الدين في حياة الفرد ليثير بذلك المشاعر الشوفينية ويلعب دوراً سلبياً للغاية. هذا الواقع المحتدم في القرن العشرين على وجه الخصوص، سينفث سمومه في المجتمع الدولي عن طريق الحروب الدموية الضارية التي تعد القوت الأيديولوجي الأساسي له، لينشر التجزؤ في العالم الإنساني ويبث روح التمييز العرقي والحقد والنقمة، ويطور بالتالي مواقف مناهضة تماماً للتوجهات الإنسانية ومبادئها.

لقد تعقدت السياسات المتبعة من قبل الدولة إزاء الفرد بشكل أكبر في أجواء المجتمع الرأسمالي، حيث استُهدِف خلق الفرد-الإنسان  المزيف والمصطنع الذي حُدِّدت تكوينته الذهنية والروحية مسبقاً من خلال الإمكانيات التقنية، ليتطور ما يطلق عليه اسم "العبودية المعاصرة" عن التمأسسات. وفي الحقيقة يتم قلب الدوغمائيات والطموحات الفردية غير التابعة لأحد، والمتخذة أساساً في ولادة الرأسمالية رأساً على عقب بأسلوب أمكر وبدهاء أخبث، حيث، وبفضل التطورات المذهلة في تقنيات الاتصال خاصة، خُلق مجتمع وفرد تابعين تماماً بشكل لا نظير له في أي حقبة تاريخية. وهنا يكمن مربض أكبر المخاطر حيث يراد خلق توازن بين الفردية الطائشة والجنونية والتبعية الاجتماعية الطائشة الجنونية.

مر القرن العشرون مثقلاً بالأساليب الإمبريالية وحركات التحرر الوطني، الاشتراكية والديمقراطية، الثورة والثورة المضادة، الترميم والإصلاح، الانقلابات والانقلابات المضادة بشكل لا قرين له في أي فترة تاريخية أخرى، وسُجِّل في ذاكرة التاريخ كأكثر القرون دموية. ويقال فيه بأنه العصر الذي انتاب الطيشُ الإنسانيةَ بأسرها فيه، إذ استخدمت أفظع الأسلحة أثناءه، ووُطِئت فيه كل العقائد والقيم المعنوية وسويت بالأرض، وواجه المجتمع مرحلة فناء كاملة ليس على الصعيد الداخلي فحسب، بل وعلى صعيد البيئة الطبيعية التي يشغلها أيضاً.

ويلعب الجشع في ربح رأس المال دور الإرادة الإلهية الجديدة الكامنة وراء كل هذه التغيرات الجارية. لقد تمخض "الملك-الرب" عن القيمة الفائضة المذهلة في بدايات نشوء النظام العبودي. أما القيمة الفائضة الناجمة عن رأس المال فقد صعّدت من هذا التطور إلى الذروة وأبلت الإنسانية بوباء "الملك-انعدام الرب" بشكل أكبر خطورة وبسرعة البرق.

يعد القرنان التاسع عشر والعشرون الفترة التي بدأ فيها تصدير رأس المال إلى جانب التجارة. ويعتبر تصدير رأس المال (مضموناً) تصديراً للنظام، وانفراج العالم بأسره للحضارة الرأسمالية. لقد خطا عالمنا أكبر خطواته في العولمة التي يقوم بها مع كل نظام توسعي كبير، في الربع الأخير من القرن العشرين، وكأن الكون غدا ساحة توسع وانتشار لا حدود فيها.

أما أوروبا فأصيبت بالإرهاق الشديد نتيجة الحربين العالميتين اللتين خاضتهما، والحروب الاستعمارية الكلاسيكية التي شنتها بأعداد لا حصر لها على الصعيدين الداخلي والخارجي. وبينما جهدت في غمرة ذلك إلى نقل ذاتها إلى العالم، عانت الإرهاق والتعب الشديدين الناجمين عن فوزها المتحقق. وبعد الحرب العالمية الثانية أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة الحضارة الرأسمالية مثلما كانت عليه أوروبا الغِرَّة  المتهورة سالفاً. أي أن تكريس وتجذير التوسع من جهة وإدارته من جهة أخرى غدا الوظيفة التاريخية لأمريكا بعد الآن، حيث استحوذت على وضعية تُمكِّنُها من تجاوز أوروبا بعد توغلها أكثر فأكثر في الثورة العلمية والتقنية، وبلغت الأعالي عن طريق تقنيات الذَرَّة والفضاء والإنترنت. أما الطريق التي سلكتها في سياستها التوسعية فكانت "الاستعمار الحديث" الذي يحتوي في مضمونه على تضخيم أسهم رأس مال الأنظمة الرأسمالية المحلية، ويعتمد من أجل ذلك على أساليب أهمها فتح الباب على مصراعيه للتجوال الحر لرأس المال، ونشر الثقافة الرأسمالية إلى أقصى الأصقاع، والإفادة من وسائل الإعلام والاتصال بأفضل الأشكال. وبهذا المعنى ربما كانت أمريكا هي القوة الإمبريالية الأخيرة في التاريخ الحضاري، والتي فتحت العالم تماماً على الرأسمالية الناضجة.

إن العولمة التي بسطت اسمها في كافة أرجاء المعمورة، تعني بسط نفوذ رأس المال في العالم في نفس الوقت. أما بسط النفوذ بدوره فيتطلب ترسيخ نظام معين في العالم، والقضاء على كافة التناقضات الداخلية الناجمة عنه. ولأجل احتواء الطبقة الرأسمالية كل الكون، استلزم الأمر مع الزمن التسريع من بناء شبكة الاتصالات والمعلوماتية. وحينما حثَّت طبقة الرأسماليين العمالقة المتحدة حول الاقتصاد الليبرالي-الحديث خطاها لتأمين هذه السرعة اللازمة، حدث الانفجار في الميدان التكنولوجي. هكذا، وفي  سبيل إنتاج الأفضل والأجود والأحدث والغوص في السوق العالمية والاستحواذ على واردات هائلة، بنيت الشركات الضخمة على أساس عقد الصفقات الاتفاقية من جهة، وبدأ التنافس الذي لا يمكن ضبطه من جهة أخرى. وهذا ما أقحم العالم الإنساني في مخاطر عالمية وجهاً لوجه. أما المسؤول الوحيد عن هذه المشاكل، فليس إلا الغول الرأسمالي الذي يمتص العالم مادياً ومعنوياً بوحشية مريعة ويُهرِّشه.

لا يمكن عولمة الاقتصاد الليبرالي سوى عن طريق لغة وثقافة ومعلومات وحِرَف وتبادل وتكنولوجيات تسود العالم كله وتحكمه. وهذا بدوره لا يكون سوى بتوجيهٍ من قوة حاكمة منتشرة في كافة الأصقاع وبتنسيقها هي. أما التنسيق الذي سيتمخض عن ذلك فسيكون مصبوغاً باللون الغالب على الموجِّه الحاكم. ولا يمكن تطبيق هذا إلا بتحقيق قبول الشعوب والطبقات اليت تُطبَّق عليها هذه المخططات لها. وعلى هذا الأساس أنشأت الإمبريالية العالمية الحديثة كيانات جديدة بهدف تأمين الليبرالية والاعتدال بين البلدان. وقد تناقضت هذه  الكيانات الجديدة المنظمة، بمقتضى مصالح الطبقة الرأسمالية الدولية الضيقة، مع الآليات الداخلية لتلك الأوطان، وواجهت تصدي الشعوب والأقليات التي تسكن فيها.

سعت الإمبريالية المكورة لتخطي هذه التصديات المعرقلة لها عن طريق التلفظ بكلمات الديمقراطية والسلام والتآخي، مع أنها في الأصل تجهد، بالتستر تحتها، إلى إخماد تحديات الشعوب والأقليات بسياساتها الليبرالية-الحديثة الخبيثة للغاية وربطها بذاتها. إن الإمبريالية التي هدرت طاقاتها تجاه ازدياد الالتفاف حول الاشتراكية وأصيبت بالعقم إزاءها في السبعينيات والثمانينيات؛ باشرت في تطوير مصطلح الديمقراطية الليبرالية كبديل للاشتراكية، وإتباع سلوك "الليبرالية-الحديثة" الذي يعني إعادة تأسيس الذات مع حلول التسعينيات. أما مفهوم "الديمقراطية الليبرالية" ذاك، والذي يُعمَل على تطويره فيما بعد أعوام التسعينيات، فيُقام بنشره في الأرجاء وبسطه احتذاءً بالنتائج المستنبطة من انهيار الاشتراكية المشيدة. أي أن الإمبريالية اليوم تقوم بتطوير الحاجة للدمقرطة، التي لم تستطع الاشتراكية المشيدة تأمينها، ولو ظاهرياً لتجعل من ذاتها ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها بين بلدان العالم. وبتقمصها مهمة ترسيخ السلام العالمي، تبدي عزمها الكبير على إدامة نظامها الحاكم.

بينما تضفي الرأسمالية المكوَّرة بوعودها هذه على شعوب العالم من جهة، فإنها تشن حروباً ضارية ضد مكامن التحديات والمقاومات التي تراها عراقيل أمامها، وتستمر في التسلح اللامحدود للاستيلاء دون أي ريب على مستقبل الإنسانية والتحكم فيها من جهة أخرى. وفي حين تربط الشعوب الفقيرة المتخبطة في الجوع والحرمان بذاتها تحت اسم المعونات الدولية من جانب، فإنها تترك الشعوب المتصدية لها والمتمردة عليها تغوص في الجوع والذل ضمن نطاق سياسات العقوبات الدولية من جانب آخر.

أما في الأماكن التي صعب بلوغ النتائج المتوخاة فيها، فقد حاولت إدامة نفوذها عن طريق أساليب ما بعد الحداثة، التي تستهدف بدورها بناء مجتمع عديم الأيديولوجية، عديم السياسة، عديم اليوبوبيا والخيال، عديم الهوية، ومتفسخ رث. واليوم فإن الشعوب التي أصبحت عرضة لممارسات ما بعد الحداثة، بقيت أمام افتقار أصلها وجهاً لوجه، وانعدمت الروح والحيوية فيها. وبذلك تُبذل الجهود على قدم وساق لسدل الضباب على عالم الفئات الأكثر حيوية في المجتمع لتخديرها وتجميدها، وامتصاص ردود فعلها تماماً بهدف تهميشها.

إن الإمبريالية المكورة التي لا يشغلها شاغل سوى إدامة هيمنتها على العالم ضمن واقع مجتمع بالٍ مهترئ ومجمَّد، مُستَأصَل عن قيمه الإنسانية، والذي زُجَّ به في متاهات الجنسية واللا مبالاة؛ قامت في الوقت نفسه بإخلال التوازن البيئي الطبيعي في الكون حصيلة قيامها بالإنتاج الهائل.

أما وحوش رأس المال الذين يسعون لإشباع نزواتهم ونزوعهم للسطوة والسيطرة عن طريق الكم الهائل من الربح، فلا يترددون بتاتاً في دفع العالم نحو الهاوية بوتيرة أسرع في سبيل تضخم أكبر لهم. وبذلك تُبذل الجهود لخلق نمط من الإنسان غائر بين سراديب الإنتاج الهائل المقدم للاستهلاك، لا يدري ما يريد ولماذا يعيش، عديم الهدف، متذبذب، يعمل على إشباع ذاته من خلال فانتازيا الموضة، معقد، متأزم، مريض ومهتز. وكل ذلك يتم تحت ستار "حقوق الفرد الديمقراطي".

وبذلك تمكن الرجل، الذي استولى على خاصية الإبداع والإنتاج من المرأة في الماضي البعيد، من خلق فرص تطوير تلك الخاصية أكثر فأكثر مع حلول العصر الرأسمالي، الذي يمثل ذروة نظام المجتمعات الطبقية ذات السمة الذكورية بأفضل الأشكال. أما الطبقة البورجوازية التي لعبت دوراً ريادياً في تطوير وسائل الإنتاج، العلم والتقنية، الفلسفة والثقافة في النظام الرأسمالي؛ سعت لبلوغ السلطة بما تقتضيه مصالحها بتضامنها مع الطبقات العاملة والقروية والكادحة، ومع القوة النسائية من هذه الطبقات المسحوقة، واستندت إليها لتدخل في صراع مرير واشتباكات مكثفة مع البنى الإقطاعية والمونارشية المَلَكية القديمة. وفي خضم هذه النزاعات شرعت بعقد اتفاقيات معينة مع الإدارات المونارشية الملكية بين الفينة والأخرى لتقوم بتفسير الأيديولوجية الدينية وفق مآربها هي.

باعتبار أن كل ثورة اجتماعية تدفع الجيل البشري خطوة أخرى نحو الأمام على العموم، فإن الرأسمالية نسبةً للإقطاعية، والعائلة البورجوازية نسبةً للعائلة الإقطاعية، هي الأرقى. وبالتالي فالمرأة البورجوازية تعتبر أرقى نسبةً للمرأة في المجتمع الإقطاعي. وبمقتضى هذا المبدأ العام تعتبر المرأة الموضوع الأساسي المعالَج منذ بزوغ فجر الرأسمالية. فالبورجوازية تسعى لتشكيل نمط المرأة البورجوازية التي تبتغيها نظرياً وعملياً، وتجعلها موضوعاً أساسياً في اللوحات والآثار الفنية، وفي الحياة اليومية أيضاً. أما حدث المساواة الذي تنادي به البورجوازية، فما هو سوى مساواة العائلة البورجوازية حيال العائلة الإقطاعية. فما تبتغيه ليس مساواة المرأة بشكل عام، إنما الحرية –التي لا تُمنَح لها الفرصة لترى النور وتحيا- للعائلة البورجوازية. لذا من الصعب العثور على نشاطات منظمة واسعة النطاق للمرأة في الثورات البورجوازية. ورغم بروز بعض الشخصيات النسائية، إلا أنها لم تتعدى كونها مجرد نماذج رمزية لا غير. ذلك أن مساهمتها في الثورات وانضمامها إليها حصل ضمن نطاق الإطار الذي رسمه لها الرجل في المجتمع الجديد.

ثمة رجال رفعوا راية النضال باسم المرأة في المجتمع البورجوازي. أما المرأة فهي كائن موجود عبر "رجُلها" فقط، وليس لوحدها البتة. أما مدى تمتع المرأة الموجودة عن طريق "رجُلها" بإرادتها المستقلة فهو بحد ذاته موضوع نقاش. وحتى أكثر المجتمعات تقدماً أيضاً، لا تزال المرأة فيها تستند إلى حماية الرجل وحاكميته، أي تسير تحت ولايته وفي كنفه مطلقاً لأنه في اكتسابها قوة الحياة(!).

وبدأت الطبقة البورجوازية بالنفاذ إلى مؤسسة الأسرة، التي غدت أصغر خلية في المجتمع، من خلال الكنائس، وأَتْبَعَت المرأة بذاتها عن طريق عقد الزواج المقحم في هيمنة الرجل رسمياً. هكذا اندرجت علاقات المرأة والرجل تحت قبضة الدولة المونارشية التي استحوذت عليها بعد أن كانت –أي العلاقات- تتبع سياقاً تقدمياً طبيعياً داخل المجتمع سابقاً. وبذريعة الإخلاص والوفاء أُتبِعت المرأة بالرجل ضمن نطاق القوانين الموجودة، فمؤسسة الأسرة هي القاعدة التي حققت عليها كل الأنظمة الإمبريالية-الاستعمارية، وكل أنظمة الحرب الخاصة أيضاً، ذاتها وترسخت.

يمكن مشاهدة فوارق هامة في التكوينة العائلية في يومنا الراهن حسب واقع الطبقة (أو الوطن) الساحقة أو المسحوقة، أو بين البلدان المتخلفة التي تسودها القواعد والضوابط المتحجرة، وبين البلدان التي تنعم بكل ثمار المرحلة الإمبريالية. لكن ثمة نقطة مشتركة بينها جميعها وهي، استمرار الأسرة في حياتها ووجودها ضمن إطار واقع تمأسس الملكية الخاصة فيها. ففي حين يقوم أحدها بتهديد الإنسانية من خلال كافة أنواع فرض الذات، بنظرته إلى المرأة على أنها هي الشرف فلا تكاد تُعرَف وراء الأبواب الموصدة المُحكَمة؛ يجلب الثاني معه تدني القيم الإنسانية بأسرها وترديها بفتح المجال الخارجي للمرأة تحت اسم الحقوق المعطاة لها.

مع تطور الرأسمالية يتحول نمط العائلة الإقطاعية الواسع النطاق إلى نمط العائلة النواة. ويساهم ماركس في توضيح هذا الوضع بقوله "تنحل وثائق الروابط المقامة على أساس الدم أو الأرض مع بروز نمط الإنتاج الرأسمالي". وبذلك تكون المرأة قد تخلصت نوعاً ما من ضغوطات حماتها وحماها (أم وأبو زوجها)، إلا أنه يمكن مشاهدة هذا النمط العائلي ذي الكم الكبير في بلدان الشرق مستمراً حتى اليوم. أما في البلدان الغربية فحتى العائلة النواة نراها تواجه التحطم والتفسخ رويداً رويداً. وما الظواهر التي نلحظها من قبيل ازدياد حالات الطلاق، تفشي عمليات الإجهاض (الكورتاج)، عيش المرأة والرجل تحت سقف واحد رغم عدم وجود سند الزواج، انفصال الأولاد الراشدين عن البيت؛ سوى إطراء المرونة والتعديل على حياة العائلة القالبية.

إن كنا نود الحديث عن تحرر المرأة، فعلينا قبل كل شيء توجيه الانتقادات اللاذعة والصارمة إلى مؤسسة الأسرة التي تخنق المرأة من جميع النواحي، وبالتالي القيام بتحليل سليم لها. ذلك أنه ثمة ديكتاتورية ومُلْكية سائدة داخل الأسرة، وهناك حرمان مريع للمرأة من كافة حقوقها. هذا إلى جانب تخبطها في الآلام، ويُنظَر إليها باستحقار واستصغار لا متناهيين، والعمل على الإطاحة بها واستغلالها جسدياً لتتحول بذلك إلى كائن تابع لا غير، ولا يعيش سوى بعواطفه. وما هذا سوى أكبر اعتداء واستهتار بحقوق الإنسان.

غدت المرأة على مر التاريخ موضوعاً للبيع والشراء قبل ظهور النقود بأمد طويل، وصارت وسيلة لتغيير الأوضاع والثراء المادي. أما في النظام الرأسمالي –الإمبريالي فتحولت علاقة الثالوث "النقد –الكدح –المرأة" إلى "السلعة" التي تعتبر الشكل الأخير لها. ذلك أن كل العلاقات تتشكل بموجب ميدان التسويق والمتاجرة في الرأسمالية، بدءاً من علاقات الإنسان والزواج ومروراً بالثقافة والحياة السياسية بحد ذاتها، ووصولاً إلى الحقوق. أي، وباقتضاب، كل شيء يدخل ضمن نطاق هذا التسويق. من هنا يمكن رؤية أن الإنسان ضمن النظام الرأسمالي –الإمبريالي متعلق بالمادة وأن علاقات الإنسان تتطور ضمن إطار السلعة أكثر من أن يرتبط الإنسان بالإنسان ويهتم به. وهنا لا يمكن مشاهدة المقدسات السامية بصدد المرأة والحرية والضمير والمعنويات، بل يتعامل الناس مع بعضهم على أساس المصالح والأهواء المادية البحتة فحسب. وكلما توثقت أواصر الارتباط بالمادة، كلما ازداد الإنسان اغتراباً عن ذاته ليغدو عبداً أسيراً لما شيّده هو وأبدعه، وتحتل المادية الصدارة في علاقاته لتهوي المعنويات في الهاوية، ولا يتعامل الإنسان مع أخيه الإنسان سوى في النقاط التي تلتقي فيها مصالحهم فقط. وكحصيلة طبيعية لهذا الوضع، يغدو النقد ظاهرة محدِّدة ومؤثرة حاسمة في توجيه تصرفات الإنسان وسلوكه، وإكساب القيم الموجودة شكلاً معيناً.

أما المرأة التي صارت مُلْك الأسرة حتى الدرجة الأخيرة، فصارت مُلْك رأس المال أيضاً، مع ظهور الرأسمالية الليبرالية. لذا لا تقتصر مسألة محاسبة سحق المرأة على المرأة فقط، بل إنها تعني محاسبة كافة علاقات الملكية أيضاً. فحتى بعض الحقوق المكتسبة عن طريق التشبه بالرجل قد كرّست ملكية المرأة أكثر فأكثر لتصبح تابعة لنفوذ الرجل وسيطرته دون حساب أو عتاب لما هو قائم وموجود. وإذا كانت قد مُنِحت حق بلوغ مكانة أرفع وأرقى، فذلك لكي تلعب دور الرجل بشكل أفضل.

هنا، ثمة دفع للمرأة في خداع مع نفسها لتقول "لقد تحررت تماماً، بل وحتى أن هذا كثير عليّ"، مع أنها لم تنعم بأية فرصة معقولة للتحرر. وبِذَرِّ الغبار في عيونها يُحط من شأنها لتصل إلى وضعية تكون فيها أكبر رأس مال وأثمن مادة في قبضة الرجل والمجتمع. أي أنها استُغِلّت على الدوام كأداة تضمن تجذير النظام القائم وتأمين صيرورته ليغدو ذلك قاعدة لا غنى عنها، سواء من خلال مؤسسة الأسرة المشيدة أو عن طريق التجارة بجنس المرأة. وفي حين تصبح المرأة –التي هي مُلْك رأس المال ورصيده- وسيلة للبيع من جهة، نراها تعمل كخادمة دون سأم في هيئات ومؤسسات رأس المال ذاك من الجهة الثانية. وحتى في أتفه عمليات البيع نرى المرأة كوسيلة للمتاجرة بين صاحب السلعة والحشد الغفير من الناس.

لا يمكن الحديث عن وجود ممارسة سليمة للجنس، فأي بيت، تسوده العلاقات الفاحشة الموجودة في بيت الدعارة. ذلك أن "الجنس" يعد العنصر الأساسي في تدني الشعوب، ويحتوي في مضمونه على إنكار العشق. بهذا المعنى يعتبر القرن العشرون قرن إنكار العشق من خلال مفهومه في ممارسة الجنس بشكل فج.

تعد النساء الوسيلة الأكثر فاعلية التي استخدمتها الرأسمالية الليبرالية –الحديثة للوصول إلى سيادة عالمية مكورة. ولكونها تتخذ من التوسع في المعمورة استراتيجية لها، فقد وضعت المرأة في مركز سياسات تخدير الشعوب وزجها في الليبرالية. أما سوق الدعارة المطور في مجتمعنا الحالي في سبيل تدعيم مؤسسة الأسرة النواة لتحافظ على ذاتها؛ فما هو سوى سوق استهلاكي لهدر الطاقة الجنسية. إلى جانب ذلك فنظام الأسرة الأحادية، والمطبق على مدى تاريخ المجتمعات الطبقية، لم يعنِ سوى الزواج الأحادي بالنسبة للمرأة فقط. ومن خلال الغرائز والنزوات الشهوانية للرجل، والمحرَّضة بالإثارات الجنسية، لتؤمِّن طبقة رأس المال أضخم رصيد لها وأكبر مورد لربحها. أما العنوان الوحيد الذي سيتم اللجوء إليه لإشباع النزوات الشهوانية المثارة في الرجل، فهو سوق الدعارة بلا ريب.

وتُباع النساء في سوق الفحوش والدعارة الدولية كأي سلعة أخرى بسعر تافه وزهيد. ويحاذي الفحوش –من حيث المنشأ- فترة ظهور نمط مؤسسة الأسرة الأحادية. ومن ثم استمرت في المرحلة العبودية والإقطاعية، وكذلك حتى آخر فترات المرحلة الرأسمالية، لتصل إلى يومنا هذا وتتحول إلى سوق يَدُرُّ بالربح الأوفر والموارد الأكثر. وبالتالي غدا سوق الدعارة بين صفوف النساء في الماضي القريب، حيث تركزت فيه اللامساواة وتكثف التمايز في الواردات أكثر من أي وقت مضى، مصدراً لتلك الواردات تارةً، ومهنة منتحاة تارةً أخرى؛ عن طريق حض الرأسمالية له والتشجيع عليه. كما غدا مؤسسة نقيضة لمقدسات المجتمع ومجردة عنه، وبالمقابل صار –على العكس تماماً- مؤسسة يتشبث بها الجنس الذكوري ويستغلها أيضاً.

كما برز إلى الساحة ظاهرتا "السُّحاق" و"اللواط" بِتحفيز أرباب السوق الدولية لهما والحث عليهما لجشعهم في الحصول على ربح أكثر، ولعدم اكتفائهم بالنساء اللاتي يرجحن مهنة الدعارة. وبتسخير الرأسمالية  الليبرالية –الحديثة للعلوم الطبية في خدمتها، عملت على إطراء تحولات بيولوجية على الرجل لتنشر بذلك موضة "تأنيث الرجل" (التخنيث) ولتجعل الجنس الرجولي أيضاً سلعة يُتاجَر بها في سوق الدعارة.

إذن، فالنظام ذي الهيمنة الذكورية قد عمل على "تأنيث" الجنس الذكوري واستغلاله في سبيل تضخمه الاقتصادي الذي يعتبر هدفه الوحيد. أي أن سياسات السوق العالمية للنظام العالمي الجديد تقوم اليوم على تعقيد الظاهرة الجنسية لإضفاء الشرعية عليها، بعد العمل على الحط من شأن القيم المقدسة المخلوقة على مدى التاريخ البشري، وإسقاطها إلى الحضيض. أما بالنسبة لوضع المرأة المفضَّلة داخل الأسرة النواة حسب معايير أخلاق المجتمع، فهو لوحة متأزمة بكل معنى الكلمة، ذلك أنها خادمة بلا أجرة ووسيلة جنسية لا غير في مؤسسة التزاوج التي تسمى في المجتمع بـ"المنزل الخاص". أما النساء العاملات فيستغلهن أرباب العمل في أماكن عملهن، وأزواجهن في المنزل؛ ذلك أنهن يقضين نصف يومهن في العمل مقابل أجر معين للمساهمة في الاقتصاد المنزلي، والنصف الثاني في العمل بلا أجر بتحملهن أعباء الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال. وبهذا الشكل فإن الوضع الذي زُجت فيه المرأة في الأسرة النواة، قد جعلها تتخلف عن الانضمام إلى النشاطات السياسية والعلمية والاجتماعية –الثقافية، بالإضافة إلى أنه حَدَّ من فرص وإمكانيات إيجاد الحلول اللازمة لهذه المشاكل التي تعانيها.

من الميادين الأخرى التي تجتر فيها المرأة الآلام الموخزة اليوم هي، الميدان الإعلامي. حيث يُشاهَد كيف تتحول المرأة المنفتحة إلى الخارج إلى سلعة تستخدم حسب مآرب العقلية الإمبريالية، عوضاً عن أن تعمل لأجل الخدمات الإنسانية. وعبر الوسائط الإعلامية يتم نقش نمط حياة الحكام وحياتهم العائلية الداخلية وكل ما يبتغونه في عقول وأفئدة الملايين، مما يؤول ذلك مع مرور الأيام إلى تشابه الجماهير وتماثل رغباتها وأفكارها وطلباتها وأهدافها وطموحاتها وخيالاتها أيضاً مع بعضها البعض. كما تم تهميش علاقات الإنسان وإضفاء السذاجة عليها عبر العواطف الرخيصة والبطولات البسيطة والانحطاط حيال الشهوات والنزوات؛ ومن ثم تعبئتها بالممارسات الجنسية لتغوض فيها. وبينما يُعمَل على تحويل البشر إلى أدوات استهلاكية عن طريق المجال الإعلامي، فإنهم، وعندما لا يبقى لديهم ما يستهلكونه ويهدرونه، ينزعون إلى هدر وهضم بعضهم البعض بكل سهولة. وبهذا المعنى يمكننا في هذه النقطة رؤية مصدر النزعات السادية الجنسية والتنازلات وعدم الإشباع بهذا الصدد.

باشرت المرأة في العصر الحديث، والتي اقتصرت على الأنشطة التعليمية والعملية والحياة الاجتماعية وما شابهها من الأجواء والظروف التي يبدو أن الليبرالية –الحديثة قد أمّنتها؛ باستيعاب أن كل ذلك لا يعبر عن خلاصها الحقيقي البتة، بل إنه مجرد حلول مزيفة. وهذا ما جعلها تعاني من نفسية عقيمة وَلَّدت معها الأمراض النفسية والروحية الجديدة لعصرنا. فالصُراع والاضطرابات والصدمات النفسية والشذوذ الجنسي، كلها أسفرت عن ظهور مرض الأيدز وما شابهه من أمراض تفشت بسرعة البرق بين صفوف المرأة والرجل على السواء، لتنتشر في كافة أرجاء الكون وتصل إلى مستوى تهدد فيه الإنسانية بأسرها مع تطور الرأسمالية المكورة. وكحصيلة وانعكاس ملموس للأزمة الاجتماعية المتفاقمة عن ذلك، فإن عمليات الطلاق وانعدام التفاهم بشكل حاد، والتمردات على الزواج الأحادي؛ كلها تفيد بأن نموذج الأسرة النواة يتجه نحو الإفلاس لا محال. إن ولوج النموذج الأسروي، الذي اشتهر بنواحيه الرفيعة والحميدة الحسنة، في أزمة خانقة كهذه؛ يفرض حتمية إعادة ترتيب العلاقات بن الأجناس مع مرور الأيام.

دفع هذا العقم الاجتماعي المعاش المرأةَ إلى البحث مجدداً عن سبل الخلاص الحاسم منذ أعوام الثمانينيات. من هنا فالحركات النسائية البارزة بعد الثمانينيات قد أسفرت عن تطور الوعي لدرجة ملحوظة نسبةً للماضي، ونمّت عن ظهور مرحلة استنارة تُعرِّف المرأة بتاريخها. هذه الحركات النسائية الحديثة التي تستمد جذورها من النتائج التي أثمرتها الحركات النسائية السابقة التي ظهرت على مسرح التاريخ في القرن التاسع عشر بعد كفاح مرير ونضال ملحوظ لها؛ قد رجحت لديها كفة التنظير للأمور، بينما بقيت مجردة من الحياة العملية والسياسية في مواقفها.

وفي بحوث المرأة الجديدة المبتدئة أساساً داخل حركات الشبيبة بين عامي 1968_ 1970، اقتصرت معالجة المشلكة على الأبعاد النفسية والروحية. وعوضاً عن الصراع المباشر مع الجنس الذكوري المهيمن، انكمشت على ذاتها وتقلصت. وبالإضافة إلى نشاطات رفع مستوى الوعي والتعبئة، توصلت هذه الحركات إلى مستوى ملحوظ من النقاشات وسكبها على الورق لطرح هذه القضايا للمعالجة. إلا أن هذه التيارات التي تتألف قاعدتها من الطبقات الوسطى، بقيت عاجزة عن النزول بما فيه الكفاية إلى الطبقات السفلى، التي تعاني من الإشكاليات الاجتماعية؛ فظلت عالقة فوق المجتمع.

هذه الحركات الحديثة المتطورة بشكل متداخل على الأغلب مع الحركات الشبيببية، تميزت بردود فعلها ونقمتها على كافة أنواع السلطة نتيجة الدروس المستنبطة من الماضي، مما عرقلها ذلك عن تكريسها لتنظيم جدي داخلها، فنظمت ذاتها على شكل مجموعات صغيرة تنبذ فكرة البنية الهرمية على الأرجح، ولا تعترف بأية حقوق استثنائية لذلك بادئ ذي بدء. بل لم تعطِ للهرمية واستهداف السلطة وتقسيم العمل أو الاختصاص والمهارة أي مكان في داخلها على الإطلاق، مما نمّ ذلك عن ظهور نموذج بنيوي لا يتمتع بأية متانة أو قوة، متناحر في داخله، ومتجزئ. إن شكل التنظيم، مفهوم السلطة، مفهوم السيطرة والقوة والحاكمية، التضادات الأيديولوجية –السياسية، التعقيدات في وجهات النظر وفوضويتها؛ كل ذلك جعل تلك الحركات في وضعية مجزأة للغاية، قابلة للتشتت والتبعثر بسرعة. ورغم قيامها بعدة عمليات مشتركة ضمن إطار المطاليب الاجتماعية واليومية المتنوعة بين الفينة والأخرى، إلا أنها في الأصل لم تقدر على امتلاك قوة منيعة متكاملة.

ومن إحدى أهم العوامل المؤثرة في ظهور نتيجة كهذه هي، الافتقار إلى إرشادات أيديولوجية شاملة، وعدم تحديد سبلها السياسية اللازمة، بل وحتى دحض هذه الأفكار. فالإرشاد الأيديولوجي المبدئي والمستقر لا يمكن خلقه أو تأمين إحيائه سوى عن طريق تحقيق مجتمعيته وجمهرته عبر السبل السياسية والتنظيمية. وأي تيار أيديولوجي ذي توجه ميًال للسلطة، لا يمكن بلوغه الاقتدار ما لم يتحلَّ بمفهوم التنظيم والهرمية، ونمط القوة والاقتدار، ووسائل الدعاية والتحريض. كما أنه من المحال على حركة مشتتة تفتقر للإرشادات بخصوص السلطة، أن تتحلى بقوة التغيير على ضوء أهدافها ومواقفها وعقوباتها.

تعبر ميول البورجوازية الصغيرة في المطالبة بحقوقها، وخلق نطاق حياة خاصة بها ومتميزة بحيث لن يستطيع الغير التدخل أو التحدث بحقها، ولا تتكفل هي مسؤولية أحد من الخارج؛ تعبر عن مضمون الفامينية. ومن الواضح أن التجرد من المجتمع لن يستطيع إبداء أي تأثير على البنية الاجتماعية إيجابياً كان أم سلبياً. وفي الصدارة يأتي موضوع التقرب من الجنس الآخر حيث إما يتم الاتفاق والمساومة تحت اسم المشاركة والاتحاد، أو رفضه تماماً والنفور منه ونبذه بفظاظة. ويتحتم علينا ملاحظة المواقف التسلطية المتوارية ضمن هذه التقربات.

أما مفهوم الحرية المجردة من الرجل فيستحيل أن يكون اجتماعياً، ولا ملاذ من أن ينعزل أصحاب هذا المفهوم عن المجتمع عاجلاً أم آجلاً. وقد برهنت كل أشكال الكفاح الاجتماعي والأثني والمجتمعي على أنه يستحيل وجود حرية مجردة لوحدها. ذلك أنه يتحتم على برنامج الحرية –إذا كان يستهدف الإطاحة بالنظام الأبوي- أن يتحلى بمضمون شامل للغاية بقدر ما يكون تنظيمياً وموحداً. ولا يمكن تحرير النساء أو الرجال أو الشبيبة أو الأطفال أو تحقيق استقلاليتهم كل على حدة لوحدهم.

بالتالي عجزت الحركات الفامينية عن شق طريق تحرير المرأة لتداولها القضية على أساس الجنس فقط، إذ أنه، وإلى جانب التحليلات الجنسية في الأساس، يستلزم التمأسس وتطوير كيان أيديولوجي وتنظيمي وإداري تجاه السلطة الذكورية في شخصية المرأة. هذا بالإضافة إلى نقل النتائج السياسية المتوخاة إلى المجتمع في الوقت عينه.

ومن الأمراض الأخرى للفامينية، تجريد ذاتها عن المشاكل الاجتماعية تحت اسم الاستقلالية. كما يلاحَظ تقربها في وجهات نظرها للتاريخ على أساس تحليل القضية على أساس اقتصادي بحت، أو تفسير الموضوع بتركيزه حول جنس المرأة وتحليله بشكل أحادي الجانب، أو دحض المرحلة الأمومية التي تعد ميراث المرأة، ورفضها من جوانب عديدة.

ومع حلول القرن الحادي والعشرين شرعت مسألة المرأة تكوّن الأرضية الملائمة لتنظيم حركة المرأة على الصعيد الكوني، بحيث ستحتل موقعا تكون أكثر نشاطاً وفاعلية فيه، ترابُطاً مع شكل الإنتاج في هذا القرن الذي تطورت فيه المعارف والمعلوماتية، والعلم والتقنية، وستتطور أكثر فأكثر. فإشكاليات المساهمة في الفعاليات الاجتماعية الأنفة الذكر خلال المراحل السابقة، قد بدأت اليوم بالتفكك والانحلال نوعاً ما، وإن لم يكن الأمر سياناً بالنسبة لكافة الفئات والشرائح. فالمرأة اليوم بِمِكنتها دخول الجامعات وتلقي التعليم في الكليات التي تختارها وتشاؤها هي، أو احتلال مكانها في الكيانات السياسية والمجالس القائمة ضمن النِّسَب المحددة لها. هذا بالإضافة إلى أنها تستفيد من حقها في الانتخابات وترشيح ذاتها، أو تفتح الشركات ومكاتب العمل وتديرها. أي أنها قد حازت على مثل هذه الحقوق وما شابهها ضمن سياق النظام العالمي الجديد المتكور، بشرط ألا يناقض ذلك منافع النظام الذكوري المهيمن ومصالحه.

إن امتلاك حقوق لا يمكن الإفادة منها ضمن النظام الإمبريالي الحالي، حيث يتفشى فيه عدم تكافؤ الفرص إلى أقصى الحدود، لا يعبر عن أي شيء البتة. أما في الأماكن التي تظهر محاولات الإفادة من الحقوق وتفعيلها، فثمة محدوديات وضغوطات كابحة متزايدة. وما تلك الحقوق التي اعترفت بها الإمبريالية المكورة –التي تعبر عن أعلى قمة لتمأسس الهيمنة الذكورية- للمرأة ضمن حدود مصالحها، سوى بهدف عرقلة نشوء أي حركة فعالة وراديكالية تنادي بحرية المرأة. فهي تسعى للحفاظ على المرأة في وضعية معينة، تماماً مثلما فعلت بعد أعوام التسعينيات حين اعترفت للشعوب والأقليات ببعض الحقوق المحدودة بمقتضى مصالحها الإمبريالية.

وفي الأصل، فهذه السياسات الخبيثة، التي يصعب على فئات المجتمع المخدَّر رؤيتها وإدراكها، ما هي إلا تعبير صارخ عن عقم الإمبريالية واتجاهها نحو الإفلاس والانهيار. ولكي لا تفلس تعمل بكل جهدها على جذب المرأة من جانب، والشعوب والأقليات والثقافات الإثنية من جانب آخر إلى مجال تأثيرها ومراكز نفوذها. أما بالنسبة للكيانات الدولية وفوق الدولية، والمشيدة بذريعة حماية حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية، فما هي سوى آلية حفاظ الإمبريالية المكورة على الإنسانية العالمية ضمن نطاق استعماري دقيق ورقيق.

أما عن سياسة الآلية الإمبريالية الدولية الحديثة تلك بصدد المرأة، فقد أُعِدَّت انطلاقاً من سمة القرن الحادي والعشرين، حيث تتوفر فيه إمكانيات تطور كفاح المرأة. وتسعى هذه السياسة الحديثة إلى إعاقة تطور وتنظيم أي حركة محتملة لحرية المرأة. فالإمبريالية التي لا يمكنها تحمُّل تواجد أي حركة نسائية بمقدورها تجسيد الحرية والديمقراطية والسلام والتآخي الحق في ذاتها؛ قامت بجمع بعض الشرائح النسائية التي تلقت التدريب تحت مراقبتها هي، وتعشعش فيها منطق الهيمنة الذكورية المتسم بالملكية الخاصة الطاغية عليه، وتجردت من جوهرها وماضيها التاريخي؛ جاهدةً بذلك لطرح نموذج لحركة نسائية متفسخة رثة تطالب ببضعة مطاليب صغيرة تافهة قانونية، لا تتعدى حدود الملكية الخاصة، وذلك بغية الإطاحة بأية حركة نسائية تحررية قد تتطور خارج نطاق مراقبتها وتنادي بالتحرر الاجتماعي الحق. ولهذه العلة يتحتم على المرأة في يومنا الحالي أن تقوم بتحليل هذه المرحلة وتصل إلى صياغة إرشادات حاسمة للكفاح المشترك كضرورة حياتية، ذلك أن بعض الحقوق المتعلقة بالمرأة والمعتَرَف بها عن طريق القوانين لا يستفيد منها سوى شريحة معينة من النساء لا غير.

تمر المرأة أيضاً في يومنا هذا بفرز طبقي داخل صفوفها ضمن شروط نظام الملكية الخاصة السائد. إلا أن ما يحدد الأسس الطبقية التي تنتمي إليها فهو الموقع الاجتماعي للرجل الذي يلعب دور الأب أو الزوج كَوَليّ أمرها. لذا عليها أن تتعدى حدود هذه التناقضات الطبقية المزيفة وتكافح قُدُماً في سبيل هويتها، لتستطيع بذلك إيجاد الحلول لقضيتها العالمية. هذا بالإضافة إلى وجوب مطالبتها بإعادة ترتيب حقوقها الشرعية التي تتمتع بها لتتمكن بذلك كافة النساء من الإفادة منها، وتكافح بالتالي في سبيل شقيقاتها اللائي لا يستطعن الإفادة منها. أما بالنسبة للتوجه الأساسي لهذا الكفاح فينبغي أن يكون توجهاً إلى مجتمع لا طبقي، خاوٍ من الشدة، يستتب فيه الأمن وتسوده الديمقراطية.

عاشت الإنسانية على مر تاريخ المجتمعات الطبقية الأبوية وهي تتطلع لهذه اليوتوبيا، ولكن كل قفزة ثورية ظهرت تمكنت من إيصال هذا النظام الاجتماعي المرتأى إلى نقطة معينة. أما بالنسبة للنظام الرأسمالي –الإمبريالي الأخير فقد استخدم هذه المصطلحات بكثرة بعد أن فسرها ضمن نطاق مصالحه وحساباته السياسية، ومن ثم قدمها للإنسانية على أنها "حضارة"، مع أن ذلك لا يعني سوى الانحصار تماماً في اليوم المعاش فقط، والانفصال عن جذور الإنسانية العظيمة. ذلك أن مفهوم الحضارة ذا الهيمنة الذكورية القائمة، إنما يرتأي احتقار بدايات الإنسانية، بل وحتى إنكارها. وإذا كان الإنسان "البدائي" (أو المجتمع "البدائي") يختلف كثيراً عما هو عليه اليوم، فذلك لأن هذا "البدائي" يحتوي على لون المرأة وطابع المرأة، ولكونه إنساني. أما من هو خارج نطاق الإنسانية، وحيواني متوحش، فهو الإنسان الذي نطلق عليه اليوم اسم "الإنسان المتحضر"، والمثقل بلون الرجل المتسلط وطابعه؛ ذلك أن ما ننعته باسم "الحضارة" في نظام المجتمع الطبقي الأبوي يحتوي في جنباته على من هو دنس، وأسير الغرائز والنزوات، آلي بحت، مستهلك ومبذِّر ومدمر.

لكن، وفي الأصل، تجد كل من هذه المصطلحات "المساواة، الحرية، السلام، الأخوة" تعبيرها الحقيقي في الحضارة الأمومية التي تعد بداية الحضارة، والمتسمة بالطابع اللاطبقي واللااستغلالي، السلمي والآمن. لقد أنسى المجتمع الطبقي الأبوي، الذي يبلغ عمره أربعة آلاف سنة تقريباً، الإنسانيةَ حقيقتها السابقة له والممتدة على مدى خمسة آلاف سنة، وأنكرها، واستأصلها من جوهرها "الأمومي" الإنساني. أما "الإلهة الأم" فقد عُرِفت في النظام الطبقي الأبوي على أنها "مشعوذة"، ورُجِمت لأنها "الشيطان"، وقُتِلت الأنوثة الحقيقية وحٌوِّلت إلى رماد. وفي المقابل تم الارتقاء بالذكورة التي تعتبر النفوذ الأبوي بحد ذاته، وتم تقديسها. بهذا المعنى فإن قتل الذكورة يعني قتل كافة أنواع النفوذ التسلطي، وقتل الشدة والاستعمار الكامنين فيها.

لقد أضحت المرأة، كأقدم طبقة قابعة في القاع، عرضة للضغط والاستعمار على التوالي وباستمرار. وتعد قضية المرأة، التي تنفتح الطريق أمامها حديثاً، موضوعاً شاملاً لدرجة لا يمكن حصره ضمن إطار المجتمع الرأسمالي. أما حرية المرأة فما انفكت تتهيأ لتخطو خطواتها الأولى كمعيار عام لكافة الحريات. فالعبور من عصر المرأة إلى عصر الرجل تكبدت المرأة خسائر فادحة. ذلك أن تاريخ المجتمع الطبقي الممتد على مدى خمسة آلاف سنة قد ألحق أفظع الخسائر بها، حيث طبق عليها الضغوطات من نواحي متعددة، وارتأى لها الاستحقار، التمييز الجنسي، التفرقة بكافة أشكالها. وكأن المرأة قد احترقت وفَنَت، ويحاول هو إخراجها من تحت الرماد لتنظيفها حديثاً.

أما الحقوق الشخصية برمتها، وبينما كان من اللزوم أن تكون من أوائل المواد الواجب الاعتراف بها للمرأة دون قيد أو شرط، فقد طُرِحت بشكل محدود وباعتبارها آخر ما يمكن تداوله. ويمتُّ هذا الأمر لمدى تجذر الظلم وبُعده التاريخي بِصِلة وثيقة. فالقضية يمكن أن تكون فرعاً من فروع علم الاجتماع من حيث شموليتها وبرمجتها بشكل مستقل، وتخطيطها، وتنظيمها؛ وتستحق الشروع بكفاح ديمقراطي وسياسي وحقوقي طويل المدى بسبب أهميتها القصوى. وهي تتميز بخاصية وحياتية أكثر مما هي عليه القضايا الوطنية أو الطبقية، سواء شكلاً أو مضموناً.

في راهننا تم إطلاق التسمية على القضية فحسب، أما محتواها فلم يتبين بعد تماماً. أما برنامجها، إستراتيجيتها، شكلها التنظيمي والعملياتي؛ فهي أمور لازالت بعيدة عن أن تطرح للجدال بكل معنى الكلمة. ومثلما بدأ التاريخ بحضارة المجتمع الطبقي كتاريخ للشدة والنهب والبطش والحروب والاستعمار والخداع والرياء على أساس استعباد جنس المرأة وتدمير الطبيعة؛ فإنه سيُعاد خلقه وتدوينه مجدداً على أساس أن يكون تاريخاً للحرية والسلام والمساواة والصحة والحقيقة، وذلك عبر كفاح حرية المرأة وانتصارها المؤزر. وكل المؤشرات تدل على أن تحرر المرأة سيلعب دوراً مؤثراً وحاسماً لدى بزوغ فجر الحضارة الحديثة، وأنه بالإمكان عيش عصر المرأة الحرة مجدداً وبمستوى أرفع وأرقى.