الأكاديميات السياسية والمؤسسات الثقافية الحرة ستكون الأرضية الخصبة التي ستنمو فيها شخصية المرأة الحرة...
جيان هيفي
نعيش ضمن واقع مجتمع جنسوي متعصب و متجذر إلى أبعد الحدود التي يمكننا فيها القول بأنه لم تبقى فيه أية ساحة ولم يتم طبعها بطابع الذهنية الذكورية الحاكمة والمتسلطة. هذا النظام الاستبدادي الذي كلما ازداد الهرم الذكوري فيه كبراً وعلواً، كان الضمور والتقزم فيه من نصيب الأنوثة. والذي يعني في أساسه ضمور وتقزم المجتمع بذاته. بل وحتى يمكننا القول بأنه يعني انسدال النسيج البنيوي الكوني نحو الهاوية وذلك إن قمنا بتحليل التطور الطبيعي للبنية الكونية كوحدة متكاملة متممة لبعضها الآخر. وبمعنى آخر إن نظرنا للإنسان على أنه يمثل " الكون الصغير" باعتباره الكائن الأكثر تطوراً ضمن سلسلة التطور الطبيعي لهذا الكون، وإن كانت المرأة هي الركيزة الأساسية لتطور هذا الكون الصغير فإن تهميشها، واستعبادها في هذا الوجود الكوني يعتبر بشكل طبيعي تهميش واستعباد المجتمع والكون بأسره.
انطلاقاً من هذه الحقيقة فإن قضية المرأة هي من القضايا الهامة والأساسية الواجب معالجتها بشكل خاص ضمن المجتمع. فبينما كانت المرأة تشكل منبع الحياة والقداسة ضمن المجتمع الطبيعي في العهد النيوليتي. أصبحت أكثر الكائنات انحطاطاً ضمن المجتمع، ليتم الحط من مستوى المجتمع بأكمله من بعدها مع نشوء المجتمع الهرمي الدولتي المتطور من قبل الرجل الماكر المتسلط والمناهض لنظام المرأة. إذ يكفي اليوم بأن تكون أنثى لتعترضك المشاكل والقضايا ذاتها أو لتعاقب منذ ولادتك بجرم الأنوثة أينما كنت لتكن في هذا العالم الواسع. فالمرأة ضمن هذا النظام تعني الهوية المتأزمة، لأنها تعيش كافة مراحل عمرها ضمن حياة غائرة في قعر وظلام السلطة الذكورية التي لا تنفك من ممارسة أشد أنواع الظلم إجحافاً من عنف وضرب واغتصاب وقتل وتعذيب وتهميش ...وهكذا دواليك من الممارسات النكراء البعيدة كل البعد عن الأخلاق الإنسانية بحق المرأة. إن الدور المناط للمرأة ضمن هذا النظام لا يذهب أبعد من عاهرة وخادمة مطيعة تلبي حاجات الرجل. هي ملك كأي سلعة أو شيء آخر بالنسبة للرجل، والملك بطبيعة الحال يحمل ضمن فحواه صلاحية التصرف بالملك كيفما يُبغى ويُرى مناسباً بالنسبة لمالكه. لذا فإننا نرى بأن أضعف رجل يتمتع بمكانة تخيله لأن يقول ويوصف المرأة " بزوجتي " أو " بأنها لي " في الحين الذي لا تجرؤ المرأة على التعبير عن نفسها وتمثيل ذاتها مقابل هذه الممارسات، بل باتت هي ذاتها راضية مستسلمة لهذا القدر اللعين المفروض عليها.
لتغيير هذا الواقع الاجتماعي الجنسوي الذي يمتص كثقب أسود كافة الطاقات التي تشكل الأساس البنيوي للمجتمعية. يتطلب إنشاء أكاديميات ومراكز نسائية خاصة خارج نطاق الذهنية الرجولية المتسلطة الموجودة، تستطيع المرأة من خلالها ترسيخ وتجسيد البراديغما الجديدة ( التي تمثل الثورة الذهنية) في ذاتها لكي تستطيع بذلك إنشاء المجتمع الديمقراطي والايكولوجي والتحرري الجنسوي الذي تستطيع فيه التعبير عن ذاتها وتحقيق إرادتها والالتقاء بجوهرها. فإننا نعلم علم اليقين بأنه لن نحقق عصرنة ذهنية وثقافة المرأة الأم وألوهيتها التي شهد التاريخ الإنساني التطور والازدهار في عهدها ما لم نقم بتشتيت أواصر ذهنية النظام التسلطي القائم لصالح سلطة الرجل واستعباد المرأة، وإن لم نقم بإنشاء المؤسسات والأكاديميات النسائية البديلة لمؤسسات وأكاديميات هذا النظام التي تم فيها احتكار طاقات المجتمع وقواه الذهنية والفكرية والإبداعية والسياسية والأخلاقية والإنتاجية... الخ. فالنظام الرجولي الطاغي الذي وطد حكمه على أساس نهب وسلب ذهنية وثقافة الآلهة الأم، لجأ قبل كل شيء إلى بناء المعابد ( الزيقورات) والأكاديميات كوسيلة لتوطين سلطته و لترسيخ ثقافته وذهنيته القائمة على الخداع والتزييف والاستعباد والتسلط. فقام أولاً باحتكار الذهنية المجتمعية المنشأة حول المرأة- الأم، وأعادها للمجتمع عبر معابده ومدارسه هذه بعد أن قام بتأويلها وتحويرها وتحريفها بحسب مصالحه إلى المجتمع ليضمن بذلك إبقاء المجتمع مستعبداً ذليلاً، تابعاً، مجرداً من قواه الفكرية والذهنية والإبداعية. وهذا يضع أمامنا المعادلة التالية: لتغيير مجتمع ما لا بد من تغيير ذهنية ذلك المجتمع ولتغيير الذهنية لا بد من فتح أفق جديدة ( تمأسسات وأساليب وطرق جديدة بعيدة عن نطاق حركة ذلك النظام). لأن النظر من خلال الأفق الموجودة وسلك الطرق الموجودة وتلقي العلم عبر المؤسسات الموجودة يؤدي في النتيجة إلى الذهنية نفسها. يشبه الأمر تماماً كما بينت أعلاه مثال الثقب الأسود، إذ أن الثقب الأسود له قوة جاذبية قوية إلى درجة لا يمكن لأي موجة أو جسم يمر بمسافة قريبة منه أن يفلت من منطقة تأثيره مهما بلغت سرعته. وبالتالي فإن التحرك خارج تلك المنطقة له أهمية حياتية. لذا فإن بناء الأكاديميات الديمقراطية النسائية الخاصة حاجة حياتية تفرض ذاتها لإعادة تعريف وتقييم جميع الحقائق والنظريات والمصطلحات المعَّرفة وفق ذهنية هذا النظام المهيمن، بدءاً من التوقف على الحقيقة الخاطئة التي تم تعريف المرأة من خلالها على أنها كائن خلقها الله من الضلع المريضة لآدم لتواسي وحدته، ومن ثم تناول المفهوم الخاطئ الذي يعمل على تناول قضية المرأة وكأنها ناتجة من الفوارق البيولوجية فيما بينها وبين الرجل. كما وأن البحث عن المفهوم الحقيقي للحرية بدل من الحرية الزائفة التي تروجها الحداثة الرأسمالية ( النظام السرطاني ) عبر إيديولوجيتها " الليبرالية" سوف تكون من المواضيع الأساسية التي ستقوم الأكاديميات بدراستها، بالإضافة إلى التوقف على التدهور والتردي الشنيع الحاصل في مسألة الأخلاق الاجتماعية التي حلت بدل عنها قوانين الدولة، هذا وإن تناول مفهوم السياسة الاجتماعية أيضاً وإعادة تعريف ماهيتها بدل من مفهوم السياسة التي باتت أساليب وتكتيكات تآمرية يسيرها الحكام على المجتمع ليوطدوا بها سلطناتهم، وهكذا دواليك من الحقائق والمصطلحات الحياتية التي تم عجنها بذهنية الإنكار والتهجين والتزييف.
بناء الأكاديميات والمؤسسات النسائية الحرة الدائمة ستلبي حاجات كافة النساء، وستكون الحل الأمثل لكافة القضايا والمشاكل التي تعاني منها ضمن المجتمع الجنسوي هذا، وستقف أمام كافة ظواهر الانتحار والقتل التي تتعرض لها في كل ثانية يومياً. ستساعد هذه الأكاديميات المرأة وذلك من خلال دورات التدريب والتوعية الشاملة التي ستقوم بها بشكل مستمر وبلا هوادة، على تحليل حقيقة النظام التسلطي الموجود الذي وصل ذروته مع الحداثة الرأسمالية، وستبين من خلال هذا التحليل مدى العبودية التي تجسدت و تعشعشت في كل خلية من خلاياها. ستناقش المرأة التاريخ الموجود والتاريخ المخفي الذي ستتعرف من خلاله من تكون هي بالأصل. ستقوم من خلال بحثها هذا الوصول إلى حقيقة المرأة الحرة. أي من تكون هي بالأصل وكيف يجب أن تعيش؟ كيف ستقوم ببناء العقد مع المجتمع من جديد. إلى جانب ذلك فإن القيام بتنشئة الكوادر الطليعة التي تستطيع تمثيل ما بيناه في الأعلى هي من المهام الأساسية والهامة لهذه الأكاديميات. كما ستواظب على القيام بتعليم المرأة وتدريبها لتكون فعالة في كافة المجالات الحياتية السياسية، الثقافية، الاقتصادية، الاجتماعية، العلمية، الفلسفية، وحتى في مجالات الصحة والرياضة... الخ وسترسم الطرق و الأساليب المناسبة لتستطيع المرأة من خلالها تسيير النضال في مواجهة هذا النظام من جانب، ومن الجانب الآخر ستسعى هذه الأكاديميات لتوجيه المرأة بشأن كيفية إعادة بناء المجتمع الأخلاقي السياسي وتأسيس نظامه الديمقراطي الكونفدرالي البديل الذي يتوحد مع جوهرها.
هذه الأكاديميات لن تكون مثل البيوت التي تم إنشاءها في بعض البلدان والمدن لتلجأ إليها النساء اللواتي تتعرضن للعنف في منازلهن، فهذه البيوت لم تستطع في الواقع تلبية متطلبات النساء وتأمين حل دائمي لقضاياهن. إذ لا يوجد لهذه البيوت أي دور يتناول الحل الجذري لقضايا النساء. فهي بيوت تقضي حاجات النساء من مأكل ومشرب ومأوى فقط إلا أنها تبقى ضيقة وناقصة من النواحي الأخرى الاجتماعية، التعليمية و التدريبية والاقتصادية ...ودواليك، ولا تستطيع تأمين ظروف عمل خاصة خارج إطار النظام، لأنها ملاجئ مرتبطة بالنظام نفسه في نهاية الأمر لذا فإننا نرى أغلبية النساء القائمات في هذه البيوت تبقى مجبرة مجدداً للرجوع إلى أحضان جلاديها كشاة لا مفر لخلاصها من يد القصاب. وما تسمية هذه البيوت بالملاجئ بحد ذاته سوى تعبير على المفهوم الناقص الذي ترتكز عليه هذه البيوت. لذا علينا كنساء اجتياز هذا المصطلح ورفعه من قائمة حياتنا. وبدل من بيوت الالتجاء هذه ستكون تسمية بيوت الحرية أو الأكاديميات الحرة هي الأنسب، لأن الحرية هي مسألة تتطلب النضال والمواجهة والتغيير والبناء والأكاديميات السياسية الحرة ستكون المهد الذي سيتم فيه تعلم كل هذه الأمور.
بإيجاز نستطيع القول بأن هذه الأكاديميات السياسية والمؤسسات الثقافية الحرة ستكون الأرضية الخصبة، التي ستنمو وتزدهر فيها شخصية المرأة الحرة. لذلك فإن مهمة بناء هذه الأكاديميات هي من المهام الأساسية التي تقع على عاتق كافة الأحزاب والحركات النسائية إلى جانب الحركات الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني التي تهدف إلى ترسيخ دمقرطة المجتمع، كما هي مهمة أساسية بالنسبة للمجالس والبلديات بالأخص البلديات التي تترأسها النساء في بعض المدن. إن تناول مثل هذه المشاريع ضرورة لا تقبل التأجيل بتاتاً. لأننا نعلم جيداً بأن كل ثانية تأخير تؤدي إلى إطفاء شمعة حياة امرأة. وعلى العكس من ذلك، فإن أي خطوة تسير قدماً على أساس إنشاء هذه المراكز ستؤدي إلى إشعال شعلة الأمل لدى النساء. لن يكون خيار أية امرأة الانتحار بسهولة إن تواجدت ساحة تستطيع فيها التنفس بحرية حتى ولو كانت قيد أنملة.
ما نبتغيه من بناء الأكاديميات السياسية والمؤسسات الثقافية والديمقراطية الحرة، هو ليس بناء العمارات والمراكز والمؤسسات الهائلةِ العلو والضخامة، التي لا يمكن بناءها إلا بآلاف وملايين الدولارات، كما هو حال المؤسسات والأكاديميات الاحتكارية الرسمية والخاصة للأنظمة الرأسمالية الدولتية التي تتسابق لتعظيم جبروت سلطتها ضمن التاريخ. فإن أبينا بالعمل على هذا التقليد فلن نستطيع فتح أي أكاديمية أو مؤسسة تستطيع خدمة المجتمع وتلبية احتياجاته. لأن مثل هذه المؤسسات تحتاج لمبالغ طائلة تتجاوز الآلاف والملايين من الدولارات لأجل بناءها. فالعديد من بلدياتنا لم تباشر حتى الآن بوضع مثل هذه المشاريع ضمن مخطط أعمالها متذرعة بعدم توفر الإمكانيات المادية اللازمة للبناء. أن ما يكمن وراء مثل هذه الذرائع في حقيقة الأمر هو منطق التفكير ذاك القائم على أساس تقاليد ذهنية النظام. لهذا السبب تتخيل عقولنا تلك الأبنية الهائلة عندما يتم التحدث عن الأكاديميات أو المؤسسات. واضحٌ تماماً بأن مثل هذه المؤسسات لا يمكن للأنظمة الاحتكارية إنشاؤها ما لم تقم بامتصاص ونهب ممتلكات وطاقات المجتمع. أما المؤسسات السياسية والديمقراطية التي نهدف و نسعى لترسيخها هي مؤسسات شفافة، متواضعة، مستقلة وبسيطة للغاية. تأسيسها لا يحتاج إلى أبنية عالية أو مبالغ طائلة. يمكن تحديد مكانها حسبما تقتضيها الحاجة، بدءاً من القرى، ذرى الجبال إلى الضواحي النائية. أو بالأحرى يمكن لكل حي أو مدينة أو قرية القيام بتبيان المكان الذي تراه مناسباً لكي تستخدمه كأكاديمية أو كمؤسسة. والتاريخ شاهد على عدد لا حصر له من الحركات النبوية والفلسفية والتحررية الديمقراطية المقاومة التي قامت باستخدام المغارات، الكهوف، الجبال، الحدائق، الجوامع، الأديرة، الأحياء، الطرق، الأقبية وحتى قنوات المياه وما شابه ذلك كمدارس وأكاديميات لتبشير وتنوير المجتمع وحثه على النضال من أجل الحرية والوصول إلى الحقيقة. يمكننا استنتاج المفهوم القائم على أساس المضمون والهدف من هذه التجارب التاريخية. فجميعها تهتم بالجوهر والمضمون فقط. وهذا بالذات ما يجب علينا فعله لأننا بحاجة إلى التحرر والوصول إلى الحقيقة أولاً.