ما يُعاش أَشبَه ما يَكُون بعصرِ الصناعةِ النيوليتية. بحيث تَسمو المرأةُ الأم في هذه الثقافة إلى منزلةِ الإلهة – الأم...
المجتمع الطبيعي هو المجتمع المتكون حول المرأة الأم
عبد الله أوجلان
من أحدث الحقائق المتجلية في علم الاجتماع، المتطور بذهول تماشياً مع تطور المجتمعية، هي أن أنسنة الإنسان تحققت بانفصاله عن فصيلة الثدييات البدائية السابقة له (وهي الفصيلة الأقرب إلى الإنسان). لكن، ومهما كثرت محاولات الفصل والعزل بين الفرد والمجتمع، اللذين يشكلان حالة الحياة، لا يمكن برهنة ذلك على الصعيد النظري. إذ ما من فرد يعيش بمفرده. قد يكون ثمة فرد تحطم مجتمعه، إلا أن هذا الفرد يواصل وجوده – على الأقل – بذكريات مجتمعه المتحطم ذاك. وبتلك الذكريات تصبح مجتمعيته مسألة آنية. يرتبط اكتساب الجنس البشري للقوة بمستوى علاقاته الاجتماعية. ومن أفظع أساليب إضعاف الفرد واستعباده، هو فرض العزلة عليه. حتى العبيد والأقنان القرويون والعمال المدينيون المتواجدون على شكل جماعات، يكوِّنون مجتمعاً بحد ذاته، بحيث يتذكرون أنفسهم عبر تمرداتهم بين الفينة والأخرى. ومن جانب آخر، فالوحدة أفضل معلِّم على الإطلاق. وفترة الانزواء التي مر بها كل عالِم وحكيم ونبي بارز في التاريخ، إنما تعكس هذه الحقيقة بكل جلاء.
أقصد بمصطلح "المجتمع الطبيعي" نظام الجماعات البشرية، الذي دام مرحلة اجتماعية طويلة تبدأ بانفصال الوجود الإنساني عن فصيلة الثدييات الرئيسية البدائية، وتنتهي بظهور المجتمع الهرمي. وعادةً ما تطلق تسمية المرحلة الباليوليتية (العصر الحجري القديم) والنيوليتية (العصر الحجري الجديد) على هذه الحقبة من التاريخ البشري، والتي شهدت ظهور تلك الجماعات الإنسانية المسماة بـ"الكلان" التي يتراوح عدد أفرادها بين العشرين والثلاثين شخصاً. تعود هذه التسمية إلى استخدام تلك الجماعات الأدوات الحجرية. كانت تلك الجماعات تتغذى على الصيد وجمع الثمار المتوافرة في الطبيعة. أي أنها تعيش على النتاجات والثمار الجاهزة في الطبيعة. إنها طريقة تغذية شبيهة بما تسلكه الفصائل الحيوانية القريبة منها في قُوتِها. لذا، لا يمكن الحديث هنا عن وجود مشكلة اجتماعية ما. فـ"الكلان" تكون في بحث متواصل عن القُوت. وعندما تجده، إما أن تجمعه أو تصطاده. وباكتشاف النار وازدياد صنع الآلات والأدوات، تزداد نتاجات الكلان، ليتسارع بالتالي تقدمها كجنس بشري، وتزداد الهوّة الفاصلة بينها وبين أسلافها من الثدييات البدائية. والقوانين الطبيعية للتطور الطبيعي هي التي تحدد سياق التطور ووجهته.
البحوثُ الجاريةُ تُظهِر للوسط أنّ نوعَ الإنسان العاقل قد دنا من امتلاكِ خاصيةِ اللغة الرمزية قبل حوالي 150 – 200 ألف سنة من الآن. وتشير الأبحاثُ ذاتها إلى أنَّ التفاهمَ بالأصواتِ المكتَسِبة للقِيَم الرمزية – سَلَفِ اللغات العصرية – بدلاً من استعمالِ لغةِ الإشارة، قد انطلق لأولِ مرةٍ من خطِّ "ريف" عينه صوب الشمال، لينفتح على العالم بأسره قبل حوالي خمسين ألف سنة. وهكذا، قَدَّم التفاهمُ باللغة الرمزية فُرَصاً عظمى، حيث يمكن التخمين بأن المجموعاتِ البشريةَ المتفاهمة والمتحركة على نحوٍ أفضل هي التي حققت التفوق. وربما يكون زوالُ الأنواع الأخرى بسرعةٍ من مسرحِ التاريخ ذا علاقةٍ وثيقةٍ بهذا التطور. إنه العصرُ الجليديُّ الرابع. ويُخَمَّن أنَّ تَقاطُعََ وتَلازُمَ كِلا التطورَين قد قضى على نوع النياندرثال، الذي كان أكثرَ انتشاراً حتى ذاك العصر. وهكذا بقي سيدُ العالم الجديد لوحده بكل هيبته وخيلائه على المسرح: إنه الهوموسابيانس، أي، الإنسان العاقل والناطق. لا نرى هنا تَمايُزَ اللغات والأعراق في البداية، ولكن، يتم التخمين بأنه تَشَكَّلَت مجموعاتٌ أكثر تعداداً، زاولَت الصيدَ بشكلٍ مخطط، واستخدمت الكهوف كمساكن ومعابد، واحتَرَفَت المرأةُ جمعَ الثمار، في حين احترفَ الرجلُ الصيد. وبعض اللقى الأثرية تُثبِتُ أنَّ التطورَ المذهلَ للنوعِ الناطق قد حصل على هذا الأساس. والرسومات المتبقية من هذا العصر قويةٌ ورائعة، حيث عُثِر عليها في المنطقة الواقعة بين فرنسا وإسبانيا، وفي بعض كهوفِ منطقةِ هكاري. كما أنَّ اعتبار كلتا المنطقتَين أُولى الساحات الأكثرِ ملاءمةً للهجرة إليها من داخلِ أفريقيا عبر شرقي البحر الأبيض المتوسط وغربيه، موضوعاً يتناغم ونظريةَ الهجرة العامة.
البؤرةُ الأم هي ميزوبوتاميا العليا. حيث يعيش المجتمعُ انفجاراً بالاكتشافات الجديدة وباختراعِ وسائلِ الإنتاج. إنّ ما يُعاش أَشبَه ما يَكُون بعصرِ الصناعةِ النيوليتية. وتَسمو المرأةُ الأم في هذه الثقافة إلى منزلةِ الإلهة – الأم. ويَغلب الظنُّ بأنّ دورَها محدِّدٌ ومؤثرٌ في تكوينِ المجتمع الجديد. فالنسقُ (النظام) الأمومي يترك طابعَه الواضحَ على مجتمعِ الكلان. أما التناقضُ مع الرجل، فيبرز لِتَوِّه آنذاك. في حين أنه كان قد تم العبورُ إلى اللغة الرمزية. ونزوحُ مجموعاتِ العِرقِ الأسود المسماة بالساميّة من الجنوب إلى آسيا وأوروبا من خلالِ المنطقة التي هي الخطُّ الرئيسي للهجرة، لَم يَعُد أمراً يسيراً كالسابق. ويَلُوح أنّ هذا المؤثرَ أدى دوراً هاماً في تكوينِ الثقافة الساميّة. كما تَعَسَّر نزوحُ المجموعات، التي يمكننا تسميتها بذوي البَشَرةِ الحمراء والصفراء، من الشمال إلى المنطقة. فبينما يتوجه فرعٌ منها صوبَ القارة الأمريكية (عن طريقِ مضيقِ برينغ، حوالي أعوام 12000 – 7000 ق.م)، نجد المجموعاتِ الأخرى تتكاثف في كلٍّ من الصين وآسيا الوسطى وأوروبا الشرقية. في حين أنّ المجموعةَ الهندوأوروبية ذاتَ البشرة البيضاء، والقاطنةَ في المنطقة الوسطى، تؤدي دوراً رئيسياً مهيمناً بسببِ ملاءمةِ ظروفِ المناخ والتغذية. نخص بالذكر في شأنِ الهيمنة تلك المجموعةَ التي في الهلال الخصيب، والتي ستحافظ على صفتها وميزتها هذه ردحاً طويلاً من الزمن إلى حين بروزِ عصرِ المدنية.
يمتثل الإنسان المنتمي إلى المجتمع الطبيعي لقاعدة إحياء ذاته مع بقية أعضاء الكلان التي يعيش ضمنها، ككل متكامل لا يتجزأ، وكقانون أولي لا مناص منه. ولا يمكن لعضو في الكلان أن يفكر في حياة امتيازية تميزه عن غيره، كالحياة خارج نطاق الكلان. بمقدوره ممارسة الصيد، بل وحتى القيام بالياميامية (أكل لحوم البشر)، ولكن بشرط أن تكون بهدف إعالة الكلان. القاعدة السائدة في حياة الكلان هي: "إما الكل أو اللاشيء". وكل المعطيات الاجتماعية تشيد بخاصية الكلان هذه. إنها كتلة واحدة، وشخصية واحدة. ولا يمكن التفكير بوجود شخصية أو حكم مغاير لذلك بالنسبة للأفراد. تتوارى أهمية الكلان في كونها الطراز الأول والأساسي لوجود الإنسان. إنها شكل المجتمع الخالي من الامتيازات والطبقات، واللاهرمي، والجاهل للاستعمار والاستغلال. وقد امتدت طيلة ملايين من السنين. ما نستنبطه من ذلك، هو أن تطور الموجود الإنساني كمجتمع، يعتمد لفترة طويلة على مبدأ التعاضد والتكافل، لا على علاقات الهيمنة والحاكمية. وينقش الطبيعةَ في ذاكرته كـ"أم" نشأ وترعرع في أحضانها. التكامل بين أفراد المجتمع من جهة، وبينهم وبين الطبيعة من جهة ثانية، شرط أساسي.
الكلان هو الاتحاد المتكون حول المرأة- الأم
ربما يُعتَبَر الطوطم أول نظام اصطلاحي تجريدي. يشكل هذا النظام، الذي يعتبر دين الطوطمية، التقديس الأول ونظام المحرمات (المسلَّمات) الأول. أي أن الكلان تقدس ذاتها بقدر تقديسها لرمز ذاك الطوطم. من هنا تم الوصول إلى أول اصطلاح للأخلاق. حيث يعي الجميع أنه يستحيل مواصلة الحياة من دون جماعة الكلان. إذن، والحال هذه, فوجودها المجتمعي مقدس، ويُرمَز إليه بأسمى المعاني والقيم لتُعبَد. من هنا تتأتى رصانة ومتانة العقيدة الدينية. فالدين هو الصياغة الأولى للوعي المجتمعي. وهو متكامل مع الأخلاق. ومع مرور الزمن يتحول من كونه رمز الوعي إلى عقيدة متصلبة، ليتبدى الوعي المجتمعي على شكل تطوير لصياغة الدين. الدين بخاصيته هذه، يُعتَبَر المنبع العين لأول أشكال الذاكرة والتقاليد والأعراف الجذرية والأخلاق الأساسية في المجتمع. ومهما سما مجتمع الكلان بوعيه عبر ممارساته العملية، فإنه يُرجِع ذلك – على الدوام – إلى الطوطم، وبالتالي إلى مهاراته وقدراته. أما ما يتجلى في حقيقة الطوطم من الناحية الرمزية، فهو أنَّ تَواصُل انتصارات ونجاحات الجماعات البشرية أسفر بالتوازي عن تصاعد التقديس أيضاً. ويغدو التقديس بذلك قوة للرمز المقدس، لتمثِّل القدسيةُ بدورها قوةَ المجتمع.
تعبِّر قدسية القوة المتشكلة مع المجتمع عن ذاتها بجلاء أكبر، في الشعوذة والسحر. فالشعوذة هي تجربة تعزيز المجتمع لذاته. فمستوى الوعي الموجود لا يمكن إدراجه حيز التنفيذ إلا على شكل شعوذة وسحر. الشعوذة هي أم العلوم أيضاً. أما المرأة التي تراقب الطبيعة عن كثب، وترى فيها الحياة، وتعرف الخصب والإنجاب؛ فهي الحكيمة العالِمة بطراز هذا المجتمع. وما كون أغلب السحَرة من الإناث سوى تعبير عن هذه الحقيقة. فالمرأة هي أفضل الواعين لما يجري حولها في المجتمع الطبيعي، بحُكم ممارستها العملية في الحياة. تُشاهَد آثار المرأة على كافة المنحوتات واللُّقى الأثرية المتبقية من تلك الحقبة. فالكلان هي اتحاد متألف ومتكوِّن حول المرأة الأم. في حين أن إنجابها الأطفال وتنشئتها إياهم، قد دفعها لتكون أفضل جامع للثمار، وخير معيل للأطفال. وبالمقابل، فالطفل لا يعرف أحداً غير أمه. أما الرجل، فلم يكن ذا تأثير واضح بعد في النظر إلى المرأة كمُلك له. وبينما لا يُعرَف الرجل الذي حمِلت منه المرأة، تكون الأم المنجبة للوليد معروفة. هذه الضرورة الطبيعية تشيد بمدى قوة المجتمعية المرتكزة إلى المرأة. وكون الكلمات الاصطلاحية البارزة في تلك الحقبة ذات خاصية أنثوية، يُعَد برهاناً آخر على صحة هذه الحقيقة. في حين أن سمات الرجل القتالية والتحكمية، التي كانت تطورت فيما بعد، تعود في أصولها إلى خاصيته في صيد الحيوانات الوحشية في تلك الحقبة. فمزاياه الجسدية وقواه العضلية دفعته بالأغلب إلى البحث عن الصيد في الأقاصي البعيدة، أو إنقاذ الكلان من المخاطر المحدقة بها، والدفاع عنها. هذه الأدوار غير التعيينية توضح أسباب بقاء الرجل هامشياً وقتذاك. لم تكن قد تطورت بعد العلاقات الخاصة داخل الكلان. فالمكاسب المستحوذ عليها من جمع الثمار وصيد الحيوانات هي مُلك الجميع. والأطفال مُلك للكلان برمتها. ولم تبرز الحياة الخاصة بعد لدى كلا الجنسين. هذه السمات الرئيسية هي الباعث وراء إطلاق تسمية "المجتمع المشاعي البدائي" على هذا الطراز من المجتمع.
لا ريبَ في أنّ المجتمعيةَ التي أَسمَيناها بالكلان ليست كياناً ثابتاً جامداً. فتطويرُ ماهياتٍ مختلفةٍ من النوعِ (من الثدييات البدائية المشابهة للإنسان)، يعني تَطَوُّرَ مجتمعِ الكلانِ أيضاً. القضيةُ الأساسيةُ هي الحفاظُ على الوجود. وبوجهٍ عام، فالمشكلةُ الأولى لمجتمعٍ ما (مجتمعُ آلافِ الجماعات) هي الحفاظُ على الوجودِ والتماسكِ والصمود، بالإضافةِ إلى الدفاعِ عن وجودِه تجاه القوى الساعيةِ لإخراجِه من كونِه مجتمعاً. وللمجتمعاتِ مثلُ هذه المشاكلِ والقضايا في كلِّ زمانٍ وكلِّ مكان. ويَتَمَحوَرُ هذا الدفاعُ أحياناً حولَ هدفِ حمايةِ الوجودِ على شكلِ دفاعٍ عن الذاتِ تجاه المخاطرِ والمَهالِك. وأحياناً تتواجدُ أوساطٌ وكياناتٌ مفيدةٌ ناجعةٌ تتيحُ الفرصةَ للتطورِ التكافليِّ المناسب. وفي ذاك الزمانِ وذاك المكان تَتَسَارَعُ وتيرةُ التطورِ الإيجابي، حيث يَشهَدُ النوعُ، الكلانُ أو المجتمع، اغتناءً على صعيدِ الثقافتَين الماديةِ والمعنوية. وإذا ما عَمِلنا على الشرحِ بالإحاطةِ بثنائيةِ "أنا والآخر" كاصطلاحَين سوسيولوجيَّين بارزَين في الآونةِ الأخيرة، نجد أنّ الأنا تُشرِعُ بالدفاعِ الذاتيِّ تجاه الآخَرِ الذي يُشَكِّلُ خطراً وتهلكةً عليها. فإما أنْ تَهزِمَ الآخَر، فتستمرَّ في وجودِها؛ وإما أنْ تبقى في وضعِ التوازن، فتَحمِيَ وجودَها، ولكنّ تطورَها يتباطأ؛ وإما أنْ تُواجِهَ الفشلَ، فتَفقِدَ وجودَها نسبياً أو كلياً وفقاً لمستوى فشلِها؛ وحينها تَكُونُ قد خَرَجَت من كَونِها ذاتَها كموجودٍ قائم، لِتَغدوَ موضوعاً Nesne في موجودٍ آخَر مختلِفٍ، أو أنْ تَنصَهِرَ، فتَستَمِرَّ في وجودِها كموجودٍ مختلف. وهكذا تَتَكَوَّنُ الأصنافُ المُسَمَّاةُ بالمنحرفةِ والمشوَّهةِ أو المائعةِ المنحطة.
وبشكلٍ ملموسٍ أكثر، فصراعُ المجتمعِ من أجلِ الوجودِ على مستوياتِ النشوءِ الأبسطِ يَكُونُ دائماً تجاه الشروطِ الطبيعية، كي لا يَكُونَ فريسةً للحيواناتِ الكاسرةِ من جهة، وكي يَحمِيَ نفسَه من الظروفِ الجويةِ ومن الأمراضِ وأوساطِ الغذاءِ الناقصِ من جهةٍ أخرى. وبينما تُهَدِّدُ المخاطرُ الوجودَ، تَقُومُ الظروفُ المساعدةُ بِتَطويرِه. وقد تَمَّ تَسليطُ النورِ – ولو نسبياً – على الحلقةِ الأساسيةِ مِن سلسلةِ هذه المغامرة، التي مَرَّ أعظمُها في أفريقيا، في حين انقضى ما يُقارِبُ المليونَ عام الأخيرَ منها في أوروبا وآسيا. فهذه المجتمعيةُ المتشابهةُ فيما بينها، وغيرُ المُطَوِّرةِ بعد لِلُّغةِ الرمزية، وذاتُ التعدادِ الذي لا يَبلغُ المائةَ شخصاً؛ تَطفَحُ فيها المزايا البيولوجية، لكن، وبسببِ ممارستِها العمليةِ على هيئةِ جماعاتٍ بالأغلب، فهي تَتَكَوَّن وتَتَكَوَّم بالالتفافِ حولَ المرأةِ – الأم. وبنيةُ الملحقاتِ الأنثويةِ في اللُّغاتِ الأولى تُؤَيِّدُ صحةَ هذا الواقع. ينبغي عدم التغاضي عن الميزةِ الأموميةِ للمجتمع. ومن المهمِّ بمكان النظرَ إلى المرأةِ – الأم على أنها بؤرةُ قوةٍ "إداريةٍ" طبيعيةٍ من خلالِ تجاربِها في الحياةِ وتربيتِها للأطفال، أكثرَ من اعتبارِها زعيماً أو سلطة. وترتقي منزلةُ البؤرة، وتزدادُ جاذبيتُها في أماكنِ الاستقرارِ المشابهةِ لترتيباتِ المنزلِ الأولى.
أما مصطلحُ الأبوة، فهو علاقةٌ اجتماعيةٌ ظَهَرَت للوسطِ في مرحلةٍ لاحقةٍ بعدَ انقضاءِ زمنٍ طويلٍ جداً. لقد غابَ هذا المصطلحُ عن المجتمعِ أحقاباً طويلة، وبدأ بالتصاعدِ ارتباطاً بالنظامِ الأبوي، بعد أنْ نَشَأَت وتطورَت مؤسسةُ الإرثِ ونظامُ المُلْكِية. في حين أنّ الخال (شقيقُ الأم) وانتماءَ الأطفالِ للأم اصطلاحان ظَهَرا بشكلٍ مبكر. والقطفُ والقنصُ المحدودُ كانا شكلَين لِتلبيةِ الحاجاتِ المادية. وعضويةُ الكلان هي أهمُّ ضمانٍ للحياة. ويَغلُبُ الظنُّ أنّ الطردَ مِن مجتمعِ الكلان، أو الانفرادَ ضمنه كانا ينتهيان بالموتِ المحتوم. لذا، مِن الواقعيِّ النظرُ إلى الكلانِ على أنها نواةُ مجتمعٍ سليمٍ قويم. إنها الشكلُ الأصليُّ للمجتمع.
يتم إرساء أرضيةِ ثقافةِ الاقتصاد في النَّسَقِ الأمومي المشاعي البدائي. حيث تُستَهلك الغلالُ المُؤَمَّنةُ من القنصِ والقطفِ بشكلٍ مباشر، مع الاستفادة من الجلود والألياف. والمرأة – الأم هي السلطة المنسِّقة للكلان بشكلٍ غالب. إنه ضربٌ من ضروبِ الهيمنة الأمومية الأولى. تتجسد العلاقةُ والتناقضُ الأساسي ضمن المجتمع الكلاني في: الحماية من كلِّ ما يُشَكِّل خطراً من بين شروط البيئة الطبيعية، والاستفادة من كلِّ ما يمنح فرصَ التغذية والإمكانيات المناسبة. تتسم هويةُ الكلان بمسحةٍ حياتية ومصيريةٍ لا مفرَّ منها في هذه الظروف. لم يتطور مفهومُ الزوج – الزوجة بعد. المرأةُ المنجبةُ معروفة، في حين أنّ شريكَها – الرجل المضاجع لها – عديمُ الأهمية لدرجةِ الجهلِ به. وقد عاش المجتمعُ البشري 5.98% من مجموعِ حياته إلى الآن على هذا المنوال. هكذا، فهو أطول أشكالِ المجتمع زمنياً. وباعتبارِ أنّ الحجارةَ المصقولةَ بشكلٍ طفيفٍ هي الوسائلُ المستعمَلةُ أساساً حينذاك، فيُطلَق عليه اسمُ العصر الحجري المصقول. وأحياناً يسمى بالعصر الوحشي البدائي. في حين أنّ الاسمَ المفضَّلَ سوسيولوجياً هو النظامُ المشاعي البدائي. تُستَخدَم فيه لغةُ الإشارة، ويَسُوده السكنُ داخلَ الكهوف والأكواخ العالية الموثوقة بالأوتاد على ضفافِ الجداول والأنهار والبحيرات. ويَرجُحُ الظنُّ والاعتقادُ بأنه تم العيشُ هكذا طيلةَ مليونَي سنةٍ في أفريقيا، ومليونِ سنةٍ في آسيا والقارة الأوروبية. لم تتطور بعد اصطلاحاتُ الوطن، الحدود، والمُلكِية. والانتماءُ لا يُعرَف إلا بالكلان. وعندما يُراد ترميزُ الكلان، يتم ذلك بتمثيلها بالطوطم أو أي شيءٍ Nesne مُعَبِّر آخر. وتمر البشريةُ من هذا الشكل النَّسَقي الرتيب حتى نهاياتِ العصر الجليدي الرابع، وإنْ شَهِدَت داخلها قفزاتٍ ومستوياتٍ تطوريةٍ متفاوتةٍ إلى حدٍّ ما.
خلاصة، تُشكِّل الكلان – شكلاً وصياغة – الأرضية الخصبة لولادة المجتمع وذاكرته الأولى، ولتطور مصطلحات الوعي والعقيدة الأولية. وما يتبقى من الأمر ليس سوى حقيقة ارتكاز المجتمع السليم إلى البيئة الطبيعية وقوة المرأة، وكَون تَواجُد البشرية قد تحقق في داخله بشكل خالٍ من الاستعمار والاستغلال والقمع، بل ومفعم بالتعاضد والتكافل الوطيدين. والإنسانية، بإحدى معانيها، هي مجمع هذه القيم الأساسية. لكن الاعتقاد بزوال وفناء هذه التجربة المجتمعية الممتدة على طول ملايين السنين، ليس سوى ضرباً من الهذيان والهراء. فمثلما لا يفنى شيء في الطبيعة، فإن هذه القاعدة تواصل قوتها في طراز التكوين المجتمعي بشكل أقوى.
المجتمعية المقدسة مع الإلهة- الأم.
المجتمعُ الميزوليتي (الفترة البينية ما قبل الآن بحوالي 15000 – 12000 سنة) والنيوليتي (ما قبل 12000 سنة وحتى اليوم) المتكَوِّنان بأروعِ الأشكالِ في سلسلةِ جبالِ طوروس – زاغروس مع انقضاءِ العصرِ الجليدي الرابع قبلَ حوالي عشرين ألف سنة مِن الآن؛ فقد كانا أرقى مِن مجتمعِ الكلان. فقد كانت الأدواتُ التي في حوزةِ اليد، وأنظمةُ المَسكنِ والاستقرار قد تَطَوَّرَت. علماً أنّ أولَ ثورةٍ زراعيةٍ وقرويةٍ قد تَحَقَّقَت في هذه الحقبة. وإلى جانبِ كونِ سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس تحتلُّ مرتبةَ الصدارة، إلا أنّ كياناتٍ اجتماعيةً مشابهةً أيضاً تَبدَأُ في العديدِ من الأماكنِ الأفرو – أوروآسيوية، التي عاشت عليها الجماعاتُ البشرية (حسب رأيي، هذا التطور قد حصل مع انتشارِ المجتمع النيوليتي لسلسلة جبال زاغروس - طوروس). هذه الحقبةُ تُعَدُّ عصراً مُهِيباً ورائعاً في سياقِ تاريخِ الطبيعةِ الاجتماعية. ذلك أنّ العديدَ من التطوراتِ تتواكبُ مع هذه الحقبةِ التاريخية، بدءاً من نشوءِ الأشكالِ الأصلية من اللغةِ الرمزية التي لا تزال مستخدَمة اليوم، إلى الثورةِ الزراعية (زرع البذور وحَصدُها عن وعيٍ ومعرفة، وتدجين الحيوانات)، ومن نشوءِ القرى إلى جذورِ التجارة، ومن العائلةِ الأموميةِ إلى تنظيمِ القبيلةِ والعشيرة. لا شكّ أنّ استذكارَ هذه الحقبةِ باسمِ العصرِ الحجريِّ الحديث، يُشيرُ إلى وجودِ الأدواتِ الحجريةِ المتطورة. هذا وانفتاحُ ذكاءِ الإنسانِ رائعٌ آنذاك، وكأنه اختُرِعَت أُسُسُ استخدامِ جميعِ الأدواتِ والوسائلِ التي لا تَنفَكُّ تارِكةً بصماتِها حتى اليوم. إنها الحقبةُ التاريخيةُ الثانيةُ الطويلةُ المدى. وواحدٌ من الاثنَين بالمائةِ المتبقيةِ يَعُودُ إلى هذه الحقبة. المجتمعُ آنذاك مجتمعٌ أخلاقيٌّ وسياسيٌّ في أساسه. لَم تَظهَرْ القوانينُ والدولة، ولَم تُعرَفْ السلطةُ بعد. هذا وتُناطُ الأمُّ بِالقدسية، ويتم السموُّ بِتَصَوُّرِ رسومِ الإلهةِ الأنثى. كما تمّ العبورُ آنذاك إلى مرحلةِ المعابدِ والقبورِ المقدسة، حيث كانوا يَحيَون بمنوالٍ تاريخيٍّ لدرجةِ العيشِ سويةً مع أمواتهم في المكانِ عينه وبشكلٍ متداخل. ولا تَزالُ البقايا وكأنها تَصعَقُ عيونَنا بهذه الحقيقة. إننا وجهاً لوجه أمام بشرٍ حقيقيين، لا بدائيين.
لقد تشكل في المجتمع النيوليثي نظام مجتمع مشاعي "كومونة" حول نظام المرأة الأم، وعاش هذا النظام الاجتماعي الذي يمكن أن نسميه بالاشتراكية البدائية دون أن يعرف الدولة آلاف السنين، حيث أمنت الإنسانية خميرتها الأساسية من ذلك النظام وبقيت تذكره بمصطلح الجنة الذي يقوم بتغذية أحلام المساواة والحرية باستمرار.
كان ثقل المرأة في المجتمع النيوليثي كبيراً إلى درجة بدا وكأنه لا مكان فيه للرجل، وتم إزالة دور المرأة في المجتمع كقوة أساسية فيما بعد، وحققت المرأة قوتها هذه عن طريق زراعة النباتات واستئناس الحيوانات وبناء البيت، والنسيج، وولادة الأطفال وتربيتهم. وهذه القوة الطارئة غير العادية، تعكس البنية الفكرية إلى درجة جاءت بالتأنيث الموجود في جميع اللغات، وكثرة الآلهة الإناث في الميثولوجيا، والموقع المحترم للأم في هذه المرحلة التاريخية. وتحمل بنية اللغة السومرية في البداية طابع الشخصية المؤنثة، إن الربات هن أول من أسسن المدن، وجميع الهياكل الأولية كانت على شكل امرأة، وتبرز المرأة في الأسماء والمصطلحات، وحتى أسماء قارتي أوروبا وآسيا فهي مؤنثة في الميثولوجيا الإغريقية.
وبينما يَعتَمِدُ المجتمعُ الجديد على حياةِ القرية بالأغلب، تَتَحَوَّلُ أواصرُ الكلان إلى روابطَ أثنية. هذه الأشكالُ الجديدةُ مِن البنى الماديةِ لا يُمكن لها المسير، أو حتى البدء، دون وجودِ إطارٍ ذهنيٍّ أغنى وأرقى معنىً. يَتَجَسَّدُ هذا التحوُّلُ الذهنيُّ ولغتُه الجديدة في رُسُومِ "الإلهة – الأم" كرمزٍ للمجتمع النيوليتي، جنباً إلى جنب مع بقاءِ "الطوطم" كهويةٍ للمجتمعِ الكلانيِّ القديم. فبينما يَضمَحِلُّ عددُ الأشكال الطوطمية، تكتظ الأوساط برسوم الإلهة – الأم، التي تَرمِزُ إلى سُمُوِّ دورِ المرأةِ الأم. وهذا ما يُشَكِّلُ بدورِهِ مرحلةً أرقى على الصعيد الديني، لتجلب معها عدداً وفيراً جداً من الاصطلاحات، وتبرز اللواحق المؤنَّثَةُ في اللغة، والتي ستصون منزلَتَها الأوليةَ في اللغةِ الرمزية فترة طويلةً من الزمن. ولا نَبرَحُ اليومَ أيضاً نعثر على هذه الخاصيةِ في العديد من اللغات. ومع بروزِ الإلهة – الأم تشرعُ المجتمعيةُ تَلتَحِفُ بغطاءٍ كثيفٍ من القدسية. فالمجتمعُ الجديدُ يعني تماماً مصطلحاً جديداً وتسميةً جديدة. مِن هنا، علينا إدراجُ ما أسميناه بمرحلةِ الثورة الذهنية ضمنَ حقلِ سوسيولوجيا الحرية، نظراً لِتَطَلُّبِها الإبداع. ومعايشة هذه المرحلةِ بشكل كثيف، هي مِن المواضيعِ التي أجمَعَ عليها المؤرخون الرواد. فالآلافُ من الظواهرِ يعني الآلافَ من الثوراتِ الذهنيةِ والأسماء. إنه انفجارٌ أشملُ مِن الثورةِ الذهنية الحاصلةِ في أوروبا، واستلزمَ جهوداً حثيثةً أكثرَ أصالة وإبداعاً. وقد بُرهِن تاريخياً على أنَّ القِسمَ الأعظمَ مِن المصطلحات والاختراعاتِ التي نستعملها اليوم قد اختُرِع وأُبدِع في تلك الحقبة.
من أهم النقاط التي توصَّل إليها العلم هي أن كل تطور لاحق يتضمن سابقه بالتأكيد. ذلك أن الاعتقاد بأن الأضداد تتطور بإفناء بعضها، ليس بصحيح. ما يجري في هذه القاعدة الدياليكتيكية هو أن الأطروحة والأطروحة المضادة تواصلان وجودهما ضمن كيان (تركيبة) جديد أكثر غنى. وسياق التطور الطبيعي برمته يؤكد صحة هذه القاعدة.
يتواصل تطور قيم الكلان داخل التركيبات الجديدة أيضاً. وكون مصطلحات المساواة والحرية ما تفتأ تشكِّل أسمى القيم في راهننا، فهي مَدينة في ذلك إلى واقع حياة الكلان. ذلك أن المساواة والحرية مخفيتان في نموذج حياة الكلان بحالتيهما الطبيعية، قبل أن تتحولا إلى مصطلح. وكلما غابت الحرية والمساواة، نجد هذين المصطلحين المستترين في الذاكرة الاجتماعية الحية يعبِّران عن ذاتهما، وبوتيرة متصاعدة، ليفرضا وجودهما مرة أخرى كمبدأين أوليين في مجتمع أكثر تطوراً ورقياً. وكلما توجه المجتمع في سياقه الطبيعي نحو الهرمية ومؤسسة الدولة، نجد هذين المصطلحين يقتفيان أثر هذه المؤسسات بلا هوادة أو رحمة. ولكن ما يقتفي الأثر هنا أساساً (مضموناً)، إنما هو مجتمع الكلان بذاته.
عليَّ التوضيحَ بأنه لم تَكُن الثقافةُ النيوليتيةُ تعاني من مشاكلَ جديةٍ من حيثُ الفصلِ بين بُعدَيها الأيديولوجيِّ والمادي، بل ولَم تُواجِه القضايا المتفاقمةَ إلا بعدَ ولوجِها مرحلةَ الانسداد، وعجزِها عن حمايةِ ذاتِها تجاه تَصاعُدِ المجتمعِ المديني. وهنا أَتَلَمَّسُ أَوَّلاً ضرورةَ شرحِ مصطلحِ "القضايا" الذي طالما جعلتُه عنواناً أساسياً. فحسبَ المعنى الذي استخدمتُه، يُفيدُ هذا المصطلح بِحالةِ الفوضى المتأزمةِ التي لَم يَعُد الفردُ والمجتمعُ فيها قادرين على الاستمرارِ بالثقافتَين الأيديولوجية والمادية. في حين أنّ الخلاصَ من الوضعِ الإشكاليِّ المُعَقَّدِ يعني الحالةَ المنتَظَمةَ للمجتمعِ الجديد بعدَ اكتسابِه بنيةً قَيِّمة. أما الثقافةُ الأيديولوجية – ومثلما سعيتُ لشرحِها كثيراً – فتُعَبِّر عن ماهيةِ الفاعلياتِ والوظائف التي سُخِّرَت لها البنى والمؤسساتُ والأنسجة، ومعانيها وأحوالها الذهنية. في حين أنّ الثقافةَ الماديةَ تعني القسمَ الظاهرَ والملموسَ من الوظائف والفاعلياتِ والمعاني التي اضطررتُ لتوضيحِها بمصطلحاتٍ من قَبِيلِ المظهر المرئي، الظاهرة، المؤسسة، البنية، والنسيج. وإذا ما حاولنا لَحمَها مع الكونية، فهي تَعمَلُ على البحثِ عن الثنائيةِ الجدلية لـ الطاقة – المادة داخلَ الواقعِ الاجتماعي، وتفسيرِها بموجب ذلك.
وعلى ضوءِ هذه الاصطلاحاتِ نجدُ أنه ما مِن أوضاعٍ تُهَدِّدُ الحياةَ فيما بين عناصرِ الثقافتَين الأيديولوجية والمادية للمجتمعِ النيوليتي، وما مِن أمورٍ تَبعَثُ على النزاعِ والشِّقاق فيما بينهما، وبالأخص في مراحلِ البناءِ والتَّمَأسُس. ذلك أنّ الأخلاقَ الاجتماعيةَ لا تَسمَحُ بذلك البتة. فالمُلْكِيةُ الخاصةُ لم تَجِد فُرصتَها في النموِّ بعد، باعتبارِها المؤثرَ الأساسيَّ المُفضي إلى التصدعاتِ الاجتماعية. وتأسيساً على ذلك، فتقسيمُ العملِ بين الجنسَين لم يَتَعَرَّف بعد على علاقةِ المُلْكيةِ والعنف. علاوةً على أنّ تأمينَ القُوتِ والكلأِ حصيلةَ النشاطِ المشتركِ لَم يَشهَدْ بعدْ المُلْكيةَ الخاصة. بمعنى آخر، فالجماعاتُ الصغيرةُ التي لم تَتَضَخَّمْ بعد – حجماً وعدداً – تَتَّسِمُ بثقافاتٍ أيديولوجيةٍ وماديةٍ مشتركة ومتماسكةٍ فيما يتعلقُ بجميعِ النقاطِ الآنفة الذكر. ذلك لأنهم اعتَبَروا المُلْكيةَ الخاصةَ والعنفَ من المهالكِ الحيويةِ القادرة على تدميرِ هذه البنى وإفسادها، وبالتالي، استَمسَكوا بالتقاسمِ المشترَكِ والمَشُورةِ الجماعية كقاعدةٍ ركن في أخلاقِهم لأنها المبدأُ الأولي المحافظُ على تَراصِّ المجتمعِ وتَماسُكِه. ونظراً لطبيعةِ مبدأِ المعاني هذا، فالبنيةُ الداخليةُ للمجتمعِ النيوليتي تَبدو منيعةً وملتئمةً لأقصى الحدود. ويَعودُ استمرارُها طيلةَ آلافِ السنين إلى هذه الحقيقة.
أما إذا قارنَّا الصلاتِ بين المجتمعِ والطبيعةِ آنذاك مع ما هي عليه في المجتمعِ المديني، فدَعكَ مِن وجودِ هُوَّةٍ فسيحةٍ بينهما آنذاك، بل إنّ التناغمَ والانسجامَ مع المبدأِ الأيكولوجي مستمرٌّ وبكلِّ قوة في كِلتا الثقافتَين. فاقترابُ الذهنيةِ من الطبيعةِ مُفعَمٌ بالقدسياتِ والألوهيات، ذلك أنهم يَنظُرون إلى الطبيعةِ على أنها حيويةٌ مثلُهم تماماً. فباعتبارِها سخيةٌ بِمَنحِهِم الهواءَ والماءَ والنارَ وشتى الأنواعِ النباتية والحيوانية والغذاء، فهي تُعادِلُ الإلهَ عندهم، بل وهي مِن أعظمِ عناصرِ الألوهية. ولطالما نَستَشعِرُ بعضَ البواعثِ القويةِ على اصطلاحَي الإلهِ والألوهية مستترةً في هذه الحقيقة. وبموجبِ هذه الشروح، بمقدورنا – وعلى نحوٍ أفضل – إدراكُ معانيَ ميتافيزيقيةِ الحياةِ الجماعية المتمحورةِ حولَ المرأةِ الأم، وما يَنُمُّ عنها من قدسيةٍ وألوهية. فمزايا المرأةِ المماثلةُ للطبيعة في الإنجابِ والتنشئةِ والشفقة والرحمة، ومكانتُها الرفيعةُ المجيدة في الحياة، تَجعلُها العنصرَ الأوليَّ للثقافتَين الماديةِ والمعنوية على السواء. أما الرجل، فدعكَ من أنْ يَكُونَ زوجاً لها، بل لا "ظلَّ" لِحُكمِه بعدْ على جماعيةِ المجتمع، ومن المحال أنْ يكون. فنمطُ حياةِ المجتمع لا يَسمَحُ بذلك إطلاقاً. بالتالي، فأوصافُ الرجل من قَبِيل الجنسِ الحاكم، الزوج، صاحبِ المُلْك، وصاحبِ الدولة تَتَمَيَّزُ بطابعٍ اجتماعيٍّ بحت، وكانت ستَتَطَوَّرُ وتَبرُزُ فيما بعد. فالمجتمعُ آنذاك كان يعني المرأةَ الأم، أطفالَها، وأشقاءَها وشقيقاتِها. ومن المحتمل أنّ الرجلَ المُرَشَّحَ ليكونَ زوجاً كان يُبدي نفعَه بمهاراتٍ أخرى عدا الزوجية، مثلَ الصيدِ وتربيةِ الحيوان والعنايةِ بالنبات على نحوٍ حَسَن؛ ليكونَ جديراً للقبولِ به عضواً. في حين أنّ حقوقَه أو مشاعرَه بالإحساسِ بأنه زوجٌ أو أبٌ لم تَكُ قد نَمَت كظاهرةٍ اجتماعيةٍ بعد. وعلينا ألا نغفلَ أبداً عن أنّ الأبوةَ والأمومةَ مصطلحان وظاهرتان وإدراكان اجتماعيَّان بالأساس، ولو أنهما ليسا خاليَين من الأبعادِ النفسية أيضاً.
من المهم سردُ الشروح في هذا المضمار بالاعتماد على الأسبابِ والدوافع الداخلية والخارجية. فلَربما كان تجاوُزُ الرجل لنقاطِ ضعفه، وتَحَوُّله إلى صيادٍ حاذق، وبلوغُه مكانةً منيعةً مع حاشيته الملتفةِ حوله؛ قد هَدَّد النظامَ الأمومي. كما يُحتَمَل أنْ تَكونَ مهارتُه في تنشئةِ الحيوانِ وتنميةِ النبات قد تَسَبَّبت في ذلك أيضاً. في حين أنّ أغلبَ مشاهداتِنا تُرَجِّحُ لدينا احتمالَ صهرِ المجتمع النيوليتي وحَلِّه بمؤثراتٍ خارجية. ولا ريبَ في أنّ هذه المؤثرات تَتَجَسَّدُ في دولةِ الراهبِ ومجتمعِه المقدَّسَين. وقصصُ أُولى المجتمعاتِ الحضارية في ميزوبوتاميا السفلى وضفافِ النيل تُؤَكِّدُ صحةَ هذا الرأي بنسبةٍ كبرى. فمثلما ذَكَرنا بشكلٍ مُبَرهَن، فثقافةُ المجتمع النيوليتي الصاعدة، وتقنياتُ الريِّ في الأراضي الرسوبيةِ السهلية أدَّيَتا إلى ظهورِ فائضِ الإنتاج الذي يتطلبه هذا المجتمعُ الجديد المتمدِّنُ بِالتَّمَحورِ حولَ فائضِ الإنتاج المتعاظم، والذي نَظَّم أمورَه على هيئةِ دولة، وحَقَّقَ منزلةً مختلفةً للغاية عن طريقِ قوةِ الرجل بالأغلب. والتمدنُ المتزايدُ يعني التبضعَ، الذي يَجلبُ بدورِه التجارة. والتجارةُ من جهتِها تَتَسَرَّب في شرايينِ المجتمع النيوليتي على شكلِ مستوطناتٍ كولونيالية، لِتَنشُرَ معها تصاعدياً التبضعَ والمُلْكيةَ وقيمةَ المقايضة (قيمةُ الاستخدامِ للأشياءِ Nesne هي السارية في المجتمعِ النيوليتي، في حين أنه تَسُودُ العطايا والهدايا عِوَضاً عن المقايضة)، وتُسَرِّعَ بالتالي من انفكاكِ وانحلالِ المجتمع النيوليتي. ومستوطناتُ أوروك وأور وآشور إنما تُبَرهِن هذه الحقيقةَ بما لا يَشُوبُه أدنى شك. لقد بَحَثَت الجماعاتُ دائماً ضمن أذهانِها عن الأشياءِ التي تلبي حاجتَها المادية، وهكذا رَغبَت في تطويرِها. وكانت همومُها الأوليةُ مُنصَبّةً على تأمينِ الغذاءِ، المأوى، التكاثرِ، والحماية. ولتلبيةِ متطلباتِ هذه الحاجاتِ الأساسيةِ عَمِلَت على الاكتفاءِ بما تَجِدُه من قُوت، والسكنِ في الكهوفِ والمغارات، وحمايةِ نفسِها على نحوٍ أفضل على تخومِ البحيراتِ وفي وسطِ الغابات، واعتَرَفَت بالأولويةِ للأمِّ المنجبة. ومع الزمنِ تَبدأُ ممارسةُ الصيدِ أيضاً. فدافعُ الحماية، والرغبةُ في التغذي على اللحومِ قد وَلَّدَ معه هذه الثقافة. لكن، بالمقدورِ ملاحظةُ بروزِ التوترِ والاضطرابِ منذ بداياتِ المجتمعيةِ فيما بين جمعِ المرأةِ للثمار، واحترافِ الرجلِ – بالأغلب – لممارسةِ الصيد، وتنامي التطورِ التدريجيِّ الثقافيِّ في اتجاهَين مختلفَين بينهما. أما هذا التطورُ الأحاديُّ الجانبِ في كِلَيهما، قد أدى إلى بروزِ ثقافةِ "الرجلِ الأسد" في أحدِهِما، و"المرأةِ البقرةِ" في الثاني، وتَزَايُدِ تراكمها رويداً رويداً. وهكذا تُوضَعُ لَبَناتُ أُولى المفاهيمِ الاقتصاديةِ المتباينة. تَبلُغُ ثقافةُ المرأةِ ذروتَها في العصرِ النيوليتي، وبالأخصِّ أنها مَهَّدَت السبيلَ لتصورِ حياةٍ أَشبَهُ ما تَكُونُ بالجنة، مِن خلالِ الغنى الوفيرِ من أنواعِ النباتِ والحيوانِ على (حوافِّ) سلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس. هذا التطورُ الاجتماعيُّ البارزُ بعدَ العصرِ الجليديِّ الأخير، أي ابتداءاً من أعوامِ 15000 ق.م، سيستمرُ في وجودِه كالنهرِ الرئيسيِّ.
الأمرُ الوحيدُ الهامُّ الممكنُ قولُه بشأنِ الرأسماليةِ ضمن المسيرةِ التاريخيةِ الطويلةِ للبشرية، هو أنّ ثقافةَ الصيدِ قد حَوَّلَت الرجلَ شيئاً فشيئاً إلى حاكمٍ مهيمن. وحسبَما تَمَّ تشخيصُه، فالثقافةُ النيوليتيةُ الراسخةُ في أعوامِ 10 آلاف ق.م يَغلبُ عليها طابعُ المرأة. فالانتقالُ في مرحلةِ القطفِ من الكهوفِ إلى الأكواخِ الأقربِ إلى الخِيامِ (بالقرب من الكهوف)، وزرعِ البذورِ النباتيةِ وإكثارِها؛ قد أدى مع الزمنِ إلى ظهورِ ثورةِ الزراعةِ والقرية.
ونلاحظُ من خلالِ جميعِ التنقيباتِ والحفرياتِ الأركولوجيةِ الجاريةِ في راهننا، أنّ هذه الثقافةَ قد تَطَوَّرَت بالأرجحِ في جميعِ أصقاعِ ميزوبوتاميا العليا، وبالأخصِّ في القوسِ الداخليِّ لسلسلةِ جبالِ زاغروس – طوروس (ثقافةُ منطقةِ برادوست، گرزان Garzan، أمانوس والسفوحُ الداخليةُ لجبالِ طوروس الوسطى، نوالي جوري Nevali Çori، جايونو، جميه خالان Çemê Hallan). وكان فائض الإنتاج يُدَّخَر، ولو بنطاقٍ جِدِّ محدود.
هذا ويمكن الابتداء بثقافةِ القرابين من هذه الحقبة. ومن المفهومِ أنْ نُلاحِظَ تَطَوُّرَ اصطلاحِ ما يُسَمّى بالآلهة، كمحصلةٍ لتقديرِ الجماعاتِ لهوياتِها وتبجيلِها إياها، وكأولِ تعبيرٍ عن امتنانِها إزاءَ العطاءِ المتزايد. فالعطاءُ يقتضي الحمدَ والشكران. ونظراً لاستنادِه في منبعِه إلى التطورِ التدريجيِّ في نمطِ التجمع، فإنّ إضفاءَ الهويةِ على الجماعة، السموَّ بها، الدعاءَ، العبادةَ والخشوع، ومنحَها على أنها التقدمُ المتصاعدُ للعالَمِ الذهني؛ كلُّ ذلك إنما يُشَكِّلُ عناصرَ ثقافيةً على عُرىً وثيقةٍ وغائرةٍ مع الثورةِ الزراعية. واللُّقى الأثريةُ تُؤَكِّدُ صحةَ هذا الرأيِ على نحوٍ صارخٍ وساطع. وبشكلٍ ملموسٍ أكثر، فاصطلاحا الإلهةُ – الأمُّ والأمُّ المقدسةُ عامِلان مؤثِّران في تأكيدِ صحةِ ذلك. وأشكالُ المرأةِ الواسعةُ الانتشارِ تأتي في مقدمةِ المؤثِّرات التي تُبَرهِنُ صوابَ هذه الحقيقة.
يمكن إرجاع الاقتصادِ من حيث المضمون، لا الاصطلاح، إلى هذا النمطِ من الادخارِ الحاصلِ – ربما – لأولِ مرة. فمثلما هو معلومٌ، فإنّ مفردةَ أكو – نوموس eko-nomos تَعني في اليونانية قانونَ العائلة، أو قانونَ المنزل. فقد ظهرَ الاقتصادُ مع نشوءِ العوائلِ الزراعيةِ الأولى المستقرةِ بالتمحورِ حولَ المرأة، والاحتفاظِ بالغِلال، وتخزينها ولو بنطاقٍ جِدِّ محدود، وفي مقدمتِها تلك المنيعةُ المقاوِمةُ للتَّلَف، بالإضافةِ إلى إمكانيةِ التخزينِ في المستودعات. لكنّ هذا الادخارَ ليس لأجلِ التُّجَّارِ أو السوق، بل لأجلِ العائلة. يبدو أنّ هذا هو الاقتصادُ الإنسانيُّ الطابعِ والحقيقيُّ الجوهر. فقد تَمَّ تلافي أنْ يَصِيرَ الادخارُ عامِلَ خطرٍ يهددُ بالطمعِ والجشع، وذلك عبر ثقافةِ العطايا والهدايا المنتشرةِ في جميعِ الأرجاء. ويبدو أنّ مبدأَ "المال يُعَلِّمُ الطمع" يتأتى من تلك الحقبة. إنّ ثقافةَ العطايا شكلٌ اقتصاديٌّ هامٌّ، ويتواءمُ مع نَسَقِ وتناغمِ تَطَوُّرِ الإنسانِ لأقصى الحدود.