لذكرى الرفيق الشهيد إسماعيل ديريك ( إسماعيل إبراهيم )...
مسعود قره تاش
ها نحن نسير ثانية. مرَّ هذا الشتاء بالسير غالباً. دخلنا إلى وادي عميق. تجري فيه مياه تدعى بماء الكاه (Kâh ) الطريق كان يمر من طرفي الكاه لذا فكان علينا عبور الماء لعدة مرات للسير مرة في الطرف الأيسر ومرةً في الطرف الأيمن. لدى عبورنا للماء كانت بعض الأحجار التي كنا ندوس عليها للعبور تتحرك وتترنح، حينها فإن الانزلاق والسقوط في الماء كان أمراً لا مفر منه. فنبتل من الرأس حتى أخمص أقدامنا إلا أن ذلك لم يكن يعيقنا عن مسيرتنا بأي شكل من الأشكال، إذ كنا نتابع السير بتصميمٍ وبخطوات أمينة نحو المكان الذي كنا نقصده.
أصعب المسيرات هي التي نسير فيها على الطرق الموحلة. بعد السير لمسافة نصف ساعة في الوادي وصلنا للمكان المحدد. انحنى الرفيق الذي يتقدمني ودخل إلى مدخلٍ صغير كان عبارة عن ثقب صغير مفتوح أسفل حجرٍ كبير، بعد المرور من دهليزٍ أو قنالٍ يقارب الخمسة عشر أو العشرين متراً تحت الأرض وصلنا إلى الغرفة التي يبقى فيها الرفاق. الجميع كان يجلس أمام التلفاز ويستمع بكل دقة وأذن صاغية للأخبار. كان حائط الغرفة محاط ومزين بنايلون أزرق، ويتوسطها مصباح يضيء وجه الرفاق.
جلسنا بعد السلام والتحية. كانت التطورات المعاشة في غرب كردستان من المواضيع الأساسية المتناولة ضمن الأخبار. الهجمات القائمة ضد الشعب من قبل العصابات التي تساندها الدولة التركية كانت ما تزال مستمرة. هذا وإلى جانب المقاومة التي كان يبديها الشعب بكل بسالة، فإن أعماله ونشاطاته بشأن إنشاء نظامه الديمقراطي أيضاً كانت مستمرة بحماس وعنفوان كبيرين. فالهجمات القائمة من قبل العصابات وحدت من صفوف الشعب الكردي وشدته للمقاومة. بحيث أعلن عن تأسيس سرية أخرى من وحدات الدفاع الشعبي YPG. تلقى الكريلا هذه الأخبار بسرور وغبطة لا يمكن وصفها. وقد اعتلت الابتسامة أوجه الجميع وساد الغرفة جو من الحماس والعنفوان والنقاش بهذا الشأن.
في هذه الأثناء لفت نظري رفيق قد غزا البياض شعره وترتسم مراسم الحزن على وجهه يجلس والصمت يغلبه على عكس الرفاق الآخرون. وقفته هذه شدت انتباهي كما الرفاق الآخرين. أطفأ الرفاق التلفاز بعد انتهاء الأخبار. قمنا بتغيير ملابسنا المبللة. وبعد شرب الشاي خضنا في غمار الدردشة والمناقشة. علمت من الرفاق بأن اسم الرفيق ذا الشعر الأبيض هو خبات (Xebat) والذي يعني بالعربية نضال. على الرغم من إن عمره كان يجتاز الأربعين إلا أن هيئته ووقفته الحيوية كانت مثل شاب في الثامنة عشر من عمره. سألته عن سبب حزنه وبقائه صامتاً على عكس رفاقه أثناء الاستماع إلى الأخبار. بعد هنيهة من الصمت وقد غمر الحزن والأسى عيناه مرة أخرى قال " إسماعيل" وتابع صمته ثانيةً. غمر الصمت حينها جميع الرفاق ولم يتجرأ أحد على كسره. إلى أن تكلم خبات وتابع قائلاً:
" إسماعيل هو من الرفاق الرواد لثورة غرب كردستان. فإن كان هذا الشعب ينهض بشموخ وإباء ضد الظالم والمستبد، ويسير في راهننا بخطوات أمينة وواثقة، فما ذلك هو إلا نتيجة النضال المرير والتضحية العظيمة التي بذلها رفاقنا الشهداء أمثال الرفيق إسماعيل. لذا فإن عدم تذكرهم في مثل هذه اللحظات يعد خيانة".
سألت من هو إسماعيل؟
إسماعيل هو شاب ولد في بداية عام 1960 في منطقة ديريك الواقعة في وسط حدود غرب وشمال وجنوب كردستان. هو شاب أسمر جميل ومبتسم الوجه. هو من قرية تل خنزير التابعة لديريك والقريبة من جبل جودي. بحيث يظهر جودي بكل شموخه وإبائه لسكان تلك المنطقة كلما رفعوا رأسهم. يدعونه بـ" جودي الأمنيات" " CudiyêMırada ". أي أن جبل جودي هو جبل مقدس بالنسبة لسكان تلك المنطقة. متى ما يرفع الناس رؤوسهم هناك يروون جودي واقفاً بكل احتشامه وجاذبيته. فترى جميع الناس يتحدثون إليه ويفضفضون بآلامهم وآمالهم وأمنياتهم له. وتسميته بـ "
جودي الأمنيات" وقداسته تعود لذلك.
تراءى جودي في مخيلتي بكل هيبته عندما كان خبات يروي عنه. حتى إن التفكير بجودي فقط يضفي روحاً مختلفة على الزمان، ويتمالك الإنسان روحاً مليئة بالعزة. كنت قد سمعت سابقاً أيضاً بـ قداسة الجبال عند الأكراد. إلا أن اتخاذ الكريلا الجبال كمسكن لهم قد زاد من هذه القداسة أكثر فأكثر، وفي نفس الوقت أحس في الوقت نفسه بشكل أكثر بأنه قد ألقي على عاتق الكريلا الذين اتخذوا من هذه الجبال المقدسة مأوى لأنفسهم مسؤولية ثقيلة.
"ولود إسماعيل في مثل هذا المكان القريب جداً من الأجزاء الثلاث لكردستان المجزأة إلى أجزاء جعلته يشعر بمآسي ومعاناة الشعب الكردي في كردستان عموماً. رحبت قريته واستضافت العديد من الكرد وحمتهم في محنتهم لأيام عديدة. ومرّ العديد من الثوريين من قريته للانضمام إلى ثورة فلسطين." الرفيق خبات كان متأثراً بالرفيق إسماعيل كثيراً، إذ كان يذهب بمخيلته إلى عالم آخر وهو يروي عنه. كان يعيش ويجعلنا جميعاً نعيش تلك اللحظات التي كان يذكر ويصف فيها الرفيق إسماعيل. سالت عدة دموع من عيناه. Bu damlalar içimize aktı حديثه كان يأخذنا معه، كما يأخذ النهر أوراق الشجر.
توقف خبات لوهلة وسأل: " هل توقفتم وجلستم مرة بجانب النهر ونصتم( استمعتم) إليه؟ توقف الجميع للحظة. تذكرت في تلك اللحظة النهر وهو مغطى ومملئ بالأوراق. وتابع خبات. قرية إسماعيل كانت قريبة من نهر دجلة. لذا كان إسماعيل غالباً ما يجلس عند النهر وينصت إليه. كان النهر يروي له الكثير من الروايات والقصص التي كانت تنقل إليه مآسي وصرخات الناس من آغري، وكليه زيلان، وموش، وبيران. كان يدلي ويعبر من خلال هياجه عن كافة المآسي مثل عبد الله زينكة وغيرها. كبر إسماعيل وترعرع على أصوات هذه الصرخات."
تذكرت سنين طفولتي وأنا جالس عند جدتي استمع منها لنحيب أغاني المغنين التي كانت تروي قصة عصيان آغري. كان خبات مثلهم الآن.
أدرك إسماعيل معنى ما يعاش بشكل أكثر في سنواته الجامعية. وبالتالي تطورت أبحاثه وميوله أيضاً. كان الرفيق إسماعيل يقوم بتعليم الحقائق التي كان قد تعلمها لكل من حوله بعشق وهيام كبيرين. بحث بلا كلل ولا ملل عن الحقيقة إلى أن تعرف أن تعرف على PKK. فرح وسرَّ كثيراً لدى تعرفه على PKK كما وكأنه قد رأى ماءً في وسط الصحراء. لذا سعى دائماً لبذل كل ثانية من ثواني حياته لأجل فهم وإدراك PKK التي انضم إليها. لقد كان من المنضمين الأوائل لـ PKK في غرب كردستان. قام بتسيير الفعاليات النضالية لمدة طويلة في غرب كردستان بعد الانضمام. روى الحق والحقيقة. ثابر وعمل بلا هوادة لأجل بناء وترسيخ ديمقراطية الشعب. فإن كان الشعب يسيل كدجلة في شوارع غرب كردستان اليوم فذلك يعود إلى الجهود الحثيثة التي بذلها الرفيق إسماعيل آنذاك. "
شعرت من الصميم بمدى كون صلة التاريخ مع يومنا ويومنا مع التاريخ تحيا بهذا العمق والقوة. كنت أذهب للحظة إلى تلك السنين. فالزمان والمكان كان كافيان بحيث كنت أُصبح للحظة عضواً من أعضاء YPG الذين كانوا يقاتلون ببسالة من وراء أكياس التراب في رأس العين، وأُصبح لحظة أخرى أنصارياً رافعاً وحاضناً للسلاح في جودي وبوطان. كانت خيالاتي وعواطفي وما كان يروى يصبحون نهراً واحداً ينبعون معاً...
" سار الآلاف من الشباب والشابات إلى جبال شمال كردستان للنضال والكفاح نتيجة نضال وكفاح تلك السنين. بحيث أن العديد من هؤلاء الأبطال قد سقوا بدمائهم الطاهرة بذور الثورة، وضحوا بأرواحهم في سبيل إنماءها.الجهود التي بذلها الرفيق إسماعيل في سبيل ضم هؤلاء الشباب والشابات إلى الثورة كانت كبيرة جداً. إذ بعد انضمامه لدورة تدريبية في أكاديمية معصوم قورقماز سار هو أيضاً بعشق كبير إلى جبال بوطان الشماء".
ذهب أولاً إلى ماردين ومن ثم إلى أروه فشرناخ. قام بدور الطليعة في تطوير الحرب والديمقراطية الشعبية عام 1989. وكان دائماً في مقدمة المطورين لحرب الكريلا في الجبال، والمنظمين للسرهلدانات المتطورة في شمال كردستان في نصيبين وجزيرة وكربوران.
إلى جانب ذلك قام كقائد ببذل جهود عظيمة في ترسيخ وتنظيم وتمأسس ARGK. تلك الأعوام كانت أعواماً مميزة بحيث كان الانضمام للثورة مكثفاً ويتم من الأجزاء الأربعة لكردستان. الجميع كان يعمل كل ما في وسعه لأجل المحاربة والعيش بشكل مشترك ومتلائم. الجميع كان يحب الرفيق إسماعيل لصفاته الحميدة هذه. لا يحب بعض الرفاق وبالأخص الرفاق الذين ينضمون من وسط قروي المثقفين، لأن المثقفين يتباهون ويتكبرون عليهم ويستصغرونهم، إلا أن الرفيق إسماعيل كمثقف وكقائد أصبح مثل الجميع فرداً من أفراد الثورة. أحبه الجميع لأنه عاش ورافق الجميع بشكل متساوي. كان مثال الرفيق الوفي المتواضع. وقفته هذه ساهمت في تعزيز صفوف الحزب وبالأخص نشاطه وفعالياته التي مارسها في منطقة قاشورا. كان يبقى هناك في تلك الفترة العنصر والعميل المسمى هوكر المسرَّب من قبل JİTEM إلى صفوف الحركة. كان هوكر ماكراً وخبيثاً للغاية. كان يتقرب من الشعب على أساس مآرب ورغبات TC. ممارساته ومواقفه ضد الشعب كانت مثل الكونترا. وقف الرفيق إسماعيل أمام هذه الممارسات البعيدة عن مواقف ومبادئ الحزب وواجهها ببسالة ومليتانية عظيمة. فأصبح بذلك المثال الذي يحتذي به رفاقه في الحياة والتعريف بالشعب والحق والعدالة. وأخيراً انكشفت حقيقة هوكر للعيان.
بعد ذلك انضم الرفيق إسماعيل إلى فعاليات منطقة وان- حكاري وناضل بنفس العزيمة لأجل تطوير الحرب والسرهلدنات في هذه المنطقة أيضاً. وأخيراً قام الرفيق إسماعيل بأخذ قيادة أو إدارة عملية الاقتحام في باشكلة على عاتقيه بتاريخ 26 حزيران 1990. هذه العملية كانت ناجحة تماماً لأن الرفيق إسماعيل كان قائداً ناجحاً بكل معنى الكلمة.
انضم الرفيق إسماعيل إلى قافلة الشهداء مع ثلاثة من رفاقه في تمشيط دخله في باشكلة أواخر صيف عام 1990. بحيث كان يأخذ مكانه في قيادة ARGK لساحة بوطان لدى استشهاده.
صمت خبات للحظة. ومن ثم قال " انتبهوا" كل المناطق التي ناضل فيها الرفيق إسماعيل هي الآن مثل قلاع صامدة لم تنهزم البتة. وها نحن الآن نرى وتيرة نضالات كل من ماردين، سيرت، شرناخ، وان وغرب كردستان. لماذا؟ لأن الرفيق إسماعيل كان كمدرسة. بالفعل كان مدرسة سائرة تثابر وتعمل ليل نهار وفي كل الأماكن والمناطق وفي كل الأوقات واللحظات لأجل خلق ديمقراطية الشعب.
لقد كان الرفيق إسماعيل مؤرخاً في الوقت نفسه. إذ كان يقوم بكتابة كل يومٍ يعيشه وعياً منه بأن كل يوم يعيشه هو ورفاقه المناضلون يحمل أهمية تاريخية. سطر لسنين طوال وفي تلك الظروف الصعبة والحالكة ذلك الصراع والنضال المرير في يومياته. لم يسطر الثورة فقط في يومياته، بل سطر الثورة في ذاكرتنا وذاكرة المجتمع. لقد كان إسماعيل حزبنا PKK الذي يعتبر "حركة إبراهيم المعاصرة".
صمت خبات ومد يده إلى حقيبته التي كانت بجانبه، وأخرج منها ألبوم الصور، قلب بين صفحات الألبوم وأخرج منه عدة صور الرفيق إسماعيل. كان الرفيق إسماعيل مبتسماً في كافة صوره. كان يبتسم كما وكأنه يرى الأيام الجميلة الحرة التي ستعاش.