تمكنت مثل الورود التي تمد جذورها في الصخور العتيدة من اجتياز كل المصاعب في مسيرتها التحررية دون أي تردد...
دجلة تاكمان
إننا ندخل العام الواحد والعشرين على ذكرى شهادة الرفيقة مزكين ( غربة أيدن) الممثلة لحجر الزاوية لبحث الحقيقة، والجمال والحياة المفعمة بالمعنى في جبال كردستان تلك الأراضي المقدسة المخفية في ثنايا التاريخ والباقية لنا من الإلهة الأم. الرفيقة مزكين أصبحت اسم التكوين والخلق الذي يخلق ذاته من رماده في مجرى تاريخ حرب المرأة الكردية التحررية. بهذه المناسبة نخلد مرة أخرى ذكراها ونقف بإجلال أمام نضالها التحرري العارم.
قام القائد آبو الإنسان العارف والحكيم في مسيرته للبحث عن الحقيقة بضم الفتيات الكرديات الباسلات الطموحات للحرية لمسيرته هذه. كسبت المرأة الكردية معنى وجودها وهويتها وإرادتها في هذه المسيرة. اتخذ القائد آبو وهو ما يزال في بداية مسيرته الفلسفة القائمة على أساس " طريق حرية المجتمع يمر عبر حرية المرأة " أساساً له، وتبناها كركيزة أساسية لإيديولوجيته وقوله بأن " PKK هو حزب المرأة" يبين هذه الحقيقة بكل وضوح.
علَّمت هذه الفلسفة المرأة كيف تتعرف على ذاتها وهويتها وتعتز بها كامرأة وتكون جسورة ومضحية في سبيل تحقيق حريتها. يمكننا القول بأنه يتم اليوم تسطير حكاية " امرأة العشق" من جديد في وطن الإلهة- الأم الخالقة والمكونة الحقيقية لهذه الأراضي التي لم تفقد قدسيتها البتة طوال آلاف السنين الماضية. خلقت المرأة ذاتها من رمادها من جديد على الرغم من الرجولة الماكرة والظالمة والسلطوية، وهي تكتبُ تاريخاً وملحمةً وأغنيةً لمستقبلها بكل عنفوان كما ولو أنها متعطشة للحرية. هذا التاريخ هو تاريخ المرأة الكردستانية، هو تاريخ الفتيات الكرديات الباسلات. هو تاريخٌ عظيمٌ يصعب التعبير عنه وكتابته. هذه المرأة هي ظريفة المرأة المتمردة التي لم تقبل بالظلم واللاحق والاستسلام أبداً. هذه المرأة هي بيريفان التي وقفت كدرعٍ في مقدمة السرهلدانات في وجه الأعداء، وقاومت بفدائية حتى آخر رصاصة. هذه المرأة هي ذكية آلكان التي ألهبت جسدها بنيران نوروز وانطلقت ككرة من النار على مصاصي الدماء. هذه المرأة هي فتاة النضال الأصيلة، الجسورة والمضحية، هي المرأة الحرة المرفوعة الجبين والتي تكنُّ الضغن من المرأة المستسلمة للعبودية والذل هي صارة الوقورة. هذه المرأة هي رفيقتنا مزين الإنسانة الحميدة التي تبنت بكل جوارحها وعواطفها وفكرها كل هذا الميراث الذي تركته لها بنات جنسها من قبلها. فهي كانت امرأة، وفنانة، وقائدة أنصارية متينة.
التعبير عن شهيدات وشهداء نضال التحرر الكردي هو بمثابة كتابة كتابٍ تاريخ بحد ذاته. وبالأخص فإن التعبير عن الرفيقة مزكين لا يعبر عن التاريخ فقط بل هو تعبير عن المرأة، الثقافة، الفن، الأخلاق، الانضباط، الكريلا، الريادة... وغيرها من الصفات الحميدة الأخرى.
أثر موقف القائد آبو المفعم بالمعاني على الرفيقة مزكين من الأعماق، فجعلها تحذو نهج النضال التحرري في مسيرتها للبحث عن الحقيقة. لم تحسب الرفيقة مزكين أي حساب لأي عائق خرج في طريقها وتمكنت مثل الورود التي تمد جذورها في الصخور الصلبة والعتيدة من اجتياز كل المصاعب التي واجهتها في مسيرتها التحررية دون أي تردد. عرفت المرأة من خلال قوتها وإرادتها وتمتعها بالجسارة والتضحية كيف تقف على أرجلها صامدة في هذه المسيرة. كما وأنها ألحقت ضربة مميتة للأذهان المتعفنة من خلال كسرها لكافة قيود وسلاسل التخلف والرجعية الموجودة في المجتمع.
تتعرف الرفيقة مزكين على نضال حركة التحرر الكردية عام 1982. يُنشـأ حبها وعشقها للوطن فيها عواطف وطنية قوية، مما يؤدي إلى انضمامها للنضال بشكل فعال ومؤثر. تذهب إلى ساحة القيادة في لبنان وتنضم إلى الدورة التدريبية في أكاديمية معصوم قوقماز. بعد انتهاء الدورة التدريبية يبعثها القائد إلى نضال ونشاطات الثقافة والفن لصوتها الجميل والمؤثر. إلى جانب ذلك تنضم إلى نضال وتنظيم اتحاد المرأة الوطنية الكردستانية YJWK. هذا وتلعب دوراً مؤثراً في تأسيس فرقة برخودان الفنية، كما وتأخذ مكانها في هذه الفرقة كعضوة أساسية. كانت الرفيقة مزكين بصوتها الجميل والمؤثر إلى جانب جدارتها التنظيمية والعملية صاحبة وقفة مليتانية وثورية عتيدة. أثرت وقفتها هذه على العديد من الفتيات الكرديات وحثتهن على الانضمام إلى صفوف النضال.
مما لا شك فيه بأن ما يعبر عن جغرافية وطني الجميلة، جباله الشماء التي يعشش فيها الصقور، سيلان أنهره دجلة والفرات الهياج، أصالة فُرُسِهَ وأحصنته، عصيانات شعبه، مآسيه، مخاضاته، آماله، رغباته، وعشقه للحرية، ما يعبر عن كل هذه الأمور بأفضل الأشكال هي الموسيقا الكردية. تعيش الثقافة، الحكمة، المقاومة، الأحزان، المآسي، الملاحم، قصص العشق والتمرد وغيرها من القيم الغالية المعاشة في التاريخ دون أن تنسى أو تضيع في الأغاني الكردية الكلاسيكية التي يرددها الفنانين. والفنانين العظام أمثال شاكيروا، عائشة شان، آرام ديكران الذين كانوا يتمتعون بأصوات خالدة في الموسيقا الكردية، جعلوا الثقافة الاجتماعية، والكونية، والمعنوية الكردية تحيا في أغانيهم التي نقلوها من خلال أصواتهم الحارقة للإنسانية جمعاء. الرفيقة مزكين أيضاً ومن خلال صوتها البلبلي الحارق الجميل كانت من اللواتي تقمن بذلك بأفضل الأشكال. شخصيتها المتميزة هذه جعلتها تتمتع بمميزات وخصائص فريدة وملفتة وجذابة للغاية. الرفيقة التي استطاعت أن تجسِّد هوية الفن الثوري، وتقوم بتمثيل قيادة الكريلا ومليتانية المرأة التحررية في شخصيتها بأفضل الأشكال هي الرفيقة مزكين. كانت الرفيقة مزكين بمميزاتها من قبيل التواضع، الثقة بالذات، الثقة اللامحدودة بالمرأة بأنها ذات قدرة وميزة ريادية في كافة المسائل والأمور وبأنها تستطيع إظهار وقفة نضالية ومقاومة في كافة الظروف والشروط، إلى جانب وقفتها التنظيمية قائدة مثابرة ومؤثرة.
الدور المناط للمرأة في كافة المجتمعات وبالأخص المجتمع الكردي معروفٌ. بحيث لم يكن يُقبل آنذاك ويُراد للمرأة بأن تحارب وتنضم لصفوف الكريلا والنضال وتقوم بالعمل الثوري البتة. كان يقال بأن المرأة ضعيفة، غير واثقة من نفسها، لا تقدر الاعتماد على ذاتها والوقوف على أقدامها، لا تفهم من المنطق العسكري وتكتيك الحرب أي شيء، بل لنترك كل هذه الأمور جانبا فقد كان ينظر للمرأة كعبء وثقل ومشكلة... وهكذا دواليك من وجهات النظر التي لا يوجد أي صلة فيما بينها وجوهر المرأة والتي هي ليست إلا تقرب بسيط يدل على التقرب والنظرة الجنسوية الرجولية. ناضل القائد آبو ضد هذه الإدراكات ووجهات النظر وبضمه للمرأة قبل كل شيء إلى صفوف النضال والحرب، طور إرادة المرأة وأخرج القدرة والطاقة الموجودة لديها للعيان من جهة، ومن الجهة الأخرى حطم القوالب المجتمعية الرجعية المتخلفة المنشأة بحق المرأة. أثبتت الرفيقة مزكين من خلال وقفتها الجسورة والمقدامة، إلى جانب منطقها القيادي الناجح والمؤثر في الحرب، أثبتت قوة المرأة وقدرتها في الوقوف ضد هذه الأذهان الرجعية والمتعفنة. وعلى أساسه يمكن القول بأن الرفيقة مزكين استطاعت وضع وإنشاء لبنات وأساس تجيش المرأة.
استلمت الرفيقة مزكين مهمة قيادة الإيالة – لأول مرة كامرأة – في إيالة ماردين عام 1989. كيفما كانت الرفيقة مزكين مؤثرة ومبدعة ومتواضعة في عملها الفني، فقد كانت مؤثرة ومبدعة ومتواضعة في مهمتها كقائدة عسكرية أيضاً. من المبادئ الأساسية التي يتخذها المليتان والكادر الحزبي في PKK هو المبدأ القائم على فلسفة " الاقتناء بـ لقمة و قميص". عُرف القيادة الذي يأتي من طراز قيادة القائد الفذ عكيد ( معصوم قورقماز) أيضاً يقبل و ينشأ نفسه على هذه الفلسفة ويقوم بتطبيقها في الحياة العملية. تقوم الرفيقة مزكين أيضاً على تبني هذه الفلسفة قبل كل شيء في مهمتها القيادية وتتخذها كمبدأ أساسي في حياتها الثورية، وعلى أساسه فإنها تلعب دوراً ريادياً عظيماً في مسيرتها النضالية على كافة الأصعدة الإيديولوجية والعسكرية والتنظيمية. الميزة الأخرى البارزة من بين المميزات التي تتمتع بها الرفيقة مزكين في حياتها الثورية هي حماية مقاييس ومبادئ الحزب. لم يكن يفتح ويسنح للمفاهيم و الإدراكات الرجعية المناهضة لنهج الحزب وإيديولوجية القيادة أي فرصة ومجال في المكان الذي كانت تتواجد فيه الرفيقة مزكين. وذلك لكونها كانت تقف ضد المفاهيم التصفوية براديكالية قوية للغاية، فهي بقدر ما كانت تعمل وتسعى لترسيخ نهج القيادة في شخصيتها، فقد كانت تسعى لترسيخ وتجسيد نهج القيادة في شخصية كل من حولها بالقدر نفسه أيضاً. كانت تتمتع بروح مسؤولية عالية في هذا الموضوع، وتعي بأن المرأة تستطيع لعب الدور الطليعي في هذا الشأن. بقيت الرفيقة مزكين وأخذت مكانها في نضال العديد من الميادين والساحات والإيالات مما أكسبها ذلك تجارب عظيمة في حياتها الثورية. تعمل هذه التجارب على أن يزداد ويتطور إدعاءها وارتباطها بالنضال أكثر بكثير. فهي بذكائها التطبيقي ووقفتها وأسلوبها المؤثر والجذاب كانت فنانة، وقائدة بكل معنى الكلمة.
كانت الرفيقة مزكين مسؤولة عن إيالة كارزان عام 1991. يمكننا القول بأن التعبير القائل: " بأن المليتان هو مليتانٌ بعمليته وطراز حياته" متجسد في شخصية الرفيقة مزكين. الروح الآبوجية هي الروح التي كونت الطراز الفدائي للعيان. جاءت الرفيقة مزكين إلى منطقة طاتوان (Tetwan) بهدف مراقبة نشاطات وفعاليات الجبهة فيها، فحُوصر البيت الذي كانت تبقى فيه من قبل العدو على إثر إخبار وذلك بتاريخ 11 أيار عام 1992 فاستشهدت فيه بعظمة وبسالة بعد أن قاومت وحاربت العدو حتى آخر رصاصة قد أطلقتها هي على ذاتها لكي لا تمسها أيدي الظلم والاستعباد.
احتلت الرفيقة مزكين مكانة عظيمة وكريمة في صفوف نضال الشعب الكردي التحرري، وأصبحت رمزاً لنضال المرأة التحرري، وقائدة باسلة يحتذى بها بين القادة والقائدات الباسلات. يعود المستوى الذي وصلت إليه حركة المرأة التحررية الكردية اليوم، إلى الجهود والتضحيات الجسام والقيم التي خلقها لنا شهدائنا وشهيداتنا العظيمات أمثال مزكين. فإن كان قد أصبح صوت المرأة الكردية صوتاً كونياً، فهو يعود إلى أغاني الحرية التي كانت الرفيقة مزكين تغنيها بصوتها الجميل الحارق للعالم. فإن كنا اليوم نتحدث عن السلام والحياة الحرة فهو بفضل الميراث النضالي الذي كونته لنا الرفيقة مزكين. لذا نحن ككادرات ثوريات سائرات على درب الرفيقة مزكين مسؤولات عن تحقيق وتطبيق آمالها التحررية. وعلى هذا الأساس نخلد مرة أخرى ذكرى شهادة الرفيقة مزكين في عامها الواحد والعشرين ونعد بأننا سنبقى مرتبطين بذكراها ونهجها التحرري حتى آخر قطرة من دمائنا. ونقول بأن الشهداء خالدون.