مقاومة ١٤ تموز هي روح PKK التحررية...
ورجان قلاووز
يحتل الرابع عشر من تموز المعروف بيوم شهداء " صيام الموت" مكانة خاصة في تاريخ نضال شعبنا الديمقراطي والتحرري. ولادراك هذه الحقيقة بصورة صحيحة اجد من الفائدة التطرق الى حقيقة نظام /12/ ايلول والسياسة المتبعة على الفرع الثاني من السجن العسكري.
هل فكرتم يوماً ان يُمنع لكم السعال والحك وطرف العين والنظر الى اليمين أواليسار، والقمل متعشعش في أجسادكم..؟ وهل يمكن لكم تصور نفسية ذاك الانسان المسجون في غرفة خاصة وهو يتعرض للتعذيب اليومي لشهور عدة..؟ هل تعرضت لمثل هذه الاشكال من التعذيب لعدم قبولك الخنوع والرضوخ ولانك تبنيت هويتك..؟
تخيلوا الان وانكم واحد من بين 120 شخص مسجونين في حجرة من حجرات السجن التي لا يزداد عرضها عن عدة امتار وكذلك طولها..! ومجرد خطا بسيط يرتكبه شخص من هؤلاء، يحكم عليكم جميعاً بالتعذيب مئة مرة في اليوم الواحد دون أي تفريق بين المذنب والمظلوم… أجل… اخذ الاوكسجين في سجن ديار بكر كان كافيا لان يغدو مبرر التعذيب والضرب، عدى ذلك يتبع التعذيب بدءً من الصباح مروراً بالظهيرة وصولاً الى العصر والمساء ولاسيما اثناء النوم الذي كان يشبه كل شيء عدا النوم.
في الفرع الثاني من السجن العسكري لديار بكر تتعلم النشيد الرسمي مع موسيقاه، خلال عشرة أيام حتى ولو كنت تجهل حروف اللغة التركية. كما ويمكنك تقديم تقييمك بتركيةٍ تخلو من الاخطاء، في غضون أيام قلة، طبعاً كل ذلك ناتج من الآلام المتمخضة عن التعذيب، الذي يفرض عليك كل ماهو خارج عن إرادتك.
يستحيل عليكم التفكير بالماؤى والنوم ولا حتى تنفس الصعداء، لان ذلك كان كفيل لان تتعرضوا لتعذيب يترك أثره على جسدكم حتى الموت. فرغم معرفتهم وادراكهم بضروريات هذه الحاجات، لمواصلة الحياة الطبيعية، لكنك ورغم ذلك تجده يعذبك باساليب بعيدة عن الاساليب التي يتبع على الحيوانات، لدرجة يصعب على العقل تصورها. مهما يكن فليكن، لتكن من انبل الاناس وأكثرهم احتراما واصالة، فهذا لا يحرك من شعورهم قيد انملة، بل وليس له اية مكانة في قاموسهم، لا فرق ولا قيمة ان كنت شيعياً او علوياً أو سنياً، فالمسالة تكمن في كونك كردي الاصل أولاً، وهذا ما يشكل الحلقة الاساسية في ديار بكر، ويزيد شدة التعذيب اذا كنت كرديا تؤيد القضية الديمقراطية والحرية الكردية. فيكفي ان تطالب بالديمقراطية حتى تتعرض الى مالم تشهده عينيك حتى وان كنت تركي الاصل، بل يزيد من التعذيب اكثر وذلك بتبرير المواقف الوحشية؛ انكم خونة وعملاء ولا أصل لكم… يجبرك على تقيئ الحليب الذي رضعتموه من امهاتكم.
نعم لا بد وان يكون ثمة هدف من وراء كل هذه الاساليب. الهدف الاساسي الذي ترمي اليه هذه السياسات هو التتريك، والاستغناء عن الهوية الكردية والتخلي عن كافة الانسانية التي تخدم شعبك وشعوب الشرق الاوسط. أي عليك قبول الخيانة وجعلها تاجاً لتضعه على رأسك رغماً عن إيمانك.
سعى نظام /12/ أيلول الى تحويل كافة أعضاء PKK الى دمية ليتسلوا بها كما تقتضي حاجاتهم الغريزية، ومن ثم عرضهم للمجتمع كي يكونوا عبرة لهم :" إنظروا، إنظروا إلى أحوال الذين عاهدوكم ببناء كردستان حرة، إنظروا وليكن عبرة الى كل من ينوي سلك هذا السبيل، وستتحولون الى وضع ما لا يحسد عليه احد اذا ما نطقتم بالكردية …".
اتبع نظام /12/ أيلول كافة الأساليب ليستسلم الكوادر الابوجيين طواعية، ومن ثم يخنق القضية الكردية بين جدران السجن الاربعة لديار بكر ودفنها تحت سبع طبقات من الارض. لم يترك أية وسيلة أو أسلوب كي يقول: لم أتبع هذا الاسلوب، اذ كان بوسعي اتباعه..". رغم كل ذلك إنصهرت سياسة نظام /12/ أيلول بنار مقاومة /14 / تموز وصيام الموت الكبرى، لم ينهزم اؤلئك المطالبين بالديمقراطية والحرية في الصراع، بل اؤلئك الذين سعوا الى تجسيد سياسة التتريك والانكار هم من خسروا المعركة منذ اللحظة الاولى.
أما الان فعليهم جميعا أن يدركوا تمام الادراك بأن ليس لهم مكان، لا في الدين ولا في الكتب ولا في اية فلسفة؛ انتصرت هذه القضية الانسانية في زمن كان النظام الظالم /12/ أيلول سائداً، والنتيجة التي سيصل إليه النظام القائم أيضا لن تكون بالمغايرة عن سابقاتها. لان الكرد، كرد بكل ماللكلمة من معنى. ولم يكن ثمة أمر طبيعي اكثر من ان يكون الكرد كرداً. فهل من المعقول ان يضحى الكرد تركاً، حتى ولو فرض عليه مثل هذه السياسات لن يقبل إلا الكرد، لكنه سيعلن عن استعداده لاقامة الصداقة والاخاء، أما أن يغدو تركاً فهذا ما لا يجب تامله من الكرد. المجئ على وجه الحياة بالهوية الكردية ليس ذنب الكرد، كما ان مجيء الترك بالهوية التركية ليس ذنب الترك. اذا لما يتعرضون الى هذه الاساليب الوحشية واللاخلاقية، أ لكونهم يطالبون بالحياة الحرة في وطن ديمقراطي..؟
اول رد على نظام /12/ ايلول كان من انسان تركي الاصل. أجل كمال بير هو أول من وجه صفعته الى هذا النظام الفاشي؛ هو أول من بدأ بالمقاومة وصيام الموت، ليعلن لكل نفس وحشي وفاشي: "توقفوا.. هذا جنون وتهور..".
كمال بير كان قائداً للشبيبة الثورية، درس كلية اللغة والتاريخ والجغرافيا، وبعد نقاش دام لنصف ساعة مع القائد آبو، قرر على تقديم مساهماته لنضال الحرية الذي بدءه الكرد، وردد في قرار نفسه" لا حرية الترك دون حرية الكرد". وهكذا احتل مكانه في أول مجموعة ثورية المعروفة بالابوجية.
الذين يعرفونه عن قريب يدركون جيداً، المستوى الثقافي الذي تمتع به الرفيق كمال بير، فليس من انسان جرى النقاشات معه وتحدث معه إلا وتأثر وإنضم الى حركة الحرية الابوجية. اغلب الناس يعرفونه بصفة الجندي المخلص، إلا أن هذا التعريف لا يعبر عن حقيقة الرفيق كمال بير تمام التعريف، لانه أسمى من كونه جندي مخلص، فهو إنسان إيديولوجي قبل كل شيء. كان متمكناً بعلم التاريخ. وقد كانت النظرية الاشتراكية العلمية نقية كالمرآة أمام ناظريه.
لنترك كل تلك الخصائص طرفاً الآن ولنلتف معاً الى جانبه الخطابي؛ كان صاحب خطاب قادر على تحريك الحجارة، قد يكون ذلك مبالغة وفق وجهة نظر بعض الشخصيات، لكن أنا واحد ممن تأثر بخطابه لدرجة لم أتمالك نفسي، فبعث فيّ رغبة جامحة في تسير الانشطة ليلاً نهاراً دون أن أشعر بالكلل أو الملل. نبرة صوته الناضجة كان يبعث الأمل والثقة في نفس الجماهير الصاغية. نعم… أحتل ماكنه في الصفوف الأمامية لمعركة مواجهة الفاشية. كان قائداً جاداً لا يعرف السكون ويشعر بالحاجة إلى عمل المزيد والمزيد.
له قلب يجتمع فيه حب الانسان والشعب ليغدوان جسداً واحداً. لم يترك شحاذاً ومتسولاً الى وتعامل معه وقرر في قرارة نفسه بان ياخذ بثارهم من اؤلئك الذين اوصلوا بهم الى هذا الحالة. فضلا عن كل ذلك كان يكن حباً شديداً لتركيا، بل كان حبه لتركيا كما حب المجنون، اذ كان يقول بين الحين والاخر" ليس لأي دولة أربعة بحور مثل دولتنا .. اتعلمون ذلك ..".
إعتقل كمال بير لثلاث مرات، لكنه لم يبوح بأي سر للظالمين، والصراع والكفاح الذي خاضه في سبيل القضية الذي اقتنع بها جعلت الجدار تذوب رغماً عن صلابته، وتعجز عن حبسه. حاول الهروب لكنه لم يتمكن من إجتياز عراقيل ديار بكر، لم يتخطَ جدار سجن ديار بكر ولم يخرج منه حياً.
كان من الاوائل الذي تعرضوا للتعذيب في سجن ديار بكر. رغم ذلك لم يتحرك من حروف حبه للشعب الكردي ولو حرفاً. فهو يعشق ويحب الكردية أكثر من الكرد أنفسهم. كان تركياً يتسارع من خطواته لاعاقة الاوليغارشية الناكرة للكرد.
الوحشية التركية أدت به لنْ يقول" أخجل من كوني تركاً" أو " هؤلاء ليسوا تركاً " بل أوغاد ليس إلا ". هو الذي قرر مع الرفيق محمد خيري دورمش قرار البدء بصيام الموت المعروف بـ 14 تموز، ليعيق بذلك سياسة التتريك والاستسلام الذي فرضه النظام الاوليغارشي.
فقد البصر في اليوم الخامس والثلاثون من أيام صيام الموت، لكنه لم يبح بذلك لأي من الرفاق كي لا يتأثروا به. لكن وبعد أن أدركنا المرض الذي أصاب به لم يكن في يدينا حيلة لننقذه من هذه الحالة. بعد مرور عدة أيام جاء الطبيب المختص بشؤون مرضى السجون ففحص الامر وقال" هل ترغبون الموت كونكم لا تحبون الحياة.. ان كان العكس صحيح، عليك التراجع من صيام الموت..". أجابه الرفيق كمال بثقة إصرار باديان : كلا … إننا نحب الحياة لدرجة مستعدين لأن نضحي بأغلى ما نملكه في سبيله..". أجل إجابته كانت فلسفية لانه في الاصل فيلسوف حكيم.
استشهد الرفيق كمال بير في يوم السادس والخمسون من العملية.
أما الان فلن أسال عن من هو البطل، الجميل والعظيم. لكن إذا كان هناك أحد راغب في أن يكون من أبناء الترك، فليأخذ الرفيق كمال بير مثالاً له. وإذا كان هناك من يريد أن يضحى ثورياً حقيقياً فكمال بير خير مثال للشخصية الثورية، وعليه احيائه لحظة بلحظة، وأن يكون صاحب قوة قادرة على إستقبال الموت كالفلاسفة.
على الانسان ان يقف ويفكر عندما يلفظ إسم محمد خيري دورمش. فهو قائد شعب يصعب التعبير عنه. لو أنه حبذ الحياة التقليدية لتمكن من بلوغ المستويات العليا. لكنه سد ابوابها وإنضم الى قافلة الابوجية بعد أن درس الدكتوارة في حجي تبه. كان هادئ كالبحر ومناضل ثوري مثقف ناجح في تربية ذاته، كذلك شخصيته الناضجة المتواضعة لدرجة يتأسف اذا ما داس شخص على النملة، يتعامل مع كافة الاجيال والاجناس دون تفريق، وله قدرة طارئة على خوض النقاش والحوار وجذب الجميع الى النهج الصحيح دون ان يصيب أي منهم بأي أذى او يشعر بازعاج. يتراءى لك للوهلة الاولى إنه شخصية عاجزة عن النقاش والحديث إلا أنه يجعل العيون والشفاه تبقى محتارة من أمره عندما يباشر بالحديث. كان آبوجياً حقاً، كثيراً ما تمنينا لو يتحدث هو ونصغي اليه نحن. لم يكن يتحدث عبثاً، بل كانت نقاشاته غنية وراكزة ولا سيما متواضعة الى جانب كل ذلك. لم يتصرف ويتحدث إن لم يكن لذلك حاجة. أي يكمنني تعريفه باللغة الشعبية القائلة" الانسان الكامل" بالمعنى الحرفي.
فالمتهور والمجنون يتحولان الى خراف، لمجرد سماعهم الى حديثه. أي كان له نضج يجعلك تبدي الاحترام له رغماً عن الوضع الذي أنت فيه. إذ كنا نتأسف في الوقت الذي كنا نتحدث بالحروف الكبيرة "بصوت عال" وهو موجود، ولا نتردد في تقديم الاعتذار له. وفضلا عن كل ذلك لم تكن تود مفارقته ولو للحظة. لذا لم تتفوه اية عائلة صاغية الى الرفيق محمد خيري دورمش بكلمة "ليذهب انه ممل"، بل على العكس من ذلك يقومون بكل ما في وسعهم لكسب إحترامه. يحبه العوائل أكثر من أبنائهم وكأنهم عثروا على من كانوا يبحثون عنه منذ زمن طويل ليعبدونه. أجل كان يتمتع بخصائص الانبياء. لا يلبس الا النظيف والمتواضع، رفيع القامة ذو ابتسامة خافية يتحث معك بلغة عيونه الألمازية.
في يوم من أيام زياراته الى العائلة في بنيغول يقول له والده:" أرسلتك إلى أنقرا كي تعود عليّ بشهادة الدكتوارة، ها أنا آرك الآن تعود لي كردي الاصل..". جاوبه بسكون ونضج لا مثيل لهما: "ما نقوم به الان ليس بعيداً عن وظيفة الدكاترة والدي، إنظر الى الوضع الذي يعانيه الشعب، هل تجد عضواً سليماً فيه..؟ أجل قررت أن أصبح دكتوراً لشعبي".
لم تكن الشخصية المنظمة هذه تأبه العراقيل والعقبات. لم يكن في يد الانسان ان يبقى في حيرة من امره، فالسكون والهدوء والتواضع والاخلاق والتنظيم كلها سوياً كانت تشع من عيونه وتنعكس على كل تصرفاته. كان خلاقاً وقائداً يشكل تنظيمه أينما كان. وليس من أحد لا يعلم أن الرفيق خيري شكل اللجان التنظيمية في كل مكان كان يذهب إليه.
هوالذي دوّن الشكل الاخير من برنامج PKK عام 1977. قلمه أيضا كان متواضعاً وجذاباً مثله تماماً. كان قلماً من النوع الذي يفرض عليك سبر أغواره. كان قائداً يجمع في شخصيته المفاهيم الديمقراطية والاكولوجيا بمعنى الكلمة. لم يقم بأية عملية مسلحة، لكنه كان المخلص والنشيط الذي يكتفي بصحن من البرغل وكأس من الماء ليخدم شعبه ويسعى الى بناء مستقبل حر له؛ هو ذا الذي كنا نبحث عنه دائما ولم نراه الا قليلا. فضلا عن تواضعه هذا كان يجاهد ليلاً نهاراً، يود تقديم كل مايملكه، فهو رجل السياسة بمعناه الحقيقي.
كان المسؤول الاول في سجن ديار بكر، وعمل كما تقتضتي مسؤوليته، كان بمثابة تنظيم حتى في أوقات عزلته. هو الذي أدرك الاهمية التاريخية والسياسية التي يتمتع به الدفاع السياسي الذي سيقدم أثناء المحكمة. لهذا تحمل كل الأساليب الوحشية وتحلى بالصبر. هو الذي عانى من التعذيب أكثر من أي واحد منا، إلا أنه كان فخوراً بقضيته ولم يتنازل عن كلمة نطقها سابقاً. بل كان مصراً على أن يلعب دوره أثناء المحكمة. ولم يجد النوم الى جفونه سبيلاً وهو منشغل بإعداد وثائق قضية شعبه. أصر على أن يشارك كافة المجموعات في المحكمة، ونجح في ذلك، وعارض كافة الاتهامات التي لا علاقة لها بالحقيقة، مع التأكيد على إصراره وعزمه في مواصلة مسيرة الحرية، ولم يتوان عن تصريح قرار البدء بصيام الموت في وجه المحكمة. فحتى في آخر محطات سفره ، أي في اكثر اللحظات قيّمة، عندما قدم حياته في سبيل حرية الشعب الكردي قال:" إكتبوا على شاهدة قبري بأنه مات مديوننا".
عندما يقف الانسان لينظر ويتمعن من جديد، لا يجد في يده حلية الا ان يقول" وا أسفاه ".
عاكف يلماز كان عضو من الاعضاء المستشهدين في صيام الموت /14/ تموز. كان من قارص وإنضم الى الحركة الابوجية من المنطقة نفسها، تتمتع شخصيته هو الاخر بالنضج والنشاط والكدح. كان مناضلاً لا يبخل على تقديم ما يمكله لرفاقه، رغم تواضعه وسكونه المكتظ بالمعاني، يتكفل بأصعب الاعمال، اما من حيث إلتزامه بالهدف وحبه للوطن، يمكنني التعبير عنه بكلمة واحدة لا غير وهو انه كان " مثلاً رائعا". يتراءى لنا وكأنه لا يحمل الحقد ورد الفعل، لان الحب كان مسترخياً في صميم قلبه. فحتى التعذيب الذي تعرض له في سجن ديار بكر، كان بالنسبة له أمر يجب استقباله بالتسامح، لانه نتيجة من نتائج الذهنية، لكنه كان ينسى هذا التسامح اذا ما بدأ بالمحاسبة الذاتية.
عندما كان طليقا حاول خطف الرفيق مظلوم دوغان من سجن ديار بكر، لكنه لم ينجح في عمله هذا، لهذا السبب لم يترك لنفسه مجالاً يعفو به عن ذاته، وإزدادت هذه القطعية بعد إستشهاد الرفيق مظلوم دوغان، ليس لكونه شخصية عاطفية، بل لان وجدانه لم يسمح له بالاغفار. جاء مدير السجن "بيرول شان "والسكر يغلب عليه، يتجول الحُجر، كان يحمل المصباح في يده، سأل الرفيق عاكف قائلا:
من أنت… ياو…
عاكف: أنا كردي.
ماذا يعني الكرد الذي تتحدث عنه..؟
عاكف: بنظرات حادة " انسان".
أخدوه إلى غرفة التعذيب في الليلة نفسها. تخلى عنه المسؤول ليحتل الاخرون مكانه ويواصلوا التعذيب. كان الحقد يشع من وجوههم رغم كونهم مذنبين. اما عاكف فكانت عيونه تشعا اصالة ويتمتع بتسامح لا يقدر.
قبل إستشهاده بساعات عدة يطلب من حارس واقف الى جانبه في المشفى العسكري. ربما كان هذا الحارس ابن الحلال وانسان طيب القلب. لقد جلب له كاساً من العصير بدلاً من الماء. عندما أمسك الرفيق عاكف وشرب الشرفة الاولى عرف طعمه انه جلب العصير وليس الماء، حينها لم يتمالك نفسه ليقول: طلبت منك كأساً من الماء، ألا تعلم بأننا لا نشرب الماء الحلو ونحن في فترة صيام الموت، لن أشرب شرابك". حمل الكاس ورماه على الارض لينكسر ويتحول الى مادة اخرى.
نعم هو الاخر.. كان ثورياً ملتزماً بقواعد عمليته حتى آخر نفسه، دون أن يتنازل عن أي شي. أما نحن.. فما مستوى التزامنا..؟ كم مرة في اليوم نتنازل عن مبادئنا وقرارنا وقواعدنا..؟ عشرة ، عشرون ام مائة..؟ وقد نكون في وضع يصعب علينا حسابه.
إن كنت راغباً في أن تكون إنساناً بمعناه الحق، فخذ مقاييس الرفيق عاكف يلماز المبدئية، الحريصة والمنظمة كخير مثال لك وماالباقي الا كلمات فارغة.
علي جيجك هو آخر من استشهد من بين شهداء 14 تموز. كان معروفاً بـ" النجمة الحمراء" من قبل الرفاق. وقد كان كذلك في الحقيقية. لم يكن يسترجى الانسان أن ينظر إليه. كان دائم الابتسام والنشاط، مفعم بروح عالية من المعنويات، وفضلاً عن ذلك كان ملامحه متناسقة وكأنه مرسوم بريشة رسام محترف. يعود أصله الى اورفا. إنضم إلى الحركة وهو لا يزال في مقتبل عمره. في الوقت الذي فر كمال بير من سجن اورفا، يقوم هو في الخارج بدور المرشد، أما الان فكلاهما يشاركان الغرفة والسجن نفسه.
كان مناضلا ثورياً، نفذ عمليات لاتحصى، وقد تم القبض عليه وهو مسلح ويحمل العديد من الوثائق السرية. الا أنه لم يقبل أي من الاتهامات؛ قيام بالعملية ولعب دور المرشد وحمل السلاح والوثائق. بناء عليه ترك لمدة تسعون يوماً بالكامل تحت رحمة التعذيب والمحاكمة والاستجواب. لم يقبل بأي تهمة عدى أنه إعترف بهويته الشخصية. وها هو الان يجبر على العدو ان يدوّن ملاحظاته التي أعترف بها بارادته وليس بقوة الضغط.
قرروا على ارساله الى ديار بكر. لكنهم ينوون معرفة امرا واحد من الرفيق جيجك، بناء عليه طرحوا السؤال التالي:" من منا كان هدفك هذه المرة، قبل ان نقبض عليك، ياعلي جيجك..؟".
رفع راسه وعيناه معصوبتان، وجاوب كلكم ياأوغاد….
هكذا كان علي جيجك. فهو لازال في الثامن عشر من عمره، لكنه كان ناضجاً أكثر من ذاك الذي يفتخر بنضجه. يحترم رفاقه ولا يتكبر على الأعمال التي ينجزها بنجاح، بل ولا يتفوه بها على الاطلاق. من هذه الخصائص تتكون تمثال المقاومة للرفيق علي جيجك.
كان من الاوائل السائرين في مسيرة المقاومة، وقد بادر على ذهنه فكرة الانتحار عندما قاموا بعزل رفاقه عن السجناء وسجنوهم في غرفة بيعدة عن الكل. بدأ بالاضراب عن الطعام بمفرده رداً على التعذيب.
علي جيجك هو أول من انضم من بين ستة رفاق الى قرار صيام الموت الذي أعلنه الرفيق محمد خيري دورمش في المحكمة، وطالب بحق الحديث من مسؤول المحكمة "امر الله قايا" بإصرار، وقال سوف أدلي ببعض تصريحات بالغة من الاهمية. وقد نجح في كسب حق الحديث بعد جهد جهيد. فعلي جيجك الذي لم يتفوه بكلمة اثناء المحاكمة نجده الان منتصب القامة مرفوع الراس وهو يتحدث قائلا:" يجب تدوين التاريخ بصورة صحيحة، وينبغي تفادي اتهام احد آخر التي قمت انا بها". وهذا تبنى مسؤولية كافة العمليات التي نفذت وواصل حديثه قائلا:" عملناPKK درس المقاومة وليس الاستسلام. بناء عليه أنا أيضاً أنضم الى عملية صيام الموت وسيكون هذه آخر المحاكمات التي أنضم إليها".
وهذا ماحدث بالفعل. استشهد الرفيق علي جيجك في الستون من أيام صيام الموت. كان كبير الابناء من عائلة فقيرة. كبر قبل آوانه، لأنه إكتسب رغيف خبزه بعرقه وجهده. أحب وطنه وشعبه وحاول الدفاع عن كل الحقوق المسلوبة منهم. فعل كل شيء لأجلهم. ودفع بنفسه تحت رحمة البلطة التي كانت تستهدف إبادة الشعب وإعاقه بجسده الناعم.
أجل… كان أغلب شهداء /14/ تموز لا يبلغون الثلاثون بل أكبرهم كان الخامس والعشرون من عمره، أي كانوا قادة في مقتبل أعمارهم. ولكهم كانوا يطالبون بالديمقراطية والحرية ويرفضون الانكار والابادة، ويسعون الى اعادة حياة يجمع صداقة الشعب التركي والكردي في كنف الاخاء والعدالة. إلا أن توازنات القرن العشرين واسسها الذهنية وحقيقة الانظمة أعاقت ذلك ولم يمنح لهم فرصة الحياة.
لم يفعلوا شيئا لخدمتهم الخاصة ولمنافعهم الشخصية، لم يتركوا لحظة الا وخضعوها لخدمة هذا الشعب وقدموا كل ما يملكونه من الامكانات التي تتمتع بها الشبيبة من الجهد والزمن والعاطفة والفكر والايمان والارادة في خدمة هذه القضية. لم يتفهوا ولو لمرة واحدة بجملة من قبيل:" ماذا سيحل بوضعي" بل قالوا:" مالذي كان بوسعنا القيام به ولم ننفذه لخدمة هذا الشعب". لانهم جميعاً كانوا رجال القضية… رجال الفكر… ورجال الايمان.
لو كانوا يملكون الامكانيات التي نملكها نحن اليوم لكانوا سيعملون ليلا ونهارا كي يحققوا الديمقراطية والسلام دون أي تأجيل في العمل، بل ولغدوا من القادة الحقيقيين لهذا الشعب. لان روح التضحية والفداء وحب العمل والتواضع والاحترام الذي تمتعوا به، كان من الخصائص التي بإمكانها تقديم مساهمات جمة ليومنا الراهن. والانكى من كل ذلك لانهم كانوا عشاق هذا التراب وهذا الشعب، وكذلك العكس صحيح.
فاذا كانت تركيا اليوم تناقش الحقوق وإعترفت بالكيان الكردي، لا بد وان الفضل يعود الى جهود اؤلئك الاناس الذين قدموا تضحيات بحيث يصعب على العقل تصوره. فعلى كل من سمع يهم وقراء سيرة حياتهم او سمع بهم الان أن يسأل نفسه: كي أنقذ تركيا من الوضع الذي آلت اليه الآن، إلى أي درجة فكرت وعملت وبذلت الجهود..؟ فعلى كل من يطالب بأن يكون تركيا محقاً وأن يكون مواطناً لتركيا وكل من يود العيش بالكرامة، أن يقارن أعماله مع الاعمال التي أنجزها الرفيق كمال بير ومحمد خيري دورمش ويرى الفرق الشاسع بينهما، وأن لا يتنازل للحياة الرخيضة البسيطة التي تخلو من القيم المعنوية الانسانية.