لذكرى الرفيق الشهيد رستم جودي...
بالة عومري
قالوا عليك أن تكتب عن الشهداء. إلا أنني عندما عزمت على كتابتك، بحثت عن الكلمات والتعابير التي سأبدأ بها الكتابة. غالباً ما سمعت بأن الكتّاب يكتبون عن الشهداء بقلق. بينما كنت أفكر عكس ذلك تماماً. إننا نكتب بقلق عن الأحياء. أنني دائماً ألاقي صعوبة في كتابة الحياة التي تنهي الكلمات وتتقدم لتجتاز حدود الأفق الموجودة. ألاقي صعوبة في كتابة الأمور التي تهزم الكلمات وتؤم إلى ما بعدها. في حين أنني كثير الارتياب والشك. أتذكر الماضي وأتمعن فيه طويلاً بعد كل كتابة أكتبها وأنظر إلى مدى ما تأخذني هذه الكتابة إلى تلك الأوقات. الحياة المعاشة هي مخزني الوحيد. بحيث لا أضيف شيئاً كثيراً، كما أسعى للحيلولة دون أن أبقي شيئاً ناقصاً. فكل ما أجهد إليه مبتسماً هو التعبير عن الحقيقة كما هي. يقولون بأن الكلمة والتعابير الجميلة تخلق تداؤُباً وحماساً بحيث يأخذ منها الكثير من الناس الإلهام. أيام معدودة وأنا ضمن بحثٍ لم أجد ولو كلمة واحدة من ما أبغيه من الكلمات. لهذا السبب كلما زادت الكلمات تقل المعاني المترسخة بذاكرتي، ولا أتوان عن التفكير بأنه يوجد للكلمات جانب سارق مذهل بالفعل. كلما أنظر للخلف أرى بأن المكان الذي أصل إليه - وكأنني ملصوق بالصخر- هو الذكريات التي تأخذني للماضي.
أنا أكتب بهذا الشكل. فالمعرفة ليست في الكتابة، بل هي أنني - حتى ولو لم أستحق ذلك- آخذ مكاني ضمن تلك الحياة التي لا مثل لها على وجه البسيطة. ما أسعى للتعبير عنه يشبه ما يوجد في مسرح الحياة التي يسعى فيها الموت والحياة سرقة الحياة من بعضهما البعض، لحظة الخطر التي يبقى فيها الإنسان على رمق من الموت. فتمر كافة القيم المتجسدة في الحياة واحدةً واحدة أمام عيناي. قبل عدة أيام كان مسرح الحياة هذا الذي بدأ في تلك اللحظات ينبعث ويشع كبريق نجمة، يعبر عن أجمل لحظات حياتي. وكأنه لم يمت، أو لم يفارقنا. حتى أن هذه اللحظات كانت تديم وجودها وتقف في مكانها كصفحات كتاب مقدس محال مساسه وهو على قيد الحياة. لكون هذه الحياة عائدة لهم، أعرف بأن المكتوب هو هم أنفسهم. أحب التعبير عن حياتهم بـ"العواطف المقاومة". أبين اهتماماً كبيراً لتكوين الديالكتيك التالي لدى كتابتي: كلي إيمان وثقة بأن طاقة الحياة الإيجابية تُصنع من جانبهم. فهم يشكلون الطاقة التي تضحي بذاتها لأجل نقل ماء الحياة للمجتمع.
يقول شاعر معروف في شعر نثري له باسم " رسائل إلى الكاهن" بأن ذاته هو شخص آخر، ألم يكن ما يقصده بتعبيره " أنني شخص آخر" هو تكامل ثنائية؟ فهو بقوله " أنني أفدي نفسي للمجتمع" في الرسالة الكاهنية التي كتبها لمعلمه قد بدأ ببذل آنته لأحد آخر. إذاً فإن القول " أنني أفكر" هو قول خاطئ، فعليه القول " يفكرون بي ". وهو ما يشير إلى أن كلمة " أنني أفكر" لا تكفي، وبالتالي يجب إبقاء "الآنا " للتعرض لعملية الآخرين، ولكن يمكننا مشاهدة إن الآنا تستطيع أن تجعل ذاتها عائدة للعالم من خلال " التفكير".
التفكير بأن البدن الذي يحيا يحبس الطاقة أو يضع الروح في القفص بحسب الإدراك الديني، يمكن أن يعبر عن هذه الحقيقة بشكل آخر. اللحظة التي تبقى فيها الطاقة حرة تعني اللحظة التي تحررت فيه الروح من القفص أيضاً. أفكر بهذه الأمور علماً مني بأن آلامنا تخف وتهدأ لدى العلم والإدراك بأن هذه الأمور هي حقيقة. فالألم والحرية هما مثل أخوين توأمين. لا وجود لأحدهما من غير الآخر. وفناء أحدهما يفني الآخر. وهو تماماً ما تعنيه ثنائية الشهيد والذين يعيشون لدينا. أنني أتحدث عن حياة عائشة وما تزال ذكراه في هذه اللحظة حية طازجة.
يتألم ويعاني الناس الكثير عندما لا تكون الحياة موائمة ومواكبة لتناغم الزمان. إذ غالباً ما ودع الناس هذه الحياة متخبطين في آلام ومعاناة هذه الدنيا المرئية التي نعرفها، دون أن تقول للقوة المعجزوية والمبهرة التي تقف ما وراء الجفن مرحباً. بالفعل فإن أخذ الإنسان القوة من روحه وعالم خياله وقوة قلبه لم يكن بالسهولة التي نعتقدها. لهذا السبب فقد أدرك البعض هذه الدنيا كالدنيا الظاهرة والمرئية، أما البعض الآخر فقد أصبحوا قتلت الأزمنة الموجودة لأجل الغائب أو الغير ظاهر. إلا أن الحياة وعلى الرغم من كافة نجاحاتها وهزائمها (صعودها، نزولها) استمرت في مسيرتها دون أي توقف.
أما عندنا فإن هذه الثنائية متداخلة لدرجة أنك تظن بأنهما توأمين. إضفاء الجمال لكل ما نراه وزرع الأمل في الروح قريب من بعضهما كما كريات pıhtıcıkları الدم اللائي يجرين في نفس الوريد والشريان. نحضن ابتسامات الأطفال الذين يبعدون عنا بالملايين متى ما تتعب الأيادي. ولدى ضيق وتبرم قلبنا نركض للجبال، للآمال والبراعم الجديدة. نملك أماكن لا يصلها الرصاص، مما نعزز الآمال بلا وقوف ضمن القلوب. بحيث لا يمكنك أسر هذه الآمال بأي شكل من الأشكال، ولا يمكنك رؤيتها في أي خندق يتم الهجوم عليه. أنها إيديولوجيةً وإيمانٌ مرتبط بالحياة، محال أن يُترك عَلَم الأمل في المكان الذي سقط فيه أبداً. فيكبر الأمل ويسمو الإيمان. ومع بزوغ فجر كل يوم نعمل بلا توقف لزرع بذور هذا الإيمان من جديد ضمن الأيام، ولكن أول الأمر في قلوبنا وذواتنا.
فَكر، بأن آمالك ستكون كبيرة وسامية لدرجة بأنك لن تشعر بالألم حتى ولو انقطعت رجلٌ من رجلك. فتديم السير لأجل آمال جديدة. إن إدراك ذلك ومعرفته والشعور به في روحك يعبر عن شيء واحد وهو جمع القوة الكونية في ذاتك. ديناميكية القوة التي لا يتم استيعابها فينا، ومنبع القوة وأمل الحياة وطموحها، والقلب الذي لا ينال منه أي رصاص ولا أي صاروخ أو غاز كيماوي، هي إيماننا وآمالنا. لا انتظر إدراك وفهم ذلك على الفور، فأنا أعي بأن إدراك ذلك لن يكون بالأمر الهين البتة. فقد أجتزت العديد من المراحل إلى أن تمكنت أنا ذاتي من فهم وإدراك العديد من الآمال. بحيث كنت أقول:" كيف يمكن أن يحدث أمراً كهذا، وأتابع بأنه شيء خارج عن نطاق الإنسان وبأنه يجتاز حدود طاقاته " والسبب في ذلك لأنني كنت أرى قوة الإنسان في عيونه فقط. كنت أؤمن بانتهاء الآمال لدى انتهاء رؤى الإنسان. إلا أنني وبعد كل خطوة خطوتها ضمن الجبال، رأيت من يحيا هذه الآمال. وأعطيت المعنى لذلك في قلبي بعد قيامي أنا أيضا بزرع الآمال الصغيرة في قلبي. لم أكن أعرف بأنني سأسمو بكرامتي يوماً بيوم في هذه الطرق الغابرة. والآن لدى محاولتي الكتابة كنت أفكر، كيف لي أن أعبر عن هذه الآمال والطموحات العظيمة ضمن هذه الأسطر. ولكني وصلت إلى قناعة بأنه يجب -حتى ولو لم أقدر على كتابة كافة الآمال- على الإنسان الشرب من مياه الأمل هذه ولو شفطة واحدة، والنظر لما بعد أفق العين.
الآن عندما أمشي على طرق خنيرة الرفيعة العائدة للأنصار والتي يسموها بـ ( patika بالتركية و şîverê بالكردية) ألتقي بالآمال العريقة التي ما تزال حية صامدة لا تأبه بمرور الفصول ولم يقدر الزمن على عتقها ( أن يجعلها عتيقة). لا أقدر العبور دون مقاسمتها ومشاركتها. وإلا فلن تفارق عيون الأطفال المتأملة مخيلتي. نعم هكذا هي مسيرة عشاق الحرية. لم يُرى حتى الآن جرح أعمق من جرح الحرية. الحياة الحرة تتطلب التضحيات، كل ثانية من الحياة تتطلب بدائل جديدة. أنك تركض نحو هذا الطموح رغم معرفتك لمدى التضحيات والآلام الكبيرة التي ستبذل على دربها. لأن هذا الطموح هو طموح الحياة الحرة. يجذبك دون توقف يدخل قلبك وفؤادك بشكل قرصاني دون أن تدري. يدخل خلايا دماغك كما وكأنها تبحث عن شعلة تضيء طريقها. لقد بات هذا الطموح مسيرة خالدة تنبع من تاريخنا حتى يومنا الراهن. لو إني قمت برواية أبجديات أول طموح للحرية فإن التكلم بالهمس ( بشكل سري كي لا يسمع أحد) ما تزال تخيف شاهِدِي تلك المرحلة. فالحياة ليست هينة بالطبع وبالأخص إن كنت تنادي بلا أو تسعى لمناهضة ما يعتقد ويقوله الآلاف " بأنه سيذهب مثلما أتى". ربما لا يدرك العديد من الناس معاني مسيرتنا الطموحة هذه، إلا أننا عرفنا هذه الطموحات وتعلمناها عبر الآلام والمآسي. لا يمكن أن تمحى من ذاكرتنا أبداً، لن تقف هذه المسيرة حتى ترى وجوه أطفالنا الشمس. بالطبع يمكنني التبيان كفرد بأنه قد يتعب البعض أو حتى يمكن أن يقع آخرون ولكننا كبرنا كطموح وكأمل. لا يمكننا حساب عدد الأمهات اللواتي تنبض قلوبهن في الجبال الآن أبداً. فقد توحدت القلوب على بحار التراب. لم تستطع أي حدود أن تفرقنا نحن وترابنا عن بعضنا البعض. بل إننا اتحدنا مع سمو وعظمة بحر هذا التراب. إنها مسيرة عظيمة في قلب هذه الجبال، مسيرة خالدة لدرجة إنها تُقلع الطائرات التي هي بعيدة عنا بملاينن الأمتار. لم يطلب أي مقابل شخصي مقابل الجهد المبذول في أي وقت من الأوقات. ما تركناه لأنفسنا هو السؤال ما الذي أكسبناه للمجتمع بعد كل عمل ونشاط قمنا به، أو ما هو مدى العواطف التي قمنا ببعثها وإحياءها؟.
سيستمر هذا وبهذا الشكل حتى النهاية. لدى بدئي بهذه الكتابة كنت قد استخدمت فاعل خفي هو " أنت". إلا أن الشيء الذي أردت تعبيره والتحدث عنه هو مؤلف منك. ما زالت ترتجف يداي لدى محاولتي لكتابة اسمك، بحيث لا أصدق أبداً بأنك استشهدت ورحلت عنا. نعم، رستم أخيراً استطعت حفر اسمك على صفحات هذه الكتابة. ولكن التحدث عنك يا رفيقي وكتابتك هو أمر صعب للغاية.
السنوات الأولى
كان يتحدثون عن خطيب قد زار المنطقة التي كانت قريبة من المكان الذي كنا نمارس الكريلاتية فيه. فقد كانوا يروون بأن كل من ناقش معه وحاوره أصبح وطنياً وبدأ بخدمة الثورة وأداء مهامه تجاه نضال الحرية. كنا نتلهف نحن أيضاً لرؤيته مثلما كان الشعب يرغب برؤيته ويتلهف لمعرفته. المكان الذي يدور فيه الحدث الذي أرويه لكم هو ساحات خورس وقزل تابة التابعتين لإيالة ماردين. اكتساب احترام الشعب وثقته وحبه كان هاماً للغاية في تلك الفترات، بالأخص أن تُدعى بالخطيب من قبل الشعب وتصبح موضوع حديثهم ونقاشاتهم لكان أمراً هاماً جداً. كان النضال في تلك المناطق والساحات يختلف بحسب المستوى الدعائي للرفاق المناضلين في تلك المناطق. إذ لم يكن مستوى تعرف الشعب للحزب في هذه المناطق التي كان يدخلها الرفاق واحداً رغم دخول الرفاق لجميع المناطق. اسم رستم كان يتداول كثيراً بين الناس. جهوده ومساعيه لأجل تعريف الحزب بالشعب، ومن ثم تطور مساندة الشعب وتأييده للحزب نتيجة تلك الجهود كان يؤثر على الرفاق الموجودين في الساحة ويزيد من وتيرة نضالهم وعملهم. كنا نشهد مع الزمن تغيراً وتطوراً كبيراً في أسلوب ولغة الناس الذين كانوا يعيشون في تلك المنطقة.
سمعت باسم رستم في تلك الفترات. لم تكن وسائل الإعلام متطورة كثيراً لدينا في ذلك الوقت. فمجلة سرخبون التي كانت مصدراً من مصادرنا لتوعية الشعب وتنويره لم تكن تصل للشعب بالسرعة المطلوبة أو بما يكفي ومتطلبات جميع جماهيرنا الشعبية في كافة المناطق. لذا فإن الرفاق أمثال الرفيق رستم ملئوا هذا الفراغ وثابروا بلا هوادة لتنوير الشعب وتوعيته. عندما كنا نمارس الفعاليات في سهول ماردين أتتنا رسالة تبين فيه بأنه ستأتي مجموعة من أسلحة BKC إلى وحدتنا لأجل إيصالها إلى وحدة الرفيق رستم التي تناضل في ساحة خورس. كان خريف عام 1991. كان عاماً ماطراً إذ بدأت الأمطار بالهطول مبكراً في ذلك العام مما كان يؤثر ويصعّب المسير جداً في السهول. بحيث تشكلت تلال صغيرة من الوحل بسبب فلاحة التراب الأحمر لدى غرس الغراس. كنت أتعب كثيراً وذلك بسبب صغر سني آنذاك إذ إن المسيرة التي لم تكن تمثل شيئاً بالنسبة للكريلا كانت بالنسبة لي مثل عائق يصعب اجتيازه. ربما كانت عادتي في اجتياز المصاعب عبر مقارنتها ومقايستها بمكان عالي جداً ميزةٌ تأتي من تلك الفترات. فحتى إن كنت تناولت قلعة ماردين التي كنت قد وضعتها أمامي كأصعب العوائق وأهولها، في أغلب كتاباتي كـ ديامون (diamon)، إلا أن الحقيقة هي أنه كنت أنظر إلى هذه القلعة التي كانت دائماً أمام أنظاري كمعبر ضخم جداً عبروه لن يكون بالأمر الهين. كل ما لدي كان يتمحور حولها. الأغنية التي كانت تجذبني كانت كالتالي: وكأن النجمة وجميع الأبطال الذين كنت أبغي الوصول إليهم واقفون خلفها يجذبونني. تجارب الحياة كانت تضيف المعاني إلى عالم وعي وتوسع أفقي. كنت أرى الرفيق رستم كحصن متين حول هذه القلعة. وصلنا إلى القرية بعد مسيرة طويلة ومنهكة قضيناها تحت المطر الذي كان يهطل بغزارة غمرت كل مكان بالمياه ما عدا القلعة. وميض مصباح البيت الذي كنا نقصده كان وكأنه يقاوم لأجل أن لا ينطفئ نوره من بين أضواء المصابيح الأخرى. عندما دخلنا إلى البيت لقينا ثلاثة رفاق كانوا ينشفون ملابسهم، فهم أيضاً كانوا قد وصلوا للتو أي قبل وصولنا بقليل. ثلاثتهم كانوا واقفين. أحسسنا وخمَّنا للوهلة الأولى بأن الرفيق الذي صافحنا وسلم علينا أولاً بعد أن وضع معطفه العسكري الذي كان يجلبه الرفاق معهم من لبنان من يده كان الرفيق رستم. فقد كان قد تكون لدينا عالم وعي وإدراك يمكننا من تحديد الاسم من الوقفة، والوقفة من الاسم. خلال النقاشات التي خضناها في ذلك البيت لفت انتباهي ميزة أساسية تركت أثرها العميق في مخيلتي مذ ذلك اليوم وإلى الآن بحيث كلما أرى الرفيق رستم تراني أغوص لذكريات تلك اللحظات. إذ أدركت حينها بأن الآبوجيين ليّنيين في الحقيقة وإن صلابتهم تظهر في مواقف وأماكن معينة فقط. يمكننا أن نبين بأن هذه هي ميزة يتميز بها عامة كوادر PKK، ولكن يمكنني القول بأن هذه الميزة كانت متحدة وشخصية الرفيق رستم أكثر من أي رفيق آخر. كلماته كانت تنسل كسائل متزحلق وكأنها مغسولة بشمع العسل تترسخ في دماغ الإنسان. المقاومة تجاه كلماته كانت صعبة للغاية. رأيت أشخاص قلائل من الذين يستخدمون الكلمات بذلك الإتقان والجمال الذي كان يستخدمها هو. إنه لأمر غريب جداً بأن ميزته هذه هي نفس و أول ما لفتت انتباهي فيه في أعوام 94 أيضاً، بحيث كنت أعدُّه وهذه الميزة جسداً واحداً.
التقيت به بعد ثلاثة أعوام في ريف نصيبين وبالتحديد في المكان الذي كنا نسميه أومرا بنافا (Omerya panavı). كان يتم تفريغ إيالة كاب (GAP). إذ كان يأتي الرفاق المرشدين من باكوك في كل يوم تقريباً لأخذ الرفاق. لطافة الأسلوب التي كان يتمتع بها الرفيق رستم كانت قد ترسخت في شخصيته وأكسبته روحاً ملئها التواضع. علامات الحزن كانت تبين ذاتها على وجوه جميع الرفاق بسبب إفراغ المنطقة. إلا أن التعابير التي كانت على وجه الرفيق رستم كانت تحمل معاني مختلفة جداً. لقد كان مسؤول المنطقة في ذلك الوقت. إلا أنه كان بما يعيشه من روح مسؤولية يحمل عبء الإيالة بأكملها، بحيث كان يفكر دائماً بما يجب فعله للتمكن من العودة مرة أخرى للمنطقة. الرفاق الذين لم يكونوا يعرفوه كانوا يظنون بأنه شريد. إيالة كاب (GAP) كانت تشكل جنوب ماردين. لم يكن هناك فرق جدي من الناحية الجغرافية بين منطقة أومريان التي التقينا فيها وبين ساحة خورس التي جاء منها. كانت تتواجد وحدات الكريلا بمستوى السرية في أومريان. بحيث كانوا يقدرون على التحرك والقيام بالعمليات بكل سهولة. كان الرفيق رستم متفائل للغاية بحيث كانت ترتسم تعابير الغبطة على وجهه.
لقد كان متمماً بكل معنى الكلمة.
رأيت الرفيق رستم في ساحة مافا في أعوام 95. فبعد ذهابه من كاب إلى بوطان، يبقى لفترة قليلة في بوطان ومن ثم ينتقل إلى مافا كمسؤول على المنطقة. الأمر الأكثر لفتاً للانتباه في شخصية الرفيق رستم في هذه المنطقة هو كونه متمم جيد للغاية. إتمام الآخر أو إتمام ما هو ناقص وضعيف وتقويته وإكماله يعتبر أمراً صعباً لدى الأكراد. هذه الميزة التي نرى انعكاسها ضمن الحركة بحيث كانت قيادتنا توجه الانتقادات بهذا الشأن دائماً مؤشراً " إلى أن العدو يقوم بجمع أقوى رجاله وقيادييه ليشكل منهم وحدة تصبح أقوى بكثير". جميع الرفاق كانوا يرغبون بالنضال والعمل مع الرفيق رستم أو كانوا يتمنون بأن يبقوا في المنطقة التي كان يبقى فيها. بحسب ما أتذكر فقد كان الرفيق رستم مسؤولاً عن الجبهة وفعاليات الساحة السياسية الأخرى في مافا. كانت أكثر مراحل النضال نجاحاً بالنسبة لمنطقة مافا. كان الشعب يلقبونه بـ " خوجة" أي بالمعلم لقد كان الرفيق رستم تماماً مثلما رأيت وسمعت عنه لأول مرة. كانت هذه الأعوام هي الأعوام التي سعى العدو فيها فرض سياسة الانحلال والصهر بكثافة. أي يمكن القول بأن عام 96 كان عاماً هاماً بالنسبة لنا وللعدو في الوقت نفسه. ضم الأعضاء والمقاتلين الجدد للنضال، تأمين الحاجات التموينية للأنصار كان أمراً شاقاً وعسيراً في هذه الأعوام. ففي الوقت الذي كان فيه تأمين الحاجات التموينية للمنطقة التي نتواجد فيها صعباً، فإن الرفيق رستم تمكن من ضم مقاتلين جدد إلى صفوف الحركة، وعمل على تلبية وتأمين حاجات المناطق الأخرى التموينية أيضاً. بالفعل كانت هذه الأعوام أعواماً لم تعش وتعاني فيه إدارة المنطقة من أية قضية. أصبح الرفيق رستم أحسن مثال لنا في العمل والنضال بشكل جماعي وتعاوني.
كان واحداً من الشخصيات التي أدركت ورسخت البراديغما بسرعة.
انتقل الرفيق رستم بعد المؤتمر السادس إلى ساحة روسيا. ألتقينا في مؤتمر الشعب الثالث. كان قد ضعف من الناحية الجسدية. إذ كان ينحف عندما كان يفكر كثيراً. كنا نعرف وضعه هذا سابقاً. كانت مميزاته القائمة على التعمق المكلل بالمعنى وخلق التطور في ذاته يوماً بعد يوم ومرحلة تلو الأخرى بارزة للغاية. وكأنه عادةً يخرج كل كلمة من ماء جان الذي يذوبها ويحللها، فتفكيره غالباً ما كان يحمل معنىً وجوهراً عميقاً. كان يمكنك رؤية مدى تفكيره الجدي للغاية من خلال نظرة واحدة ليس إلا. لذا فإن أخذ فكره بشأن أي موضوع كان يعطي النتيجة في كل الأوقات. كان يخوض نضالاً عارماً وجدياً إلى آخر درجة. الجميع كان يعرف بأنه ذا قدرة عالية من الوعي والمعرفة والتجربة العملية وهذا ما كان يساعده على خوض أي نضال مهما كان. لذلك لم أرى في يوم من الأيام بأن أحد قد أعترض على نقاش أو حديث أو أي فكر قد بينه الرفيق رستم، فالجميع كانوا ينصتون ويستمعون له ويوافقون رأيه.
لم أرى أحداً يكتب الملاحظات عندما كان الرفيق رستم يعطي الدروس، إذ إن رفيقاً من الرفاق كان يقول: " إنني لا أكتب الملاحظات وذلك لأنني إن كتبت الملاحظات لربما ذهبت عليَّ بعض كلماته وأنا لا أريد أن أفوت كلمة واحدة من ما يتحدث به الرفيق رستم". فقد كان يلتقط التناقضات الموجودة في أعماق الدماغ والتي تصعب على الإنسان الاعتراف بها، فيريح الدماغ كما وكأنه الدواء. جميع الرفاق سواء كانوا جدد أو قدماء، مثقفون ومتعلمون أو لم يكونوا كانوا يتأثرون بالرفيق رستم كثيراً. فأي فكر كان يقدمه ويطرحه على الرفاق، كان يوضح ويزن أي فكر كان في ذاته أولاً ومن ثم كان يقدمه ويطرحه على الرفاق. لم يكن يرتاح البتة إلى أن يتمكن من تحليل فكر ما من جميع جوانبه. إذ أن اقترابه للبراديغما كان بهذا الشكل. في الحقيقة كان الرفيق رستم يتميز بإدراك مرن ووعي متفتح منذ البداية. فنضاله بين الشعب جعله يتمتع بطراز تفكيرٍ مرن يحضن كل فئات المجتمع. لدى فهم حقيقة المجتمع بشكل جيد سنرى بأن قوانين المجتمع الطبيعية الداخلية ذات فكر اجتماعي يعمل على بهذا الشكل. الفكر الاجتماعي هو طبيعي ويأتي من أعماق الطبيعة. عندما يتم قراءة حقيقة الإنسان القائمة على إتمام ذلك جزءاً جزءاَ على ضوء هذا الديالكتيك الطبيعي لن يتم إيجاد الصعوبة كثيراً. الرفيق رستم كان يتقن لغة المجتمع هذه ويؤّمن تطبيقها في الواقع العملي بشكل صائب. بدأ بهذه الخطوات للسبر في أغوار البراديغما الجديدة وإدراكها وتطبيقها في الوقت نفسه. أخذ على عاتقه أصعب المهام في مرحلة البناء الجديد لحركتنا. انتخب ديواناً بأصوات عالية لأكثر المؤتمرات طرءاً وحساسية. وحقق انضماماً فعالاً لنشاطات اللجان والهيئات التي كانت تناقش على نظام KCK من حيث أبعاد البرنامج وجانبه التنظيمي بحسب البراديغما الجديدة. كان يجذب أنظار الجميع على ذاته من خلال نقاشاته العميقة ولسانه اللطيف والحلو كالعسل. كان صعباً التفكير بالمؤتمر من دون الرفيق رستم.
مرضه الثوري.
كلما نظرت إلى الرفيق رستم كان يخطر على بالي ما قاله الرفيق عباس بشأن رفيق كنا نحبه كثيراً بأن: " مرضه هو مرض الثورة. من غير الممكن أن يتحسن هذا الرفيق طالما لم ينتهي الأسر المفروض على القائد". ومرض الرفيق رستم كان يذكرني بهذه الحقيقة دائماً. يناقشون كثيراً لأجل طبيعة الإنسان على تأثير جذب طاقة الحياة والموت لبعضهما البعض على الخلايا والحجرات. فحتى لو كانت العلاقة فيما بين القلب والعقل موضوعاً للأدب والفن، فإن للتضاد الموجود بينهما جانب يولد ويزيد ويقوي الخلايا بحسب مبدأ الجذب والدفع. هذا التثبيت العلمي، كيفما يؤدي قيام فنان لدى عزفه على أية آلة عازفة باستخدام عقله وعواطفه بنفس العمق والكثافة على الآلة إلى الموت المبكر، فإن الثوارت لها نفس الميزة أيضاً. انعكاس قلبٍ قد وضع في كف اليد على ما يسمى بالوجدان والضمير هو شكلٌ آخر لحياةٍ شفافة. الرفيق رستم صاحب القلب الحكيم والفني المرهف كان قوي وعميق الحس. فقد أحس وشعر مبكراً بأنه ستحدث وستعاش بعض التخريبات في الحزب. أكان من الممكن أن لا يتأثر الإنسان الذي يدعي ذاته بأنه وجداني وذو ضمير أمام التخريب الهادف إلى هدر قيم الثورة التي قام القائد بخلقها بجهد وكدح عظيمين، وتشتيت الآمال والخيالات التحررية؟ بالطبع لقد تأثر. في الحقيقة فقد بدأت أمراضه الجسدية بعدما تطورت هذه الأمراض ( التخريبات ) ضمن الحركة.
يقول نيتشه:" الأمر الذي لا يهضمه الفكر لا تهضمه المعدة أيضاَ". هذا ما يعني في الحقيقة بأن أمراض الأمعاء والقولون غالباً تكون نابعة من مثل هذه الحالات. إنني من الأناس الذين يؤمنون بأن العقل الجميل، البسيط والصائب والمتعود على السمو والنبل يجذب جسد الإنسان نحو ذلك أيضاً. ومنه يمكن التعبير بأنه انضم للحياة أو عاشها كفنان بكل معنى الكلمة.
مثالٌ للنصرٌ في مسيرة القائد آبو الإنبعاثية.
فتحنا أيدينا للزمن في العديد من الأوطان التي كانت بدون تراب. أما الزمن فكان دائماً بعيداً عنا، في أرضنا. ربما كان جانبا المدفون أو المأسور هو ترابنا. لأن التاريخ كان يتبرعم ويثمر في الأرض. كان يتورد، ويضفي اللون للإنسان في الأرض. الأرض هي أم أصيلة. لذلك، كيفما أن البذور تبدأ بالنمو في حال لمسها للتراب، وكيفما يشبع الماء من التراب يرى وجوده ضمنها. ولهذا فإن تاريخنا هو جوهرنا الذي يحيا.
القائد آبو عبر عن ذلك بتعبير جميل قائلاً: " إنني مزوبوتامي". فما هي التعابير التي تخطر على بالنا بشأن هذه الشخصية العظيمة إن أردنا وصفها بجملة واحدة:
إنسان الأرض الناضجة هو ما يخطر على بالي دائماً.
الشمس الأولى، أول نور القمر، أول تراب نبع فيها الماء ببركة، وشكل النبات الأول هو ما يخطر على بالي.
العقل الأول، الطفل الذي قطع من حبله السري وخرج من الطبيعة يخطر على بالي.
أول تقديس وتجريد للإنسان الذي يفكر بشكل حسن وجميل وصائب لأجل الإنسانية هو ما يخطر بالي.
أول إنسان نهض ضد الظلم والاستبداد هو ما يخطر على بالي.
النبي أيوب الذي قال لنمرود:" أنك تؤلم الناس" هو ما يخطر على بالي.
القدرة على ترسيخ وتجسيد كل ذلك في شخصياتنا هو ما يجعلنا مزوبوتاميين. ومنه فإن الخلق والإبداع في شخصية كهذه يعني النصر المؤزر. الجميع كانوا يرون ذاتهم فيه ويرغبون أن يكونوا مثله في موضوع الانضمام للحياة وإعطاء المعنى. مع علمي بأنني عرَّفتُه وعبَّرتُ عنه القليل جداً ولكن رفاقي الذين بقوا معه في الأجزاء الأربعة من وطني يعرفون ما أعنيه وما رغبت في أن أرويه عن الرفيق رستم. نعرف بأننا قصّْرٌ في التعبير عنه. في الحقيقة بحياته جعلنا جميعاً نصمد ونفكر عميقاً،عميقاً كيف لنا أن نرويه. فالأفضل أن نصفر الكلمات ونسطر فقط بأن رفيقنا رفيق الدرب رستم الذي هو الحياة كان إنساناً جميلاً. كان حبيب الشعب الكردي عامةً.
تركت أيام جميلة لرفاقك ورفيقاتك ضمن الحياة. ذهبت فجأة وبشكل لم نقبله أبداً. ذهبت طائراً مبتسما بوجه الملائكة. ذهبت تاركاً لنا الأغاني. ستكون هذه الأغاني هي ما ستذكرنا بمسيرتك في مروج خنيرة الخضراء وأنت واضعاً جمدانتك البيضاء والسوداء على رأسك.
لن ننسى أغاني محمد شيخو " Aman dılo " وفرقة برخودان " emé bûka xwe suwarkin " التي تبعث ماء الحياة في القلوب. نعرف المعاني التي أعطيت لهذه الأغاني من قبل خيرة القلوب من شبابنا الذين تحدوا الحدود بلغة هذه الأغاني متجهين نحو الشمال من شخصية الرفيق رستم. نعم، بت أدرك الآن معاني هذه الأغنيات أكثر و بشكل أعمق.
نعترف بأننا لم نقبل بشهادتك. فحتى لو كانت شهادتك قسمناً للنصر، حتى ولو حفرنا شهادتك التي تركت لنا الحياة الرفيعة والفنية في قلوبنا مثل صوت موسيقا الطنبور التي كنت تعزفها، فإننا لم نقدر على تقبل شهادتك ورحيلك عنا. أتوقف قليلاً بعد كل جملة أكتبها، لأتابع كتابة الجملة التي تليها. كل جملة أكتبها تشعرني برحيلك الذي لم نتعوده، وكأن كل كتابة تصبح وداعاً خجولاً.
يقولون بأنه هناك كتابات وأشعار مكتوبة عليك. هكذا يظهر تعريف النضال ذاته القاسي والصلب ذاته. يتراكض الشعراء للمساعدة. هم من يذكروننا بهذه الجمل:
ليس النسيم من يسقط الأوراق الصفراء
صوت هذا النسيم ليس من غابات الحور
يسحب قلبي الصغير الآهات
يرتجف مثل أوراق الخريف
نعم رفيقي رستم، أكتب هذه الأسطر باسمي. لأنني أعرف بأنك - قبل خبر ذلك اليوم- قد كتبت في قلوب الآلاف من الذين عرفوك بعض الأشياء. إنني أفتقد للأيدي الماهرة والمبدعة التي تقرأ ذلك حرفاً حرفاً وتحولها من سائل إلى حبراً بنفسجي. فأنا ألاقي الصعوبة في تعريف مشاعر قلوب الأمهات في سريه كانية وباغلار ( آمد)، ومن هناك الكريلا التي تقذف برصاصة الانتقام على قمم جبهة زاب. سأترك ذلك وأجتاز لتبقى هذه المشاعر فيما بينكما. بهذا الشعر سأصبح شريكاً لما سيبقى فيما بينكما.
تعزية
أنني أعرف، بأنكم بقيت كالأطفال اليتامى
ليرحمكم الله أيتها الكتب
فمن ذهب وودع كان صديقاً حميماً لكم، كان حبيبكم العزيز
ولكنه لم يذهب إلى عالم آخر
أفتحوا له المكان بسرعة فهو عائد إليكم.
ليرحمكم الله أيتها الأنهار والجداول
أعرف بأنكم لا تستطيعون منع دموعكم
هو أزرق، أخضر، أبيض
هو دموعكم الحلوة والمالحة
ولكن أريد مجدَّتي
لقد أصبح نهراً، جدولاً
بل أصبح نهر الأنهر، وجدول الجداول
النهر الذي ينبع بالحب
قريةً بقرية، ووادياً بوادي على سطح الأرض.
ليرحمكم الله
أيتها العصافير الطائرة في السماء
ليرحمكم الله
أنتم أيضاً أيتها النجوم، وأيتها النملة
أيتها الأشجار، القمم، الوديان، الينابيع، الطرق والورود
ليرحمكم الله جميعاً أيتها الدنيا!