رفيقي العزيز عنترعلمت اليوم بأن اسمك الحقيقي هو عبد الله

عنتر .. أبطال بعيدون عن أمهاتهم .. وأمهات سلبت منهن البكاء على أبناءهن...

 الشهيد خليل داغ

 نهر الزاب  يتحدث عنك ...سمع مياه الزاب الأعلى هذا بأنك استشهدت اليوم في ديرسم،لا أدري فيما لو رأيت نهر الزاب ،  كم أرغب لو أنك رأيته في ذاك الوادي الأصيل وسمعت صوت جريانه المهيب، لكن ممن سأسال الآن ..؟ كيف سأعرف هل رأيت الزاب أم لا..؟.

 يحكي الزاب لكل منّا شيء ما ، يعطيه ذكرى ، نعم عزيزي  حين تجلس على أطرافه تسمع صوت عشق الإنسان القادم منذ آلاف  السنين،  تسمع بالقرب منه أغاني القلوب الغارقة في أحزانها، حين تنظر إلى جريانه سترى مئات المارين ،الآتين والذاهبين ، وكلهم شهود عيان ، ستستمع لكلهم ،  يروي الزاب حكاياتهم ،  وتتردد على تموجاته حكايات العشق التي أعمارها آلاف السنين ،  وعلى أطرافه توجد الكثير من الإشارات ، الروايات ، وحكايات الراحلين الباقين في قلوبنا و ...

النهر يعرفك ...

هذا المساء جلست على صخرة تطل على نهر الزاب كما كنت أفعل ذلك قبل عشرة سنين ،  كنت أريد أن أسمع من الزاب حكاية صديق قديم ،  لكنني تفاجئت أن هذا النهر  سيروي لي حكايتك ، سيتحدث عنك ، وسيرسمك على تموجاته المهيبة، أين التقيت بنهر الزاب لا أدري..؟  يبدو أنه في مكان بعيد هنا التقيتم ،  يبدو أنك شربت الماء من نبعة تصب فيه، أو غسلت عرق وجهك كما يفعل الآلاف من الكريللا في جدول من جداوله،  إنه يعرفك،  سمعت منه وفيه بأنك استشهدت في ديرسم، همس بصمت :

 استشهد عنتر .....   يصمت كل شيء .. يحزن الجميع ..يستمر الزاب في الحديث وهو يبكي ..

أنا ذاهب ، كنت أود أن نلتقي مرة أخرى

تذكرت الآن الرسالة التي كتبتها لي قبل أن تذهب إلى ديرسم،  كنت أحتفظ به في الجيب الداخلي لمعطفي ، لأنني أحتفظ دائماً بكل ما يكتبه الرفاق لي، أفتخر جداً بلغتك التركية المنهمكة لكنها تحمل بينها الكثير من الكلمات الصادقة،  والآن اشعر وأن رسالتك التي في جيبي ستزيد من حضوري وفخري وثقتي بنفسي،المسافة قريبة بيننا طالما أنني أحمل ورقة بخط يدك، والآن اشعر وكأنك تعيش معي

مددت يدي لجيبي وأخرجت من بين الموجودات رسالتك حصراً، كانت مطوية ومبللة قليلاً بعرقي اثناء المسير،  وكان حبره قد توزع قليلاً،  لكنها كانت تفهم بشكل جيد ، كانت واضحة ،  وحين قرأت الرسالة  صمت نهر الزاب ، وبدأ يستمع هو ...   بدأ يستمع إلى كلماتك النادرة فهو مستمع  جيد ويهتم بكل الرواة، ربما لا نتحمل نحن البشر كل شيء، إلا أن مياهه الخضراء النادرة تتحمل الكل وتستمع للكل، قلبه مفتوح للجميع...

 كانت هذه الجملة على رأس رسالتك : " أنا ذاهب ، كنت أود أن نلتقي مرة أخرى "

آه .. وأنا !!!  ليتك تعلم كم كنت أرغب في رؤيتك .. هل تعلم كم !!؟

 لو تعلم كم حزنت لأنك غادرت منطقتنا دون أن ألتقيك،  والآن يخلق نبأ استشهادك مع صوت الزاب في نفسي العواطف نفسها،   أرى في تموجاته شعرك الأبيض، وأتذكر مزاح الرفاق معك حين كانوا يقولون لك أنك قد " ختيرت يا عنتر " ، لكنك أخبرتني وحدي بأن شيب شعرك أمر وراثي ،  وحين ينظرالمرء إلى عينيك كان يرى فيهما كم أنت شاب،  كانت عيناك تلمعان في وجهك الشبابي ، كنت تبتسم  لهم من بين شفتيك بسكون وهدوء.

عنتر ( قبضاي ) حتى لحظة استشهاده

لماذا سميت نفسك بـ عنتر ..؟  فكرت بذلك كثيراً ...نهر الزاب أخبرني الحقيقة هذا المساء .. عنتر يعني ( القبضاي ) أو ( الفطحل ) ،  ربما كنت تتشاجر كثيراًعندما كنت طفلاً، ربما لم  تعد إلى  منزلك يوماً دون مشاجرة، ربما نادوك بـ ( عنتر ) منذ ذلك الحين ،  كلما تشاجرت وتحدّيت ترسخ هذا الاسم في الأذهان،  حتى أن كل الناس قد نسوا اسمك وبدأوا ينادوك بـ عنتر ،  وقد بقي اسمك ( عنتر ) حتى  في الجبال  وبالفعل كنت ( عنتراً )  ويبدو أنك أنت الآخر أحببت هذا الاسم كثيراً ، تستمر  في العيش مع هذا الاسم.

ولكن الحقيقة أننا  لم نشهد أية مشاجرة منك ، دعك من هذا يا عزيزي ، لم أسمع يوماً أنك دخلت في نقاش سلبي  مع أي رفيق ،  حتى أنك لم تغضب يوماً ... عجباً !!  كم عشت بيننا بتواضع  عزيزي عنتر ،  نجحت  بتواضعك  هذا في زرع اسمك كصخرة في قلوب رفاقك،  إذاً كنت تخبئ المشاجرة إلى حين وصولك إلى جبال ديرسم،  وكنت تنتظر موتك في اللحظة التي تشاجر فيها ...

نعم كل هذا يرويه الآن ذاك النهر المجنون ،   يتحدث عنك  -أنت – الذي تعيش في قلب الزاب...

 لم أشبع منك  رفيقي العزيز،  لكننا عشنا عواصف ذاك الخريف معاً،  عشنا حكايات جميلة ، وكنا معاً في حرب الجنوب تلك..  في تلك الليالي القارصة كان يستفيد كل واحد منا من دفئ الآخر،  دارت قطعة الخبز اليابسة بيننا فضل كل منا أن يأكل الآخرتلك القطعة من الخبز،  أنا عرفتك بهذا الشكل ... وأحببتك بهذا الشكل ...

من أين إلى أين ... (  تربا سبي و ديرسم )  ..

وأنا أقرأ رسالتك حاولت أن أتخيّل رحلتك من تربا سبي إلى جبال ديرسم .. مروراً بأوربا .. أيه .. من أي إلى أين ..!؟

 رحلتك  كانت في وقت عصيب ، حين تاجر الجميع بشعبنا وقضيتنا ، وحين اخترت أنت أن تقوم  بصون هذه القيم ، رحلتك التي تتوهج من بين هذه الصخور كلهب  بين  ظلمة معتمة .

 افكر بنظراتك المتلهفة في تلك الجغرافية  الجميلة ، الجغرافية التي ودّعت الحياة فيها،الجغرافية التي عشت فيها آخرشجارمن مشاجراتك... لكن المشاجرة  والحرب  لم تنتهي  يا عنتر .. لم تنتهي .. لن تنتهي حتى لنرى العرس .

 افكر بعنتر الشاب الذي يتحدّى هذا العصر، هذه التجارة ، وهذا التاريخ المهين، افكربعنتر القبضاي الشاب، أو كما قال عنك أحد الرفاق : ( عنتر المثقف الأشيب الرأس..  ) .

 رفيقي عنتر :

لقد التزمت بخيالات أطفال شعبك،التزمت بخيالاتنا كلنا، أريتنا كيف يتحقق ( الدفاع عن شعب ) ، أظهرت لنا كيف يكون ( الصدق ) ..  علمتنا كيف يكون (  الوفاء للشعب ) .

عنتر .. أبطال بعيدون عن أمهاتهم .. وأمهات سلبت منهن البكاء على أبناءهن..

افكر بأمك الآن .. تلك المرأة البيضاء الشعر التي في تربسبي أو في مكان  آخر لا أعرفه ..  ربما لم تسمع بعد بأن عنتر  قد استشهد ،  ربما لا تعرف أن شعره الأبيض قد تلون بلون الدماء ، وربما تصنع لنفسها خيالاً في كل ليلة  يحكي لقاءها بـ عنتر  مرة أخرى ..

هذا هو وطني ... لا نملك حتى حق أن تبكي أمهاتنا على جنائزنا...ولا تملك  الأمهات حق أن نذرفن الدموع على تراب  قبورنا .. 

لأجل أناس لا يعرفون حتى أسمائنا ..

 أنت من عرفت أن تموت في سبيل أناس بعيدين لا تعرف حتى أسمائهم ، وتلمّس الأناس الذين لا يعرفون حتى اسمك  جسدك ، احتضنوك

عنتر  أصبحت  محارباً في الجنوب ،  واستشهدت ودفنت في الشمال ،  ولدت في روجافا،  الآلاف من الذين لا يعرفونك أحبوك .. احتضنوك ،  وانتفضوا لأجلك..

أليس من يروي الديار القاحلة  و يسقي البراري العطشى و يبلل القلوب الجافة  هو هذا النهر ..؟ ،إنني أتركك له ،  أتركك للمياه التي   تحتضن هذه الجبال منذ آلاف السنين دون أن تخون، أليس هذا النهر هو من يحكي حكايات أجمل الأنهار وأعتى المعارك ، أتركك له ليبلل  شعرك الأبيض.